بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عمال وفلاحين

خبرات من المعركة الانتخابية:

2- الثوريون وانتخابات 1995

في الوقت الراهن يعتقد أغلب المنتمين لليسار الثوري المصري، وعددهم لا يزيد في واقع الحال عن بضع عشرات، أن مشاركة عدد منهم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة (نوفمبر – ديسمبر 1995) كانت تكتيكًا صحيحًا على وجه الإجمالي، وأنها مثلت خطوة على الطريق الصحيح، طريق بناء الحزب العمالي الثوري. وقد مرت علينا أوقات كانت فيها الغالبية العظمى من الثوريين تتشكك في هذا التكتيك، بل وتعتبره خيانة لمثل الاشتراكية العليا التي تتناقض على طول الخط مع “توسيخ الأيدي” بالمشاركة في مؤسسات كالبرلمان صنعتها الطبقات الحاكمة لتدعيم سلطتها ولتغذية وعي الطبقات المضطهدة بالأوهام البرلمانية والديمقراطية، خاصة في دولة كمصر ليس لها نصيب يذكر من الديمقراطية البرجوازية.

وأنا هنا لا أجادل في صحة الموقف الراهن لغالبية الثوريين والذي ينادي بضرورة المشاركة، بل إني أعتبره بوجه عام موقفًا متقدمًا عن موقف الامتناع السلبي الذي ساد في مراحل سابقة. خاصة وأن هذا الموقف، أعني موقف المشاركة، يقوم على استيعاب لمجمل تجربة الثوريين في العالم كله طوال القرن العشرين والتي أفضت إلى الاستنتاج بأن “الاشتراك في الانتخابات البرلمانية و.. النضال من على منبر البرلمان أمر لا بد منه لحزب البروليتاريا الثورية وذلك بالضبط لأغراض تربية الفئات المتأخرة من طبقته هو (أي الطبقة العاملة)، وبالضبط لأغراض إيقاظ وتنوير جماهير القرويين البليدة والمظلومة والجاهلة” (لينين، “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية”، المجلد 9 من مختارات لينين في عشر مجلدات، دار التقدم، ص 478). فما دام الثوريين لم يصلوا بعد إلى النقطة التي ينجحون عندها في إقناع الغالبية العظمى من الطبقة العاملة وسائر المضطهدين، أو حتى – كما حالتنا نحن – في إقناع أقلية ذات شأن من العمال بزيف الأوهام البرلمانية، وبحتمية تجاوزها، فإنهم مطالبون بالمشاركة حتى في أكثر البرلمانات رجعية ومطالبون بفضحها من الداخل حتى تقتنع الطبقة العاملة، والجماهير عامة، من خلال تجربتها هي بالذات، أن الديمقراطية البرلمانية المزعومة هي محض تدليس وضحك على الذقون لأنها لن تحررهم من الاستغلال الذي يلاقونه.

ولكن اقتناعي بصحة مبدأ المشاركة في الانتخابات البرلمانية لا يعني أن أوافق على أداء الثوريين المصريين في الانتخابات الأخيرة. ذلك أن أي مبدأ في هذا العالم، أي مبدأ مهما كان، لا يغني عن الدراسة والحساب الدقيقين والموضوعيين لمجمل الظروف الذاتية والموضوعية التي يطبق فيها هذا المبدأ، والتي تفرض تطويعه ليصبح مناسبًا لتلك الظروف، وإلا تحول المبدأ من مرشد للعمل إلى عقائدية جامدة تعيق الحركة والفعل.

