بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

خديعة الحد الأدنى للأجور

لا يمكن الفصل بين المناقشات الجارية حول الحد الأدنى للأجور والصحوة التي شهدتها الحركة العمالية في الشهور الماضية، فالمطالب التي رفعتها الإضرابات العمالية بداية من إضراب غزل المحلة في ديسمبر الماضي وحتى الآن، ارتبطت أغلبها بالأجر المتغير، حيث كشفت عن التدني الشديد في الدخل ومستوى المعيشة للعمال في مختلف القطاعات سواء الخاص أو العام أو الحكومي، ولا يمكن اعتبار هذا الإلتفات المفاجئ لقضية الحد الأدنى للأجور بعد أربع سنوات من صدور قانون العمل الموحد رقم 12 لسنة 2003 والذي نص على وجود مجلس قومي للأجور يضع حد أدنى للأجر ويراجعه دورياً بما يتناسب مع احتياجات المعيشة وارتفاع الأسعار، لا يمكن اعتبار هذا الإنتباه المفاجئ لقضية الأجور مجرد يقظة ضمير من الدولة بقدر ما هو أحد ملامح الانتصارات والنتائج التي حققتها إضرابات العمال من أجل الأجور في الفترة السابقة.

ورغم أن هذه الموجة العارمة من الإضرابات العمالية رفعت مطالب جزئية ومحدودة مثل مكافأة الشهرين في المحلة وكفر الدوار والحفاظ على الحافز في المطاحن وزيادة حافز الكيلو في الساعة لعمال السكة الحديد ونسبة التحصيل في النقل العام… وغيرها، إلا أن هذه المطالب كانت بمثابة جرس إنذار في آذان النظام الحاكم وعبرت عن وضع في غاية الصعوبة يحمل المزيد من الإضرابات، وأن معالجة مسألة الأجر بشكل شامل ووضع حد أدنى يضمن الاستقرار ويمنع الإنفجارات أمر لا غنى عنه.

أجر لا يكفي العيش الحاف!
إن مجرد طرح مسألة الحد الأدنى للأجور للمناقشة بشكل رسمي والوعد بالوصول لقرار فيها خلال ثلاثة أشهر يعد انتصاراً للحركة العمالية، لكن الطريقة التي تعالج بها الدولة هذه القضية عبر المجلس القومي للأجور والوزارات والجهات المعنية لا تدل سوى على الجهل وقصر النظر، فالمقترحات الحكومية المقدمة للحد الأدنى للأجور أولها 219 جنيه شهرياً كحد أدنى للأجر، وثانيها 300 جنيه شهرياً، وهي مقترحات عجيبة فعلاً ومن الصعب فهم المعايير التي اعتمدت لتحديدها، فإذا كان المعيار الطبيعي لتحديد الحد الأدنى للأجر هو الاحتياجات الأساسية للإنسان أي الغذاء والكساء والسكن والصحة والتعليم، فإن 300 جنيه شهرياً لا تكفي أي بند من هذه البنود منفردا، وإذا وضعنا في الاعتبار أن نسبة الإعالة في مصر هي 1: 2,7 أي أن كل فرد يعمل يعول أكثر من فردين فإن الحد الأدنى للأجر المقسم على ثلاثة أفراد على الأقل سيجعل نصيب الفرد أقل كثيرا من 6 جنيهات في اليوم، أي تحت خط الفقر المدقع، أليس غريباً أن يضطر الإنسان للعمل لكي يحافظ على مكانه تحت خط الفقر؟!

إن قيمة متواضعة جداً لسلة سلع لأسرة محدودة لا تتجاوز ثلاثة أفراد لا تقل بحال من الأحوال عن 1200 جنيه شهرياً، وذلك مع حذف بعض البنود مثل العلاج والترفيه والدروس الخصوصية وربما يبدو مستحيلاً الدفاع عن الـ 1200 جنيه كحد أدنى للأجور في مصر خاصة مع التدني الشديد لمستويات الأجور، وربما يكون حداً أكثر تواضعاً وهو خط الفقر الأعلى، ومن الصعب رفض أن يعيش العامل المصري وأسرته البسيطة (ثلاث أفراد فقط) محاذياً لخط الفقر الأعلى، الذي يقرره البنك الدولي بدولارين في اليوم، أي 6 دولارات يومياً للعامل ومن يعولهم، وبالأسعار الجارية للدولار فإن الحد الأدنى للأجور والذي يجعل العامل محاذياً لخط الفقر هو 900 جنيه شهرياً، أي ثلاثة أضعاف الحد الأدنى المقترح من الحكومة (300 جنيه)!

من جانب آخر فإن مقترحات الحد الأدنى للأجور التي تناقش الآن والتي ستشمل القطاع الخاص لا تضع في اعتبارها قيمة ساعة العمل، فساعات العمل في مصر وخاصة القطاع الخاص تصل لـ 12 ساعة يومياً في المدن الجديدة، ووفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تصل ساعات العمل في القطاع الخاص إلى 58 ساعة في الأسبوع، ويعد هذا المعدل من أعلى معدلات ساعات العمل في العالم، في حين بلغ هذا المعدل في القطاع العام 54 ساعة في الأسبوع وهو أيضاً من المعدلات الأعلى في العالم، وهو ما يجعل قيمة الأجر متدنية للغاية.

