من 1997 إلى 2007:
الفلاحون والليبرالية الجديدة في مصر
مرت عشرة أعوام على القانون 96 لسنة 1992 بشأن تحرير العلاقة الإيجارية في الأراضي الزراعية الذي وُضع موضع التنفيذ في أكتوبر 1997 بعد مرحلة انتقالية امتدت خمسة أعوام. وقد كان القانون بمثابة الخطوة الأهم على صعيد تطبيق التحرير الاقتصادي في الزراعة. حيث مثل انقلابا على مكتسبات حظي بها الفلاحون على مدى أربعة عقود واعتبروها مسلما بها. ومن ثم فقد كان طبيعيا أن تنشأ حركة مقاومة لهذا القانون وأن تترتب عليه آثار اجتماعية مهمة في الريف المصري.
واليوم، في ظل صعود الحركة العمالية والاحتجاجات المطلبية بطريقة غير معهودة منذ عقود، تصبح مناقشة أوضاع الفلاحين، الذين يشكلون نحو ثلث سكان مصر، أمرا بالغ الأهمية، لأنهم لابد وأن يكونوا عاملا حاسما في أي تغيير قادم.
القانون 69
لم يكن القانون 96 لعام 1992 هو الإجراء الأول في مجال التراجع عن توجهات الحقبة الناصرية تجاه الفلاح. فقد بدأ هذا التراجع قبل نحو عشرين عاما من إصدار القانون. فقد صدر عام 1975 قانون جديد ينظم العلاقة بين المالك والمستأجر قام برفع الإيجار من سبعة أمثال الضريبة القديمة إلى عشرة أمثال الضريبة الآنية. وفي 1976 أُنشئ بنك التنمية والائتمان الزراعي ليحل دور التعاونيات الزراعية في إقراض الفلاحين، وهو ما ترتب عليه مزيد من الأعباء على فقراء الفلاحين بسبب ارتفاع الفوائد مقارنة بما كان عليه الوضع في السابق. وأظهرت أنشطة البنك انحيازا لأغنياء الفلاحين بالتوجه نحو منح القروض مرتفعة القيمة طويلة الأجل وبمنح القروض لشراء الآلات واستصلاح الأراضي.
ومع بداية حكم مبارك تم اتخاذ عديد من الإجراءات على صعيد تطبيق سياسات التحرير الاقتصادي وتشجيع رأس المال الخاص في قطاع الزراعة. ففي عام 1981 تم رفع الحد الأدني للملكية الزراعية في الأراضي المستصلحة إلى 200 فدان للفرد و300 فدان للأسرة، وتعديل قانون التعاونيات بإعطاء إعفاءات ضريبية لاستيراد الجرارات والآلات الزراعية. وبدأ منذ عام 1983 رفع التسعيرة الجبرية بالنسبة لبعض الفواكه. وخلال السنوات التالية تم رفع التسعيرة عن باقي السلع، وهو الإجراء الذي يخدم أغنياء الفلاحين وتجار الجملة، لأن حالة صغار وفقراء الفلاحين تجعلهم دائما في وضع المضطر إلى بيع المحصول فور الحصاد بالأسعار التي يفرضها التاجر. وتزامن مع هذا الإجراء رفع الدعم عن السماد والمبيدات الزراعية.
غير أن العنصر الذي يعطي القانون 96 دوره الحاسم هو تغييره لطبيعة العلاقة بين المالك والمستأجر. فالأخير كان يعتبر أن استمراره في زراعة الأرض التي يستأجرها مسألة مضمونة وأبدية. ومن ثم جاء القانون ليحدث تحولا جذريا في حياة المستأجرين، وهم أساسا من صغار وفقراء الفلاحين. حيث أن القانون لا يسمح لمن يملك أكثر من خمسة أفدنة باستئجار الأرض. وتضمن القانون أنه خلال الفترة الانتقالية (أي خلال الفترة من 1992 إلى 1997) يتم رفع الإيجار إلى 22 مثل الضريبة، أي من 200 إلى 500 جنيه. وفي نهاية السنوات الخمس تنتهي كافة عقود الإيجار دون أي تعويض، وتتم إعادة الأرض للمالك، الذي يصبح من حقه التصرف فيها بحرية مطلقة. ونص القانون على تشكيل لجان للمصالحة تكون مهمتها التوفيق بين الملاك والمستأجرين وقت وضع القانون موضع التنفيذ.