الأمر الذي أعترض عليه بشدة، واراه نذيرًا للخطر في أداء الثوريين المصريين في الانتخابات الأخيرة هو أنهم افترضوا مبدأ المشاركة اقتراضًا ولم يبذلوا أدنى جهد في دراسة الظروف الذاتية والموضوعية التي يطبق فيها. فلم نجد في مجلاتهم (ومجلتنا، رغم صدورها بعد الانتخابات، ليست معفية من هذا النقد) أو في أوراقهم ونقاشاتهم السياسية التي اطلعنا عليها، أي محاولة للدفاع عن تكتيك المشاركة ضد أولئك الذين كانوا يرون بأن الظروف الخاصة لانتخابات 1995 تقتضي منا ألا نشارك. ولم نجد في هذه الأدبيات أي توضيح لمعنى وحدود المشاركة. فهل المشاركة تعني أن نسعى لترشيح واحد منا، أو من المؤيدين لنا؟ وإذا كان الرد بالنفي فلم لا؟ أم تعنى أن نساند مرشحين حزبيين؟ أن نساند مرشحين مستقلين؟ وهل تكتفي بالعمل في دوائر عمالية، أو في دوائر القاهرة فقط، أم نتوسع فتشمل حركتنا، دوائر من نوعيات وفي أماكن أخرى؟ وما هو معنى المساندة؟ هو تؤيد المشرح المختار تأييدًا مشروطًا أم غير مشروط؟ وما هي الشرط الواجب توافرها في المرشح الذي نسانده؟ وغيرها من الأسئلة إلى على أي مجموعة ثورية، مهما صغر حجمها، أن تجيب عليها بدفة وصرامة وإلا تجول الشراع التكتيكي المرفوع، عند التطبيق إلى خط عشوائي.

كل ما يمكن أن تجده في الأديبات السياسية للثوريين الصادرة عشية الانتخابات هو تحليل، صحيح في مجمله، للظروف التي تجرى فيها هذه الانتخابات هو تحليل، صحيح في مجمله، للظروف التي تجرى فيها هذه الانتخابات، ولتراجع وإفلاس قوى المعارضة المختلفة، وللدور المناط بالبرلمان القادم. ولكن ولا كلمة واحدة عن موقفنا العملي من هذه الانتخابات بالذات، وعن شعاراتنا الرئيسية، وعن خطة عملنا التفصيلية. وهو أمر يؤسف له حقًا. فيحث يسود الصمت بصدد التكتيكات تسود أيضًا الانتهازية، وحيث لا يوجد ميزان واضح للصواب، لا يوجد أيضًا معيار دقيق للخطأ. فكيف يتسنى للثوريين أن يحاسبوا المخطئين الخارجين على تكتيكهم، وكيف يمكن لهم أن يحصدوا خبرة تجربتهم الانتخابية إذا لم يكن لديهم أو خطة واضحة يختبرونها في المحك العملي فيكتشفون صحتها أو خطؤها؟

وإني لأرى أنه قد آن الأوان أن نتوقف نهائيًا عن كل تجريب ساذج يطلق عليه، زورًا وبهتانًا، ممارسة عملية، وأن نبدأ من الآن في طرح كل مسألة عملية على بساط البحث الجاد، لا من اجل أن نتوقف عن الفعل وننغمس في الثرثرة الفارغة، ولكن من أجل أن تنسجم أقوالنا مع أفعلنا ومن أجل أن ندفع حركتنا إلى الأمام. بالقطع ستكون هناك أخطاء كثيرة ولكنها في هذه الحالة ستكون أخطاء نتعلم منها، وليست أخطاء لا نعي أصلاً أننا وقعنا فيها.

وسأبدأ بتطبيق هذا المبدأ الذي ذكرته لتوي على مسألة مشاركتنا، نحن الثوريين، في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، اقتناعًا منى بأن علينا أن نفحص هذه التجربة فحصًا جادًا، متسلحين بروح النقد الذاتي، حتى نستخلص منها الدروس التي سوف تعيننا في حركتنا المستقبلية.

رد على معارضي المشاركة في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة:

انقسم معارضو المشاركة في الانتخابات الأخيرة، وقد كانوا أقلية عالية الصوت في أوساط الثوريين، إلى قسمين: قسم يعتقد بضرورة المقاطعة السلبية والقسم الآخر يرى أن مقاطعتنا لا بد أن تكون إيجابية أنصار المقاطعة السلبية، وهم الذين دعوا إلى الامتناع عن نشاء انتخابي مهما كان، دافعوا عن موقفهم بحجج عديدة من أهمها أن الانتخابات مهزلة لا تنطلي على الجماهير وأن الطبقة العاملة، والجماهير على وجه العموم، قد تجاوزت الأوهام البرلمانية بينما لا تزال القوى السياسية المعارضة، اليمينية منها واليسارية على حد سواء (باستثناء الحركات الإسلامية المسلحة)، قابعة في المستنقع البرلماني.