لا جديد في اقتراحات الحكومة
ومع ذلك، فمقترحات الحكومة عن الحد الأدنى للأجور لا تقدم جديداً على الإطلاق على صعيد بعض القطاعات، فمثلاً يبلغ متوسط أجور عمال النسيج في القطاع الخاص بالمحلة الكبرى من 350 إلى 400 جنيه شهرياً مقابل 12 ساعة عمل في اليوم، و وفقاً لبعض المصادر النقابية وإحصائيات هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة عن متوسط الأجور في مدينتي العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر يبلغ هذا المتوسط من 300 إلى 350 جنيه شهرياً، في حين تشير إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء إلى إن متوسط الأجر في القطاع الخاص يبلغ 175 جنيه أسبوعياً أي 600 جنيه شهرياً، وهو رقم مبالغ فيه وغالباً ما يتضمن التكلفة الإجمالية للعمالة بما فيها التأمينات والنقل وليس فقط الأجر النقدي كما أنه يأخذ المتوسط شاملاً أجر العمال وأجر الإدارة العليا دون الأخذ في الاعتبار الفجوة الكبيرة بينهما، فمثلاً يبلغ أجر نائب العضو المنتدب في شركة المعدات التليفونية بحلوان 135 ألف جنيه ومدير مكتبه 11 ألف جنيه شهرياً، بينما يتقاضى العامل 500 جنيه شهرياً، وبالتالي يكون المتوسط الناتج عن هذه الأجور- المتفاوتة بشدة- مضللاً للغاية.

الخلاصة إن الحد الأدنى المقترح للأجور لن يعني أي زيادة لما يتقاضاه العامل، الزيادة الوحيدة المفترضة هي تلك الناتجة عن خفض نسبة اشتراك العمال في التأمينات للنصف مما يعني انه لو أن أجر عامل ما 300 جنيها فان الزيادة لن تصل لعشرين جنيها، غير أن اشتراك العمال في التأمينات يعتبر أجرا مؤجلا يستفيد منه العامل في صورة تأمينات أثناء عمله و معاشا في حالة بلوغه الستين أو خروجه بالمعاش المبكر و معني تخفيض اشتراك العامل في التأمينات إن هذه الخدمات ستتقلص بشدة، بالإضافة إلى خفض معاشات العاملين بنسبة تصل لـ 50% , إذن فمحاولات الحكومة – إن صدقت – ستكون بداية لمرحلة جديدة من مراحل مص دماء العمال و استغلالهم و نهب قوتهم، وبالتالي فإن اقتراحات الحد الادني للأجور عمليا لا تعني أي زيادة لما يتقاضاة العامل ولا أي تأثير في تكاليف صاحب العمل، فما الذي يتبقى إذن من فكرة رفع الحد الأدني للأجور، في الواقع لا شئ مجرد محاولة لامتصاص الغضب العمالي الذي لم يعد النظام قادرا على تجاهله ولكن هذه المقترحات الهزيلة عن الحد الأدني للأجور تؤكد أنها أيضا غير قادرة علي امتصاص ذلك الغضب خاصة و أن هناك الكثير من الشكوك حول الأجور الحالية يثيرها تأخر الأجور في الكثير من المواقع مثل شركة «نونو إخوان» و «قوطة للصلب» في العاشر من رمضان و غيرهما، و امتناع أغلب شركات القطاع الخاص عن صرف العلاوة الاجتماعية للعمال، فالمناخ السائد حاليا هو هجوم أصحاب العمل علي الأجور وحديث الدولة عن رفع الحد الادني للأجور يعد تجاهلا شديدا للأوضاع القائمة بالفعل.

هذا التجاهل نابع من استبعاد أصحاب المصلحة الحقيقيون وهم العمال من المفاوضات حول الأجور، وإنفراد الحكومة و رجال الأعمال بمناقشة المسألة، فما الذي سيتفقون عليه في غياب العمال؟ ستخرج الحكومة بأبواقها وتهلل بوضع الحد الأدني للأجور بما يتناسب مع الاحتياجات، و رجال الأعمال سينجون من أي تكلفة زائدة أو زيادة في الأجور، و العمال الذين أبعدوا عن المائدة لن يشعروا بأي تحسن، وإذا كان تمثيل العمال في محاولات تحسين الأجور مقتصر على مشاركة تنظيم نقابي وقف ضد الاحتجاجات العمالية التي طالبت بجزء من الأجر المتغير فإنه لا يمثل العمال ولن يقدم لهم أي تغير في الأجر الأساسي.

أصداء الاحتجاجات العمالية دفعت الحكومة لمناقشة مسألة الأجور بشكل هزلي، و ربما دفع الحكومة لأخذ مسألة الأجور مأخذ الجد يحتاج لإضرابات أخرى تلوح في الأفق.