مقاومة الفلاحين للقانون
بلغ عدد المستأجرين وقت إصدار القانون نحو 904 ألف مستأجر، أي 31.1 % من عدد حائزي الأراضي الزراعية. ومن ثم فقد كان متوقعا أن يتأثر بالقانون نحو خمسة ملايين شخص، هم المستأجرون وأسرهم. وكان طبيعيا ألا يمر إجراء بهذا الحجم دون مقاومة شديدة من جانب المستأجرين في مواجهة القانون.
ويمكن القول إن حركة الفلاحين اتخذت عدة سمات، أولها ضراوة المقاومة والإصرار على التمسك بالحق في الأرض بكافة الوسائل بما فيها استخدام العنف، وهو ما يتناقض مع الصورة الشائعة حول سلبية واستكانة الفلاح المصري. فعلى سبيل المثال قام فلاحو قرية الشناوية ببني سويف بإغلاق الطريق الزراعي ووقف حركة القطارات وتحطيم نوافذ القطارات المتجهة إلى القاهرة. وفي لا سيفر بكفر الشيخ نشبت معارك عنيفة بين المستأجرين وعائلة المالك. وفي عزبة الزيني بالدقهلية رشق المستأجرون أقارب المالك بالحجارة وحاولوا تحطيم سيارات الشرطة. وفي قرية أبو نصار في الفيوم نشبت معركة بين المستأجرين والملاك أسفرت عن سقوط أربعة قتلى وأكثر من خمسين مصابا.
من ناحية أخرى، اتخذت حركة الفلاحين الطابع العفوي في معظم الأحيان. وقد بدأت الحركة فقط في الشهور الأخيرة السابقة على نهاية الفترة الانتقالية التي مرت معظمها دون احتجاجات تذكر. حيث كان هناك اعتقاد سائد بين الفلاحين بأن القانون لن يطبق، خاصة في ظل طول الفترة الانتقالية. غير أن إدراك المستأجرين لخطورة الأمر جاء في نهاية 1996 حينما صدر التقرير السنوي لبنك التنمية والائتمان الزراعي الذي وضع شروطا جديدة للائتمان تتفق والطبيعة المؤقتة لعقود الإيجار وفقا للقانون الجديد. وهنا بدأت الاحتجاجات في محافطة بني سويف. حيث اندلعت مظاهرات في عديد من قرى المحافظة، ووصلت إلى حد إغلاق الطرق كما تمت الإشارة. وخلال الفترة بين يناير حتى يوليو 1997 وقع عدد من النزاعات بين الملاك والمستأجرين في كفر الشيخ والفيوم والبحيرة والدقهلية على أثر قيام الملاك باتخاذ إجراءات تعزز الاعتقاد بأنهم سوف يسيطرون على الأرض، مثل إجراء مسوح للأراضي أو الاستعداد لبيع الأرض لطرف ثالث.
وبلغت الحركة ذروتها خلال شهر يوليو، حينما بدأت الجمعيات الزراعية في القرى في تغيير أوراق الحيازة من المستأجر إلى المالك. وهنا انتشرت مظاهر الاحتجاج في كثير من المحافظات، وبلغت أقصاها في قرى مثل كفر حكيم بالجيزة، وصفت العرفة ببني سويف، حينما تم حرق الجمعية الزراعية وفرع بنك التنمية والائتمان الزراعي.
من ناحية أخرى، كان فشل لجان المصالحة في إنجاز مهمتها، أو الأحرى انحيازها التام لجانب المالك، سببا في اندلاع عدد من النزاعات كما حدث في الشرقية والدقهلية. وكان طبيعيا أن يصاحب تطبيق القانون في شهر أكتوبر حدوث صدامات بين الملاك مدعومين من جهاز الأمن والأجهزة التنفيذية في القرى، وبين المستأجرين، وكان أبرز هذه النزاعات في قرى الدقهلية والفيوم والجيزة.