وإذا كان هذا الرأي صحيحًا، فلن يكون هناك مفر من أن نستنتج، مع أنصار المقاطعة السلبية، بأن المشاركة في الانتخابات بأي صورة من الصور، حتى ولو بالدعاية ضد البرلمانية، خيانة للجماهير المتجاوزة للبرلمانية، فضلاً عن أنها مضيعة للوقت. ولكن الحقيقة هي أن هذا الرأي خاطئ.

نحن لا ننكر أن قمعية وديكتاتورية الدولة المصرية، وبطشها السافر بمعارضيها، وتزويرها المتعمد والمتكرر لكل انتخابات برلمانية، وهزال وانتهازية المعارضة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، قد أدوا مجتمعين إلى انفضاض الجماهير العمالية وغير العمالية عن كل المؤسسات السياسية الخربة التي خلقتها الطبقة الحاكمة المصرية كديكور ديمقراطي يزين وجهها الدموي الباطش. ولا ننكر أيضًا أن من يعبئون بالعملية الانتخابية، أو يكلفون أنفسهم مشقة الذهاب إلى صناديق انتخابية مصيرها التزوير، من أوساط الطبقة العاملة المصرية هن أقلية تافهة محدودة العدد. ولكن انفضاض الجماهير اللا مبالية عن المؤسسات “الديمقراطية” الزائفة لا يعني أبدًا أنها – أقصد الجماهير – تجاوزت البرلمانية.

الجماهير لم تتجاوز البرلمانية، ولم تتجاوز الديمقراطية البرجوازية على وجه العموم. فالمعنى الوحيد لتجاوز الجماهير البرلمانية هو أن يسود وعي بين أغلبيتهم، أو على الأقل بين أقلية مؤثرة في أوساطهم بأن هناك أشكال سياسية أخرى، هي أشكال السلطة العمالية (ديكاتورية البروليتاريا)، تحقيق أحلامهم المشروعة في أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. وهذا، كما نرى جميعًا، غير متحقق على الإطلاق. ولن يتحقق إلا إذا عقدنا نحن العزم على النضال من اجل إخراج القسم المتقدم من الطبقة العاملة المصرية من مستنقع الركود والخمول والتشرذم السياسيين الذي يعيش فيه منذ سنوات طويلة، وإلا إذا أفرزت موجة جديدة من المد في الصراع الطبقي جيل جديد من العمال المتعطشين لتقبل دعايتنا الثورية.

الطبقة العاملة المصرية تفتقد للتربية السياسية بشكل مخيف. والسبب الرئيسي في هذه البلوى هو أن الجيل الحالي من العمال المصريين لم يصهر في أتون حركة عمالية متصاعدة، ولم تتح له الفرصة حتى أن يذهب إلى مدرسة النقابة العمالية الحرة المستقلة. لم تسمح له ديكتاتورية ووحشية الطبقة الحاكمة أن يخلق مؤسسات نضاله الطبقي (النقابة والحزب)، ولم تعط له الفرصة أن يكتسب خبرة سياسية ترفع وعيه الطبقي.

والنتيجة هي أن رفضه شبه الكامل لديمقراطي مبارك المزعومة، وعزوفه عن المشاركة في الانتخابات، لم يلازمه نضوج لوعي طبقي ثوري متجاوز للبرلمانية وقادر على تحطيم مؤسسات وبناء مؤسسات السلطة العمالية، وإنما لازمه عودة إلى الركود والجهل والأوهام، وإلى سيطرة الانتماءات القبلية والطائفية، إلى تعشيش الخرافات التي تطلقها البرجوازية في عقول أغلبية واسعة من عمال مصر.. أي لازمه ضيق الأفق وفقدان الوعي الطبقي والسياسي وتراجع الثقة في جدوى النضال الجماعي.

ولذلك بالضبط فإننا نرفض موقف المقاطعة السلبية ونرى أ، علينا أن نستغل الحملات الانتخابية لبرلمانية المعن في رجعية، ولكل المؤسسات التمثيلية في مصر (كالمجالس المحلية مثلاً)، في رفع الوعي السياسي لأقسام من الطبقة العاملة المصرية، وفي محاولة تسبيد برنامج مطلبي يدعو إلى إصلاح أوضاع العمال المتردية. ومهما كانت صعوبة هذه المهمة فإن البدء فيها واجب ليس له بديل طالما أن الطبقة العاملة لا زالت تفتقد الوعي الثوري.

