بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

كابوس الليبرالية الجديدة في قطاع الغزل والنسيج

إن انتصار عمال المحلة في إضرابهم المهيب، الذي يعد أكبر تحرك عمالي منذ إضراب عمال كفر الدوار في 1994، لا يمثل فقط نقلة نوعية في الحركة العمالية المصرية وفضحاً للنخب السياسية القزمية. بل هو أيضاً يمثل بداية مرحلة جديدة في الساحة السياسية المصرية. ففي الوقت الذي يستعد فيه النظام المصري لتعديل الدستور لصالح رجال الأعمال، والبدء في هجمة سريعة من الخصخصة، تصفي ما تبقى من القطاع الصناعي العام، وتتوسع لتشمل التأمينات والمعاشات والتعليم. في هذه اللحظة بالذات يهب عمال المحلة، وهم عمال أكبر مصنع في القطاع العام، بل أكبر مصنع من حيث العمالة في العالم العربي والقارة الأفريقية، وينتزعوا مطالبهم ليس فقط من إدارة المصنع ولكن من تحالف شمل وزارة الاستثمار والقوى العاملة والداخلية واتحاد العمال المتواطئ.

علينا أن نضع هذا الإضراب في سياق المعارك القادمة، والتي سيحاول فيها النظام ليس فقط تقليص حقوق العمال في الأرباح والحوافز، بل تشريد غالبيتهم استعداداً للبيع والتصفية. ولأن عمال شركات الغزل والنسيج الكبرى هم الأكبر عدداً وتركزاً والأعلى من حيث الخبرة النضالية فيما تبقى من القطاع العام الصناعي، تتخذ نضالاتهم الحالية أهمية استثنائية.

حصاد عشر سنوات

هناك اليوم 38 شركة غزل ونسيج تابعة لقطاع الأعمال العام، تعمل في كافة مراحل الإنتاج من الحلج إلى الغزل إلى النسج إلى إنتاج الملابس. هذه الشركات توظف أكثر من 120 ألف عامل، وكلها يتم تحضيرها الآن إما للبيع أو التصفية وعلى رأسها شركة المحلة. وخلال السنوات العشر الأخيرة، تم خصخصة عدد كبير من المصانع خاصة في قطاع الملابس. من هنا أصبح القطاع الخاص يستحوذ على أكثر من 70% من هذا القطاع. وفي قطاع النسيج، أصبحت نسبة 40% من الصناعة مملوكة للقطاع الخاص. أما قطاع الغزل فهو الاستثناء الوحيد حيث ما زال 90% منه تابع لقطاع الأعمال العام. وفي كل حالات الخصخصة تلك، شاهدنا نفس السيناريو من تشريد لغالبية العمال وتكثيف لاستغلال من يتبقى منهم، مع حرمانهم من الحقوق والمكتسبات والامتيازات التي تحققت عبر عقود من النضال.

ومنذ بداية التسعينيات، ومع نجاح بعض البلدان الأسيوية خلال العقدين السابقين في دخول أسواق التصدير العالمية لمنتجات الغزل والنسيج والملابس، بدأ النظام المصري في الحديث عن تحولات جذرية في السياسة الصناعية تحول مصر إلى “نمر على ضفاف النيل”. مؤكداً أن صناعة النسيج بحكم حجمها وتاريخها ستلعب دوراً رائداً في ذلك التحول التاريخي. كانت الخطة بسيطة: التخلص من غالبية العمال (فالعمالة “الزائدة” هي سبب كافة المشاكل)، ثم بيع المصانع للاستثمار المحلي والأجنبي، ثم تسهيل عملية التصدير من خلال علاقات النظام المتميزة بالغرب ثم الانطلاقة.

لكن سرعان ما تحولت تلك الأحلام إلى كابوس. فإذا نظرنا ببعض التفصيل لإنجازات نظام مبارك في مجال اقتحام الأسواق العالمية للنسيج، سنجدها لا تختلف عن إنجازاته في مجال السكك الحديدية والنقل البحري وتنقية مياه الشرب. فمنذ بداية التسعينيات، انخفض نصيب مصر من صادرات الغزل والنسيج العالمية من 0.53% عام 1990 إلى 0.2% عام 2004. أما صادرات الملابس فظلت تراوح مكانها عند نسبة 0.12 الهزيلة. وبالنسبة لنصيب الصادرات المصرية من المنسوجات للسوق الأوروبي فانخفض من 2.2% عام 1995 إلى 0.5% عام 2004. أما الملابس فقد انخفض النصيب المصري منها من 0.4% إلى 0.3% في نفس الفترة. والأمر يسير في نفس الاتجاه بالنسبة للسوق الأمريكي، حيث انخفضت نسبة الصادرات المصرية في نفس الفترة من 0.9% إلى 0.8% بالنسبة للنسيج وظلت راكدة عند 0.6% في الملابس.

هذا كله قبل البدء بإلغاء نظام الحصص في بداية 2005، والذي كان يضع حداً للصادرات الصينية والجنوب شرق آسيوية لأوروبا وأمريكا. ومنذ ذلك الحين والرأسمالية المصرية ونظامها يلهثان وراء أي وسيلة للحفاظ على وجود ما في السوق العالمي. وتشير العديد من الدراسات إلى أن عدد المصدرين في السوق العالمي للمنسوجات والملابس سينخفض من 60 مصدراً عام 2006 إلى عشرة مصدرين في عام 2010، وسيكون في مقدمتهم بالطبع الصين والهند.