غير أن الطابع العفوي لحركة الاحتجاج على القانون 96 لا يعني أن الحركة افتقرت إلى أي نوع من التنظيم. ففي الفترة منذ نهاية 1996 وحتى منتصف 1997 تم تنظيم حملة لجمع التوقيعات، وتم بالفعل جمع 200 ألف توقيع. وخلال الفترة من أبريل إلى يوليو اتسمت الحركة بدرجة أعلى من التنظيم. حيث تم تنظيم أكثر من 160 مؤتمرا في أحزاب التجمع والعمل والناصري ومن جانب اللجنة القومية للدفاع عن الفلاحين. وانتقلت المؤتمرات بعد ذلك إلى القرى بناء على مبادرة من جانب المستأجرين الذين أصبحوا يدركون مدى التأثير المدمر للقانون على حياتهم. لكن بعد عقد عدد محدود من المؤتمرات تمكنت أجهزة الأمن من إجهاض هذا التحرك عبر حصار القرى المقرر عقد المؤتمرات بها ومنع الدخول إليها، وهو ما أسفر عن منع 37 مؤتمرا. وفي المرات التي نجح فيها المزارعون في تنظيم المؤتمرات اقتصرت على سكان القرية فقط بسبب عدم تمكن أهالي القرى المجاورة وناشطي الأحزاب من الوصول إليها. وخلال تلك الفترة تم القبض على عدد من نشطاء الحركة.
من ناحية أخرى، كان لنمط الملكية في القرية تأثير ملحوظ على تصاعد الحركة. فقد تركزت احتجاجات المستأجرين في القرى التي ساد فيها نمط الملكية الكبيرة، أي وجود عدد قليل من كبار الملاك يؤجرون الأرض لأعداد واسعة من المستأجرين. وهو ما يفسر وقوع العدد الأكبر من النزاعات في قرى محافظة الدقهلية التي تتسم أكثر من غيرها من المحافظات بتركز الملكيات. فقد شهدت 25 قرية في المحافظة نزاعات بين الملاك والمستأجرين، أهمها عزبة الزيني ومنية النصر وعزبة الحرية. وفي المقابل، فإن القرى التي سادت فيها الملكيات الصغيرة، فقد مر تطبيق القانون فيها بشكل أكثر هدوءا. ففي معظم الأحيان، تم تسليم الأرض دون مقاومة، وفي أحيان أخرى، عندما كان المستأجر يرفض تنفيذ القانون، كانت تتم إحالة الأمر إلى القضاء.
ومن الناحية السياسية فإن القرب من القاهرة كان عاملا مؤثرا على تنظيم الحركة. حيث أن المستأجرين في محافظات الجيزة وبني سويف والفيوم كان لهم القدر الأكبر من التواصل مع الأحزاب والنشطاء في القاهرة.
وبشكل عام، كان عدد الاحتجاجات محدودا. فمن بين 4376 قرية في مصر، شهدت 105 قرية فقط مقاومة للقانون، أو 2.4% من القرى. ومن ثم، فقد كان حجم المقاومة الفعلي للقانون غير متناسب مع الأثر المدمر الذي كان من المتوقع أن يحدثه على حياة مئات الآلاف من الأسر الفلاحية. وفي النهاية، لم تستطع المقاومة التي أبداها الفلاحون أن تجبر الدولة عن التراجع عن تطبيق القانون أو حتى إرجائه.
وقبل مناقشة العوامل التي أعاقت اتساع وتأثير الحركة، تنبغي التفرقة بين المستأجرين الملاك، والمستأجرين غير الملاك. فنحو نصف من تأثروا بالقانون – 473 ألف من بين 904 ألف مستأجر – هم من المستأجرين الملاك. ورغم أن هذه الفئة خسرت من تطبيق القانون، إلا أن حجم الخسارة يختلف عن خسارة المستأجرين الذين لا يملكون أرضا على الإطلاق، وعددهم 431 ألف مستأجر. فمن ناحية، خسر هؤلاء مصدر العيش الرئيسي. ومن ناحية أخرى، نظرا لأنهم لا يملكون أرضا، فلم يعد يحق لهم الحصول على القروض التي كانت، رغم فوائدها المرتفعة، عاملا مهما في المساعدة على تحمل تكاليف العملية الزراعية.
ويوضح الباحث حسنين كشك أن خسارة المستأجرين الملاك في ظل ارتفاع قيمة الإيجار عقب تطبيق القانون مباشرة، بلغت 239 جنيها سنويا، في مقابل 2536 هي خسارة المستأجرين الذين لا يملكون أرضا على الإطلاق. ومن الطبيعي أن تختلف درجة عزم وإصرار المستأجرين الملاك عن درجة عزم وإصرار الذين ليست لهم بدائل أخرى. غير أن ذلك، رغم أهميته في توضيح الاختلاف بين المستأجرين في درجة تأثرهم بالقانون، لا يعد عاملا كافيا في تفسير محدودية الحركة. ففي النهاية وجدت أكثر من 400 ألف أسرة ريفية نفسها وقد فقدت مصدر الحياة الرئيسي.