ومن حسن الخط أنه لا يوجد في مصر تراث برلماني ديمقراطي راسخ ومؤثر، وأنه لا توجد في الأوساط العمالية شريحة من الانتهازيين الذين تمرسوا، عبر السنين، على بيع الوهم البرلماني للعمال بإدعاء أنه يحقق مصالحهم الأساسية، وأن البرجوازية بكافة أجنحتها تفتقد لأي قدرة على الحكم بدون بطش صريح أقول من حسن الحظ، رغم أني أعلم مقدار الثمن الذي يدفعه العمال من أرواحهم ودمائهم بسبب ديكتاتورية الطبقة الحاكمة المصرية، لأن هذه الظروف السيئة ذاتها ستسهل من عملية انتقال الطبقة العاملة المصرية من حالة الركود والخمول الحالية إلى تجاوز البرلمانية في غضون شهور قلائل من المد الثوري شريطة أن نكون نحن الثوريون قد أعددنا العدة لذلك عن طريق تثويرنا لوعي الطبقة المتقدمة من الطبقة في المرحلة السابقة على اللحظة الثورية.

ومشاركة الثوريين في الانتخابات البرلمانية ستساهم (كما سأوضح لاحقًا) في زيادة سهولة مهمة غرس الوعي الثوري في صفوف الطبقة العاملة. وهذا لا ينطبق فقط على لحظة الجزر الراهنة، التي يتحتم علينا فيها استغلال كل الفرص والمنابر من أجل اكتساب ثقة العمال والدعاية لمشروعنا الثوري في أوساطهم، ومن أجل إيقاظ القسم المتقدم منهم من سباته العميق، بل ينطبق أيضًا على لحظات تصاعد المد الجماهيري التي يزيد فيه خطر انخداع الجماهير بمشاريع براقة، ولكن مزيفة، تحمل رايتها قوى المعارضة البرجوازية بأنواعها المختلفة (قد تكرر هذا المشهد – أقصد مشهد انقياد الجماهير إلى مشاريع برجوازية ترفع راية الديمقراطية – أكثر من مرة في السنوات الأخيرة. في روسيا، وفي أوربا الشرقية وفي بنجلاديش.

الفريق الأخير من أنصار المقاطعة رأى أنه كانت هناك ضرورة لمقاطعة الانتخابات مقاطعة إيجابية، وهي المقاطعة التي لا نتعارض في تقدير هؤلاء مع مبدأ ضرورة المشاركة في الأحوال العادية. حيث أنها لا تنطلق من أرضية رفض المشاركة في الانتخابات على وجه العموم وإنما من أرضية رفض المشاركة في هذه الانتخابات المزورة بالذات والتي تجري في ظل قوانين ديكتاتورية تتعارض مع أبسط المبادئ الديمقراطية. والمعنى العملي لتكتيك المقاطعة الايجابية هو: 1- الامتناع عن ترشيح أي ثوري في الانتخابات، 2- الامتناع عن تأييد أي مرشح مهما كان حتى لو كان التأييد مشروط، 3- التشهير الجماهيري، باستخدام كل وسائل الدعاية، بلا ديمقراطية الحكم وبزيف الانتخابات، ودعوه الجماهير وعدد من السياسيين المتعاطفين معنا، في الدوائر التي نستطيع الوصول إليها، إلى مقاطعة الانتخابات.

وبرغم النوايا التي قد تكون حسنة، فأن هذا الموقف يتجاهل طبيعة التوازن الطبقي والسياسي السائد في مصر الآن، ويتجاهل محدودية وضعف قدرات الثوريين المصريين على التأثير الجماهيري، فهل كان يصح أن نرفع شعار المقاطعة الايجابية في لحظة جزر سياسي ليس للثوريين فيه وجود سياسي حقيقي؟ وهل كان يمكن لرفع هذا الشعار أن يؤدي إلى أي ثمرة إيجابية في الوقت الراهن الذي افتقدت فيه كل القوى السياسية، من الوفد إلى الشيوعيين، الرغبة في، والقدرة على المقاطعة، وتخلت عن مطلبها السابق بالإصلاح الدستوري والسياسي كشرط لدخول الانتخابات؟ الإجابة هي بالقطع لا. فالمقاطعة الايجابية لا تكون مفيدة حقًا إلا إذا مثلت إشارة بدء لحركة جماهيرية قادرة على شل النظام الحاكم وإفشال الانتخابات بغرض انتزاع إصلاحيات سياسية، وفرض ضمانات ديمقراطية لسير العملية الانتخابية. أو إذا كانت على الأقل قادرة على تعويق سير الانتخابات في عدد من الدوائر. أما في ظروف كظروفنا، فالمقاطعة لم تكن لتحقق أي شيء. إذا لم يكن ممكنًا أن تتحول إلى معركة سياسية جماهيرية بسبب المحدودية الشديدة لتأثيرنا، وبسبب انتهازية المعارضة إلى رفضت الدخول في معركة مع النظام، وبسبب خمول الجماهير. النتيجة الوحيدة لتكتيك المقاطعة في ظروف كهذه هي زيادة عزلتنا، ليس فقط لأن الثقة في صحة شعاراتنا ومواقفنا ستهتز، ولكن أيضًا لأن كل المرشحين بدون استثناء سيعتبرون أعداء لهم، ولأننا بالتالي ستفقد فرصة التفاعل مع الجماهير العمالية.