أما اتفاقية الكويز، والتي دافع عنها الكثيرون كمخرج أخير لأزمة صناعة النسيج، فكما أوضحت الاشتراكي في عددها السابق (محمد واكد: بين السطور)، فإن هذه الاتفاقية، إلى جانب كونها تسوق للسلع الصهيونية الغارقة بدماء الشعب الفلسطيني، فإنها لم تفد سوى عشر شركات كبرى مملوكة لكبار رجال الأعمال من أصدقاء عائلة مبارك، ولن تكون بأي حال من الأحوال مخرجاً لأزمة صناعة النسيج المصرية.

استنتاجات الدولة والثمن المر

عندما يسأل النظام عن فشله الاستثنائي في تطوير قطاع النسيج وتخلفه عن سائر دول العالم الثالث في هذا المجال، رغم عراقة هذه الصناعة في مصر، يشير إلى محور الشر بالنسبة له وهو العمالة “الزائدة” والملكية العامة. والحل السحري بالنسبة للطبقة الحاكمة، هو تشريد أكبر نسبة ممكنة من العمال وتخفيض أجورهم وحوافزهم وحقوقهم لأدنى مستوى ممكن، وعرض المصانع للبيع بأي ثمن لمستثمرين أو تصفيتها تماماً.

ولكن ماذا عن السنوات العشر الأخيرة؟ ألم تتم خصخصة غالبية مصانع الملابس، وجزء كبير من صناعة حلج الأقطان، وألم يدخل القطاع الخاص بقوة في صناعة النسيج في مختلف مراحلها؟ ألم يحرر النظام أسعار القطن ليخنق المصانع العامة في قطاع الغزل، ويفتح المجال لمصانع القطاع الخاص لاستيراد الأقطان الأرخص سعراً؟

وألم يتخلص النظام من أكثر من 100ألف عامل نسيج من خلال وقف التعيينات والمعاش المبكر؟ ألم يفعل كل ذلك بحجة ضرورة الاندماج في السوق العالمي ومواجهة المنافسة العالمية؟

وأمام الفشل الذريع في تحقيق تلك الطفرة المنتظرة من خلال الليبرالية الجديدة ومقتضياتها وسياساتها وبرنامجها هذا، ما هو الاستنتاج الذي يصل إليه النظام في شكل لجنة السياسات وخبرائها؟ المزيد من التي كانت هي الداء: ضرورة الإسراع في الخصخصة والتخلص مما تبقى من القطاع العام سواء بالبيع أو التصفية. والخطوة الأولى لكل ذلك هي القضاء على العمال في تلك الشركات. أولاً بتقليص ما يحصلون عليه من حوافز وأرباح ومستحقات. وثانياً من خلال المعاش المبكر، وهو مجرد شكل مجمل من التشريد. وثالثاً من خلال المواجهات الأمنية والبطش لكسر مقاومة العمال.

لا صوت يعلو فوق صوت المستثمر. المستثمر يريد التخلص من نصف العمالة- السمع والطاعة. المستثمر يريد شراء المصنع بعشر قيمته- السمع والطاعة. المستثمر يريد عمالاً بلا صوت ونقابة صفراء تخدم مصالحه- السمع والطاعة. المستثمر يريد إغلاقا للمصانع وبيعها خردة وطرد العمال- السمع والطاعة. والشرطة والجيش والإعلام والصحافة والوزراء والخبراء كلهم في خدمة المستثمر. وهاهم رجال الحكومة ولجنة السياسات يوضحون من جديد في خدمة من يعملون. فقد أعلن أحمد نظيف في ملتقى القاهرة للاستثمار أنه لا رجعة عن الإصلاح والإسراع بوتيرة الخصخصة وأوضح أن أحد أهم محاور التعديلات الدستورية القادمة تهيئة المناخ الاقتصادي من خلال التخلص من مواد لا تتوافق مع التطورات العالمية. وأعلن جمال مبارك في نفس الملتقى أن “البلاد مقبلة على مرحلة جديدة من التحولات الضخمة، وأن خطوات الإصلاح خلال العامين الماضيين لا تمثل الغاية الكبرى، ولم نصل بعد إلى منتصف طموحاتنا، وأن هناك قوى ما زالت تعارض هذه التحولات وتتحداها وعلينا أن نواجه هذه القوى ونقف أمامها”.

وعندما يتحدث جمال مبارك هكذا في ذات توقيت إضراب المحلة، ليس من الصعب اكتشاف أن من يقصده بالقوى التي تعارض وتتحدى، والتي يدعو لمواجهتها هي الحركة العمالية وأي مقاومة جماهيرية لسياسات النهب والإفقار.

أمامنا معارك صعبة في حرب طويلة وقد بدأ عمال المحلة الطريق ولكنهم ليسوا وحدهم ففي خلال الشهر الماضي وحده أضرب 3000 عامل في ميناء بورسعيد بعد، مقتل زميل لهم في حادث أثناء العمل، مطالبين بظروف عمل أفضل وأكثر أماناً وبتعويض كامل لأسرة زميلهم. وشارك أكثر من ألفي صيدلي في مؤتمر حاشد، بعد سلسلة هجمات أمنية على الصيدليات بهدف إجهاض معارضتهم لمشروع خصخصة صناعة الدواء، والسماح للشركات متعددة الجنسيات بالاستحواذ على سوق توزيع الدواء في مصر. وأضرب 150 سائق بالسكة الحديد في محطة مصر للمطالبة بالإفراج عن زميلهم المتهم في قضية قطار قليوب رغم كل الأدلة التي تشير إلى أن سبب الحادث هو الفساد وسوء الإدارة وعدم صيانة وتجديد القطارات. نضالات عمال النسيج وعمال الموانئ وعمال السكة الحديد والمهنيين من صيادلة ومدرسين، هي الأفق الأوسع والطليعة الحقيقية لحركة التغيير المصرية.