يمكن الإشارة إلى عاملين رئيسيين وراء ضعف الحركة، هما حجم القمع الذي مارسته الدولة، وعدم وجود قوى سياسية لها تأثير بين الفلاحين تستطيع أن تنظم وتطور الاجتجاجات العفوية المتفرقة. وفيما يتعلق بالعامل الأول، فقد أظهرت الدولة حسما واضحا في وضع القانون موضع التنفيذ. وقامت أجهزة الأمن بمساندة الملاك – خاصة كبار الملاك – في طرد الفلاحين من الأرض رغم أن ذلك يمثل تجاوزا لمهمة جهاز الأمن. اتخذت أجهزة الأمن كافة وسائل القمع المتاحة، حيث تم انتزاع الأرض بالقوة، واعتقال الفلاحين وتعذيبهم من أجل إجبارهم على ترك الأرض، والتهديد بالاغتصاب، ومنع تدفق مياه الري لأجل تدمير المحاصيل، واتلاف الزراعات قبل الحصاد، وتدمير المخزون من المحاصيل داخل المنازل، واقتحام القرى بعربات الأمن المركزي والعربات المصفحة. كما قامت أجهزة الأمن بمنع الاجتماعات والقبض على النشطاء كما تمت الإشارة إليه. وكانت حصيلة تطبيق القانون 40 قتيلا ومئات المصابين ونحو 1000 مقبوضا عليهم وفقا لتقديرات مركز الأرض.
من ناحية أخرى، أدى عدم وجود قوى سياسية لها نفوذ بين الفلاحين وقادرة على تنظيم المقاومة وراغبة في تصعيد المواجهة، إلى سرعة حصار احتجاجات الفلاحين والحد من قدرة الحركة على التأثير. بل إن الأحزاب التي قامت بمساندة الفلاحين في قضيتهم، وهي العمل والناصري والتجمع، كانت مختلفة في رؤيتها حول التعامل مع الأزمة. فعلى سبيل المثال، دعا حزب العمل إلى تطبيق نظام أكثر رجعية وظلما للمستأجرين، وهو نظام المزارعة، بزعم أنه الحل الأكثر عدالة للعلاقة بين الملاك والمستأجرين. كما أن تلك القوى، خاصة حزب التجمع، كانت حريصة على عدم تصعيد المواجهة مع الدولة، كما بدا في حرصها على التمسك بـ”الشرعية”، عبر الإصرار على عقد المؤتمرات الفلاحية داخل مقار الأحزاب وعدم تجاوز الخطوط الحمراء بتنظيم مظاهرات في الشارع.
رسملة الإنتاج الزراعي
لم يكن الدافع وراء تحرير العلاقة الإيجارية هو الضغوط التي مارسها كبار الملاك فحسب. فالأهم من ذلك هو التأثير المتوقع لهذا الإجراء على قطاع الزراعة في مصر. والفكرة الأساسية هنا هي أن تمكين الملاك من التصرّف التام في الأرض سوف يقضي على المعوقات التي كانت تمنع الأرض من أن تكون سلعة قابلة للتداول – حيث لم يكن ممكنا في ظل القانون السابق بيع الأرض دون موافقة المستأجر ومن ثم حصوله على نسبة من الثمن. وكان متوقعا أن يؤدي هذا التحول إلى تغير في نمط الملكية لصالح تركز الملكية، ومن ثم تغيير نمط الزراعة إلى المزارع الواسعة التي تنتج محاصيل من أجل التصدير. وفي واقع الأمر، فقد بدأ اهتمام الدولة في الدفع في هذا الاتجاه مع بداية حكم مبارك. فعقب تعيين يوسف والي وزيرا للزراعة مباشرة تم تشكيل لجنة للشئون الزراعية في مجلس الشعب. وبعدما عقدت اللجنة عدة اجتماعات خرجت بتوصيات حول ضرورة تجميع الملكيات الصغيرة المفتتة في ملكيات واسعة النطاق، وتحرير الإيجارات الزراعية باعتبارها الوسيلة الضرورية لذلك، وهو ما اتفق بطبيعة الحال مع رؤية المؤسسات المالية الدولية لتطوير الريف المصري.