المشاركة هي الموقف الصحيح… ولكن لها شروط:

على الرغم من هواجس المقاطعة، إلا أن الثوريين قرروا، عمليًا، المشاركة في الانتخابات كمؤيدين بشطين في الحملات الانتخابية لعدد من اليساريين يتراوح بين سنة وثمانية من المرشحين. ولكن لأن قرار المشاركة لم يكن مدروسًا، ولأنه اتسم بروح تجريبية محدودة، فقد جاء أداء الثوريين مخيبًا للآمال. لم يكن الثوريون مستعدين للمساهمة بفعالية في المعارك الانتخابية لمرشحيهم المختارين. فلم يساهموا بوعي في صياغة شعارات المرشحين، وفي طرح تكتيكات المعركة، وفي رفع وعي جمهور الدوائر… الخ. لقد اتصف أداؤهم بالذيلية والعشوائية.

وفي تقديري أن المشاركة في المعركة الانتخابية مشاركة صحيحة كانت تقتضي منا أن نجيب على ثلاث أسئلة حاسمة. أولاً: ما هو جوهر موقفنا ودعايتنا وهذه الانتخابات بالذات، وما هو الهدف الذي نبتغيه من المشاركة؟ ثانيًا: ما هو نوعية المرشحين الذين سنساندهم ولماذا، وما هي المساومة التي سنعقدها معهم؟ ثالثًا: ما هو الإمكانيات العملية لنجاح تكتيكنا؟

السؤال الأول:
الموقف العملي والتكتيك الصحيح، في ظل ظروف كظروفنا، يقوم في تقديري على النقاط الآتية:

· أن نشارك في الانتخابات بالتأييد والمساندة المشروطين لعدد محدود من المرشحين (سأتناول بالتفصيل في إجابتي على السؤال الثاني مسألة نوعية المرشحين الذين كان ينبغي أن نساندهم).

· أن يتواكب التأييد المشروط مع التشهير الجماهيري بلا ديمقراطية العملية الانتخابية، وبهزال وإفلاس المعارضة.

· إن جوهر دعايتنا الجماهيرية في مناطق وجودنا كان ينبغي أن يكون كالتالي: “إننا نشارك في هذه الانتخابات رغم أننا نعلم تمام العلم، كما تعلمون أنتم أيضًا، أنها ستزور في أغلب الدوائر، وأن نتائجها سوف لا تعبر عن إرادتكم الحقيقية. السبب وراء مشاركتنا هو أن قوى المعارضة، التي تدعي أنها ديمقراطية وأنها تعبر عن مصالحكم، وفضت أن تناضل، بالفعل وليس بالكلام، من أجل ضمان ديمقراطية العملية الانتخابية. وهو الأمر الذي وضعنا في موقف لا نحسد عليه. إذ ليس في مقدورنا وحدنا، بسبب محدودية تأثيرنا حتى الآن، أن نقود النضال الجماهيري من أجل ضمان ديمقراطية الانتخابات. ولذا أصبحنا مضطرين للمشاركة رغم أننا نعلم مقدار الصعوبات والمخاطر التي ستواجهنا. ومع ذلك فأننا ندعوكم إلى بذل كل محاولة ممكنة لإنجاح هؤلاء المرشحين الذين نعتقد أنهم يعبرون عن مصالحكم إلى حد كبير. ولكن حذار أن توقعوا لهؤلاء المرشحين شبكًا على بياض. عليكم أن تقوموا معهم بصياغة برنامج مطلبي واضح يعبر عن مطالبكم واحتياجاتكم الفعلية. ناقشوهم في كل كبيرة وصغيرة من برنامجهم ولا تعطوهم أصواتكم إلا إذا كان هذا البرنامج معبرًا عن مصالحكم بالفعل وحتى إذا ما نجح بعض هؤلاء المرشحين، وهو أمر صعب، فعليكم ألا تركنوا إلى أنهم سوف يعبرون دائمًا وفي كل الأوقات عم مصالحكم أو إلى أنهم قادرين على تحقيق مطالبكم دون فاعليتكم وحركتكم أنت فالبرلمان كما تعلمون لن يشرع فوانين عن مطالبكم إلا إذا قمتم أنتم بالضغط من أجل تمريرها. وبذلك فمن الضروري أن تحاسبوا نوابكم البرلمانيين طوال الوقت، وأن تسحبوا تأييدكم لهم إذا ما أثبتوا خيانتهم لمصالحكم.”