والآن، عقب مرور عشرة أعوام على تطبيق القانون، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل شهد الريف المصري في تلك الحقبة تحولا ملحوظا في هذا الاتجاه؟ يصعب تقديم إجابة قاطعة على هذا السؤال قبل صدور التعداد الزراعي القادم، الذي يصدر كل عشر سنوات. ومن ثم لا يبقى سوى الاعتماد على الدراسات الميدانية وإصدارات الجهات المعنية بالمسألة الفلاحية في مصر.
تشير هذه المصادر إلى أن هناك توجها لدى أصحاب الملكيات الكبيرة الذين كانوا يؤجرونها إلى عديد من الفلاحين لزراعة الأرض بأنفسهم عبر استخدام الميكنة والعمالة الزراعية الأجيرة. لكن لم ترصد أي من هذه الدراسات ميلا يمكن الاعتماد عليه نحو تغير في نمط الملكية لصالح الملكيات الكبيرة. وهنا تنبغي الإشارة إلى عدد من السمات المرتبطة بالريف المصري، والتي تجعل من هذه العملية أمرا ليس بالسهولة المتصورة مقارنة ما حدث في دول أخرى. فندرة الأرض تعد سمة خاصة من سمات الريف المصري. وهو ما يجعل ثمن الأرض مرتفعا للغاية، حيث يترواح حاليا متوسط ثمن الفدان حول 300 ألف جنيه . وفي ظل هذه الحالة يصبح شراء الأرض على نطاق واسع مسألة مكلفة للغاية بالنسبة للمستثمر، خاصة إذا ما قورن بشراء أراضي غير مستغلة واستصلاحها.
ومن ناحية أخرى، فإن التفتت الشديد للملكية بسبب الميراث والنزاعات بين أصحاب الملكيات الصغيرة وعدم التحديد الدقيق لحدود الملكيات القزمية المتلاصقة، يضع عقبات قانونية كبيرة أمام عمليات البيع على نطاق واسع من أجل تركيز الملكيات والاستثمار الرأسمالي. وثالثا، فإنه لا يمكن اعتبار موافقة أصحاب الملكيات الصغيرة على بيع الأرض أمرا مسلما به. ذلك أنه في كثير من الأحيان تمثل هذه الملكيات الصغيرة مصدر الرزق الأساسي بالنسبة للأسرة الفلاحية. ومن ثم أيا كان ثمن الأرض مرتفعا، فإن عدم وجود بديل للزرق يجعل المالك يتردد كثيرا قبل اتخاذ القرار ببيع الأرض. ومن أجل التعرف على حالة تفتت الملكية الزراعية، تنبغي الإشارة هنا إلى أنه وفقا للتعداد الزراعي الأخير، الذي أجري عام 2000، يوجد في مصر نحو 4 مليون حائز (والحيازة هنا أصبحت تعني فقط الملكية لأن عقود الإيجار اصبحت في أغلبيتها الساحقة شفهية لا يتم تسجيلها في الجمعيات الزراعية التي تمثل أساس بيانات التعداد) للأراضى الزراعية منهم 2.4 مليون تقل حيازتهم عن فدان وهم يمثلون 60% من الحائزين، ويسيطرون على 16% من مساحة الأرض المزروعة.
الفلاح والعامل الأجير
بمجرد تطبيق قانون تحرير الإيجارات ارتفع إيجار الأرض من 500 إلى 1500 جنيه للفدان. وفي الوقت الراهن يبلغ إيجار الفدان نحو 3500 جنيه. وبسبب نظام العقد الشفهي غير المسجل في الجمعية الزراعية حُرم المستأجرون من الخدمات التي تقدمها الجمعية، وكذلك من حق الحصول على قروض من بنك التنمية والائتمان الزراعي، وأصبحت مدة التعاقد القصوى سنة واحدة، وأحيانا يجري التعاقد لموسم واحد. ولجأ آلاف الفلاحين إلى القضاء للمطالبة بالحصول على أرض استصلاح كتعويض كما ورد في المادة الخامسة من القانون. غير أنه تم رفض معظم الدعاوى باعتبار أن هذا النص غير ملزم. وفي كل الأحوال، فقد تم توزيع أرض استصلاح على 22 ألف فلاح، اضطر كثير منهم إلى تركها بسبب عدم توفير الأموال اللازمة لعملية الاستصلاح، واحتياج هذه العملية إلى سنوات قبل أن تبدأ في الإنتاج. وتشير تقارير مركز الأرض لحقوق الإنسان أن السنوات التالية على تطبيق القانون شهدت تزايد النزاعات على حدود الأرض ومياه الري بين صغار المستأجرين، وعودة أنواع من الجرائم كانت قد اندثرت مثل سرقة المواشي وحرق الزرائب. ومن ناحية أخرى، فقد المستأجرون الذين كانوا يسكنون داخل الأرض المستأجرة حقهم في السكن، حيث أن المادة السادسة من القانون التي تتحدث عن تعويض خسارة المستأجرين السكن هي أيضا مادة غير ملزمة. وخسر الفلاحون أيضا مصدرا مهما لتلبية الاحتياجات الأساسية. حيث أنه عادة ما كان يتم تخصيص جزء من الأرض المستأجرة لتلبية احتياجات الأسرة من الغذاء. كما اضطرت كثير من الأسر الفلاحية إلى بيع الماشية التي كانت مصدرا أساسيا للغذاء بسبب عدم قدرتها على إطعامها بعد فقدان الأرض.