· إن دعاية كهذه، رغم صعوبتها الفائقة، هي الدعاية الوحيدة الصحيحة في ظروف كظروفنا، فقد كانت ستسمح لنا بأن تشارك الجماهير العمالية في عدد من الدوائر في صياغة برنامج مطلبي يبلور المطالب الإصلاحية العاجلة للعمال. وكانت ستسمح لنا أيضًا بأن ندفع مجموعات عمالية إلى النشاط السياسي المنظم والواعي الذي سيدور حول صياغة البرنامج المطلبي، وتكوين لجان دعاية انتخابية ولجان وعي انتخابي ولجان مراقبة وحماية للصناديق… الخ. إنها ستكون فرصة ذهبية لنحاول إخراج قطاعات عمالية واسعة نسبيًا، بمقاييس الظرف الراهن، من مستنقعات الخمول والركود الآسنة التي ظلوا فيها لسنوات ودعوتهم إلى التفكير جماعيًا وبصوت عالي معنا، ولأول مرة، في “أمور السياسة”. أتوجد فرصة أفضل من هذه، في لحظات الجزر الراهنة لاكتشاف العناصر المتقدمة في الطبقة وإدارة حوار سياسي معها؟

السؤال الثاني:
بالطبع لم يكن ممكنًا أن نرشح واحدًا من الثوريين في الانتخابات ليس فقط لأنه ليس بين الثوريين شخص على درجة كافية من الجماهيرية نسمح له بترشيح نفسه، ولكن أيضًا لأن المنظمات الثورية الصغيرة لا تتحمل أن ينتمي إليها أعضاء برلمانين. إذ سوف تتجول العشرات القليلة من الثوريين في هذه الحالة إلى ذيل خادم لعضو برلماني منغمس حتى أذنيه في لحظة جزر كهذه، في نقاشات ومداولات وطلبات إحاطة خلافه. فقط المنظمات الكبيرة هي التي تستطيع أن تسيطر على كتلتها البرلمانية، وأن نضبط إيقاع حركتها في مجلس الشعب وفقًا لمصالح الحركة الجماهيرية خارج المجلس.

إذن، فالبديل الوحيد كان أن نساند وتؤيد مرشحين غير منتمين لمنظماتنا، أي مرشحين غير ثوريين. ولهذا السبب بالضبط كان علينا توخي الحرص الشديد في اختيار من نؤيده، خاصة في ظروف الجزر الراهنة التي يتعرض فيها عدد كبير من القيادات العمالية واليسارية لخطر الانحراف اليميني، وفي كل التدابير الممكنة التي تجعل مساندتنا له مفيدة في تحريك السكون العمالي وفي تحقيق أهدافنا السياسية.

المرشح الذي كان ينبغي أن نؤيده مشروطًا هو ذلك الذي يقبل النقاط السياسية الآتية:

  1. أن يعلن رفضه القاطع والتام لمحاولات الرأسمالية المصرية أن تجل أزمتها وأن تحقق انطلاقتها في السوق العالمي على حساب الطبقة العاملة.
  2. أن ينطلق من هذا الرفض المبدئي إلى رفض كافة القوانين والتشريعات الجديدة التي تحاول تقنين زيادة معدلات استغلال وقهر عمال مصر.
  3. أن يرفض أي وكل محاولة لتقليص الأجور الحقيقية أو لطرد وتشريد المعامل سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص. وأن يعلن تأييده بغض النظر عن مدى “قانونية” هذه الأدوات النضالية.
  4. أن يدافع عن حق الطبقة العاملة في خلق أشكال نضالها الاقتصادي (لجان المندوبين، النقابة الحرة والمستقلة) والسياسي (الحزب العمالي). وأن يدافع عن التعددية النقابية منطلقًا من أن التنظيم الراهن فاسد وموالي تمامًا للدولة.
  5. أن يكون ساعيًا برنامج مطلبي تفصيلي مع عمال دائرته، وبروح نضالية مشتبكة ترفض الدخول في لعبة الكراسي الانتخابية القذرة (شراء الأصوات، تربيط، قدم صياغة شعارات تزعج مرشح حليف..).
  6. أن تأييد لمرشح يقبل ويؤمن بهذه المبادئ ينبغي أن يكون مشروطًا بالتزامه، قولاً وفعلاً، بهذه المبادئ قبل الانتخابات وبعدها.

وفي تقديري أن المرشحين الذين تتوافر فيهم هذه الصفات، في الظروف المصرية الراهنة، لم يكن ممكنًا أن يكونوا مرشحين حزبيين (بسبب تهافت المعارضة اليسارية). وهذا بالطبع لا يعني أنه كان من السهل أن نجد مرشح مستقلاً له جماهيرية معقولة ومؤمن بهذه المبادئ، إنما يعني أن مجال بجثنا كان ينبغي أن يدور أساسًا في أوساط المرشحين المستقلين. بل أني أجرؤ على القول بأنه كان علينا أ، نسعى لإقناع من توافر هذه الصفات فيهم بترشيح أنفسهم مع وعد منا بالمساهمة الفعالة في حملاتهم الانتخابية وفقًا للمبادئ التي نتفق عليها.

وفي تقديري أيضًا أن التركيز كان لا بد أن يكون فقط على مرشحين الدوائر العمالية الذين يحوزون قدرًا معقولاً من الجماهيرية بين العمال. ذلك أن الغرض الرئيسي من مشاركتنا في الانتخابات هو أيقاد القسم المتقدم من الطبقة العاملة ودعوته. إلى نقاش قضاياه المطلبية الملحة بروح سياسية.

السؤال الثالث:
أي اتفاق سياسي مهما كان يتضمن بالضرورة قدرًا من التنازل عن مطالب في مقابل الحصول على مكاسب. واتفاقنا السياسي مع بعض المرشحين لا يستثنى من هذا. من ناحيتنا، التنازل هو أننا سنؤيد مرشح لا يقبل بنقاط أساسية في خطنا السياسي: لا يقبل موقفنا من قضية بيع القطاع العام، ولا يقبل موقفنا من البرلمانية، وبالطبع لا يقبل الاشتراكية الثورية من أساسها. في مقابل هذه التنازلات سنحصل على فرصة ذهبية للتفاعل مع الطبقة العاملة ولصياغة برنامج مطلبي يعبر عن مصالحها.

أما المرشح الذي سنؤيده فالتنازل الوحيد من جانبه سيكون أن يسمح لنا بأن تؤيده تأييدًا “مشروطًا”، أي أن يسمح لنا بأن نمارس دعاية مستقلة ضد البرلمانية، وضد المعارضة.. الخ. في مقابل هذا التنازل سيحصل المرشح على عدد معقول من الكوادر المختلفة والواعية لإدارة معركته الانتخابية من جميع النواحي.

وفي تقديري أن مساومة كهذه في ظل الظروف الذاتية والموضوعية التي نمر بها، كانت صعبة جدًا. فمقدار المكاسب التي سيحصل عليها المرشح سيكون قليلاً. ولكني أعتقد على الرغم من ذلك، أنه كان ممكنًا أن نجد مرشحين اثنين أو ثلاثة يقبلون التعاون معنا عند الحد الأدنى الذي نقبله. وإذا ما تحقق هذا فإن مكاسبنا السياسية ستفوق التنازلات شريطة أن نكون مستعدين لصياغة برنامج مطلبي يوجد ويبلور المطالب العمالية، ولطرح تكتيكات يومية للمعركة الانتخابية وللحفاظ على استقلال دعايتنا السياسية.