ومن ثم، فلا شك أن قانون تحرير الأراضي الزراعية أسفر عن حدوث تدهور حاد في أوضاع المستأجرين. غير أن حدود هذا التدهور تحتاج إلى المناقشة. ففي وقت تطبيق القانون، كان التوقع الشائع لدى الكثيرين من المهتمين بالمسألة الزراعية، هو أن يصل التدهور إلى الانتقال من وضعية الفلاح الصغير أو الفقير، إلى وضعية العامل الأجير.
ومن المهم أن نشير إلى أن اختفاء عقود الإيجار المسجلة يجعل تحديد عدد المستأجرين الذي استمروا في إيجار الأرض وعدد من تركوها أمرا بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلا في الوقت الراهن. غير أنه كما هو الحال في مسألة رسملة الإنتاج الزراعي، تشير الدراسات الميدانية إلى أن التحول الذي حدث في وضع صغار وفقراء الفلاحين بعد تطبيق القانون هو مسألة أكثر تعقيدا من مجرد التحول المباشر إلى وضعية العامل الأجير. فقد ظل خيار إعادة استئجار الأرض أحد الخيارات التي لجأ إليها الفلاحون رغم ارتفاع قيمة الإيجارات. وتكون سبل مواجهة هذا الارتفاع إما ببيع الماشية أو الممتلكات المحدودة من الحلي أو العمل لدى الغير وقت جني المحاصيل.
ويرتبط ذلك بالطبيعة الخاصة التي يفرضها الوضع الطبقي للفلاح. فالهبوط إلى مرتبة العامل الرزاعي الأجير يظل المصير الأسوأ الذي يسعى الفلاح إلى تجنبه بكافة السبل الممكنة. فيكون على استعداد للاستدانة، وزيادة ساعات العمل، وتخفيض النفقات إلى حد يقترب من العدم، في سبيل الاحتفاظ بالأرض. وفي بعض المناطق تم تطبيق نظام المزارعة، حيث يتكفل الفلاح بالعمل اليدوي ويكون المالك مسئولا عن تكاليف الإنتاج، ويتم تقسيم الإيراد بين الطرفين مناصفة أو بنسبة الثلث إلى الثلثين. من ناحية أخرى، يوجد سبب موضوعي آخر يجعل مسألة الهبوط إلى مستوى العامل الأجير ليس خيارا متاحا في كل الأوقات. فالعمل الزراعي بالأجر لا يكون متاحا في كافة الأوقات، بل في مواسم بعينها، وقت الحصاد تحديدا، خاصة وأن الوجه الآخر من العملية، وهو تحول الريف إلى المزارع الكبيرة لم يتم بالسرعة والحجم المتوقع كما سبق القول. ومن ناحية أخرى، يفضل الكثير من أصحاب الأرض الاستعانة بالعمالة النسائية لرخص ثمنها بشكل ملحوظ عن عمالة الذكور. وتشير إحدى الدراسات إلى أن أجر العاملة وقت الحصاد يبلغ أربعة جنيهات يوميا في مقابل عشرة جنيهات للعامل. لا يعني ذلك أن الفلاح قادر على الاستمرار في هذا الحال إلى الأبد، لكنه يعني أن التحول الرأسمالي الكامل في الريف مسألة بعيدة المدى لا تتم في خطوط مستقيمة وبطريقة مباشرة كما كان يُعتقد وقت تطبيق القانون.
نزاعات ما بعد القانون
عقب صدور القانون، ومن أجل الحد من المشكلات المتوقعة، قرر مجلس الوزراء استثناء أراضي الإصلاح الزراعي والوقف والأراضي المملوكة للدولة من التطبيق، وهذه مساحتها 970 ألف فدان أو 16% من جملة الأراضي المزروعة. غير أنه خلال السنوات الأخيرة، واتساقا مع انحياز الدولة التام إلى جانب كبار الملاك، تجاوبت مؤسسات الدولة مع إدعاءات ورثة الإقطاعيين، وبرز توجه نحو طرد الفلاحين الذين يزرعون هذه الأرض باستخدام كافة الوسائل، وسواء كان الحائزون لتلك الأرض مستأجرين أو ملاكا اشتروها بالفعل من الدولة. حدث ذلك في سراندو، محافظة البحيرة، في مارس 2005، حينما فوجئ أهالي القرية بحملة قبض عشوائية علي الفلاحين شملت نساء وأطفال ورجال صاحبها التنكيل بالفلاحين عبر مداهمة المنازل وكسر الأبواب. وتم اقتياد مجموعة كبيرة من الفلاحين إلي مقر الأمن بمدينة دمنهور وتلفيق تهم الاعتداء على أرض وريث أحد الإقطاعيين القدامي لهم. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تم القبض على أكثر من خمسة وعشرين سيدة والاعتداء عليهن مما أسفر عن مقتل أحداهن. وقد تم عقد عدة مؤتمرات تضامن مع الفلاحين الذين رفضوا التصالح مع وريث الإقطاع منها مؤتمرا أعلنوا فيه وقوفهم بجانب إخوانهم المحبوسين ظلما من أجلهم جميعا وأنهم لن يتنازلوا عن أرضهم أبدا.
وتكررت القصة بطريقة أخرى في بهوت، محافظة الدقهلية، التي تعود مشكلتها إلى عام 1975 حينما تمكن ورثة أسرة البدراوي الإقطاعية من الحصول على قرار صدر من موظفين بهيئة الإصلاح الزراعي بالإفراج عن الأرض وهو ما لم يستجب له الفلاحون الذين ظلوا مصرين على حقهم في زراعتها. وفي بداية عام 2003 حاول المدعون طرد الفلاحين من الأرض عبر الاستعانة بالشرطة، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك. ومن وقتها وحتى الآن وهم يلاحقون الفلاحين قضائيا. وعقد الفلاحون مؤتمرا في القرية في يناير 2005 حضره حشد كبير من فلاحي القرية والقرى المجاورة. وخرج الفلاحون من المعركة بخبرة تكوين صندوق دفع به كل فرد بالقرية جنيها واحدا، بما في ذلك الأطفال، من أجل الإنفاق علي مصاريف القضايا الإدارية والصرف علي الفلاحين المقبوض عليهم وعائلاتهم.
وفي قرية دكرنس عام 2006 رفض الإصلاح الزراعي إعطاء 50 أسرة ما يثبت أنهم سددوا أقساط شراء الأرض التي حصلوا عليها عام 1962 كاملة في تواطؤ مع ورثة مالكة الأرض. وتم القبض على عشرات الفلاحين وطرد بعضهم من الأرض باستخدام البلطجية وفي حماية الشرطة. وفي نزلة الأشطر بمحافظة الجيزة قامت الحكومة ببيع أراضي الأوقاف التي كان يرزعها الفلاحون منذ عام 1941. وتكرر الأمر في عديد من القرى.
وبشكل عام، يشير توجه الدولة إلى تجريد الفلاحين من الأرض التابعة لها التي ظلوا ينتفعون بها على مدى عقود إلى أن هذه القضية ستظل مثارا للعديد من النزاعات في الفترة القادمة، بين الفلاحين من جهة، وبين أجهزة الدولة وورثة الإقطاعيين من جهة أخرى.
خاتمة
تناولت الأسطر السابقة التدهور الذي شهدته أوضاع الفلاحين في علاقته بقانون تحرير العلاقة الإيجارية. لكن ذلك ليس المصدر الوحيد لمعاناة الفلاح. فبفعل تطبيق سياسة الليبرالية الجديدة في الزراعة، يواجه الفلاحون أزمات متزايدة بسبب مشكلات الائتمان وتحرير أسعار المستلزمات الزراعية وانخفاض الأسعار العالمية للحاصلات وتخلي الدولة عن دورها السابق في تسويق المحاصيل الأساسية كما يحدث بشكل متكرر في القطن وقصب السكر.
إذن، فإن التدهور المستمر الحاصل في حياة الفلاحين الفقراء، والمقاومة التي يبديها هؤلاء في مواجهة ما يتعرضون له من نهب، يطرحان المسألة الفلاحية باعتبارها قضية أساسية في الواقع السياسي والاجتماعي المصري لفترة طويلة قادمة، ويجعلان الفلاحين أحد القوى الأساسية التي لا يمكن تجاهلها عند النظر إلى آفاق أي تغيير قادم. من هنا تشتد الحاجة إلى إعادة طرح الموقف الماركسي من القضية الفلاحية بالنظر إلى أهميته القصوى في تفاعل اليسار المناضل مع مقاومة الفلاحين لليبرالية الجديدة. وهنا يتخذ الطرح الماركسي الثوري موقفا نقديا إزاء موقفين متناقضين من المسألة الفلاحية، هما ما يمكن تسميته الموقف البرجوازي الصغير والموقف الماركسي المبتذل.
ينتقد الموقف الأول الماركسيين الثوريين القدامى والمعاصرين ويتهمهم بأنهم يحتقرون الفلاحين ونضالاتهم. ويصر أصحاب هذا الموقف على أن الماركسية الكلاسيكية فشلت في أن تعطي الفلاحين الدور السياسي المحوري الذي يستحقونه في البلدان المتأخرة كمصر بإصرارها على أن قيادة التغيير لابد أن تكون للطبقة العاملة. ويعتمد أنصار هذا التصور على فكرة مضمونها أن نضال الفلاحين في حد ذاته، وبدون أي مساعدة خارجية، يمكنه أن يخلصهم من استغلال المالك الكبير ويحقق لهم الجنة على الأرض.
غير أن هذا التصور يتجاهل الوضع المتناقض للفلاح الصغير، الذي رغم معاناته من الاستغلال بالدرجة التي تفوق كثيرا قطاعات من العمال الأجراء، يظل متمسكا بوضعية المالك وبالأمل (أو بالأحرى الوهم) في الصعود لمرتبة الملاك الأعلى. وهذا التناقض – الذي نجده مسيطرا لدى البرجوازية الصغيرة بكافة قطاعاتها – يجعل من الاستحالة بالنسبة للفلاحين الصغار المفتتين أن يخوضوا نضالاتهم وحدهم إلى النهاية من أجل التحرر من الاستغلال.
أما الموقف الثاني فهو معكوس الموقف الأول، وهو يقوم على نفي أية طبيعة تقدمية لنضالات الفلاحين، ويدافع عن النهب والاستغلال الرأسمالي بحجة تطوير قوى الإنتاج في الريف، وهو ما يعني في التحليل الأخير خيانة الفلاحين لصالح الرأسمالية بدعوى أن الأخيرة لها رسالة تقدمية في تطوير الريف.
على النقيض من هذين الموقفين فإن الموقف الاشتراكي الجذري يرى أن الجانب التقدمي في نضالات الفلاحين هو أنه يكشف التناقض بين الفلاحين الفقراء من جهة وبين مصاصي دمائهم من أغنياء الفلاحين والرأسماليين الريفيين. لكن يؤكد أن تجاوز حركة الفلاحين لحدودها الراجعة إلى التناقضات المشار اليها لا يأتي إلا من خارجها، من خلال قيادة الطبقة العاملة لها وتبنيها لمطالب الفلاحين الفقراء مع تطبيقها بالوسائل الجذرية الثورية.
المراجع الأساسية
1. حسنين كشك، إفقار الفلاحين: الآليات وسبل المواجهة، دار ميريت، القاهرة 2004.
2. أحوال الفلاحين في ريف مصر، تقرير، مركز الأرض لحقوق الإنسان، القاهرة 2001.
3. حقوق الفلاحين في خطر، تقرير، مركز الأرض لحقوق الإنسان، القاهرة، 2003.
4. هموم الفلاحين في مصر، ورشة عمل، مركز الأرض لحقوق الإنسان، القاهرة، أكتوبر 2002.
5. أوضاع الفلاحين وقطاع الزراعة في ظل العولمة، تقرير، مركز الأرض لحقوق الإنسان، 2002.
6. Ray Bush (ed.), Counter Revolution in Egyptian Countryside, Zed Book, London, New York, 2002