الحركة الفلاحية وقانون طرد المستأجرين
على مدى الشهور القليلة الماضية إستطاعت الحركة الفلاحية- التى بدأت بوادرها تظهر مع مطلع العام الحالى – أن تبرهن بأدلتها العملية الدامغة، وبالرغم من جوانب ضعفها، على ثلاثة أشياء أساسية: أولًا أن مشروع دولة مبارك الرأسمالية “لإصلاح” الريف والزراعة المصريين معادى على طول الخط لمصالح العمال الزراعيين المعدمين والفلاحين الفقراء وحتى الفلاحين المتوسطين، ثانيًا أن القوى السياسية المعارضة (شرعية أو غير شرعية.. يمينية أو يسارية) قد أفلست وإرتمت بشكل كامل فى مستنقع الرأسماليين وكبار الملاك، ثالثًا أن هناك طاقات ثورية كامنة ظهر بعضًا منها – وإن كان بشكل جنينى – لدى الفلاحين الفقراء.
وإذا ما كانت أحداث الشهور الماضية قد أثبتت شيئًا إضافيًا فهو أن التطورات العملية الجارية فى الصراع الطبقى وفى حركة الجماهير قد سبقت – كالعادة دائمًا- وعى وحركة الثوريين. وهو مايتطلب منهم – أى من الثوريين – مراجعة الأشياء الثلاثة الأساسية التى برهنت عليها الحركة الفلاحية إستعدادًا لمواصلة الإشتباك معها فى المرحلة الحامسة المقبلة.
المشروع البراجوازى “لإصلاح” الريف
تحت شعار “إصلاح” الريف المصرى و”تصحيح” أوضاعه أصدرت الدولة فى 1992 – وبعد سنوات من المحاولات والمخاوف القانون 96 لعام 1992: قانوان إفقار الفلاحين المستأجرين وطردهم. وتحت نفس هذا الشعار تحاول الدولة الاَن (فى 1997) تطبيق المادة 33 مكرر من هذا القانون التى نصت على أنه فى أكتوبر 1997 ستنتهى عقود الأراضى الزراعية إذا لم يتفق الطرفان – المالك والمستأجر – على غير ذلك.
إن الدولة بقانونها هذا، والفلاحين المستأجرين بنضالهم ضده وضد الدولة التى أصدرته، أفصحا بلغة أبلغ من أى لغة، عن الطابع الطبقى لمشروع “إصلاح” الريف المصرى.
“فالإصلاح” من وجهة نظر البرجوازية المصرية – يتطلب الإسراع فى القضاء على الفلاح الصغير. لماذا؟ من أجل إحكام قبضة الرأسمالية الكبيرة على عملية الإنتاج الزراعى.
وإذا كانت معركة الشهور الأخيرة معركة القانون 96 / 92 قد ركزت الضربة على جناح واحد من أجنحة البرجوازية الصغيرة الريفية هو المستأجرين الصغار، فإن الحرب الشاملة من أجل “إصلاح” الريف المصرى كانت ولاتزال تستهدف كل أجنحة البرجوازية الصغيرة فى الريف ملاكًا ومستأجرين.
وقد بدأت الدولة حربها المباشرة ضد الفلاح – الحائز – الصغير منذ ربع قرن على الأقل. فبعد سنوات وسنوات من التعرض للنهب (التوريد الإجبارى، بيع المحاصيل بأبخس الأسعار.. إلخ)، وأيضًا من الحماية (تحديد الإيجار بسبعة أمثال الضريبة العقارية، إمتداد وتوريث عقد الإيجار، توفير قروض ميسرة نسبيًا) تحت راية رأسمالية الدولة الناصرية.. بعد سنوات على هذا الحال بدأت الدولة فى تحويل الدفة: زادت الإيجارات المجمدة منذ 1952فى منتصف السبعينات، ألغيت لجان حل النزاعات بين الملاك والمستأجرين فى 1976، أنشئ بنك القرية – الذى أتبع قواعد مصرفية متشددة – كبديل عن الجمعيات الزراعية فى مهمة إقراض الفلاحين فى 1977، ألغى سقف ملكية الأراضى المستصلحة حديثًا فى 1981، أعيد تقنين التعويضات للملكيات المصادرة وفقًا لقوانين الإصلاح الزراعى فى 1983، بدأ إلغاء التوريد الإجبارى للمحاصيل بشكل تدريجى منذ أواخر الثمانينات وحتى اليوم، زادت الإيجارات الزراعية إلى 22 مثل الضريبة مع تطبيق القانون 96/92، والآن تسعى الدولة لإخضاع العلاقات الإيجارية الزراعية بشكل كامل لقوى السوق، وتسعى أيضًا لإنها إمتداد أو توريث عقود الإيجار.
كل هذه التدابير هى حلقات متواصلة، على مدى ربع قرن فى سلسة واحدة هدفها إخراج الزراعة المصرية من أزمتها المستعصية (تدهور قوى الإنتاج والإتحطاط التكنولوجى وتدنى معدلات النمو و الربحية) عن طريق تحويلها إلى فرع من فروع الإنتاج الرأسمالى. الطريق البرجوازى لإخراج الزراعة من أزمتها إذن هو طريق مركزة الملكية فى يد كبار الرأسماليين المتحالفين مع أغنياء الفلاحين (رأسماليو الريف) وتشجيعها على دفع إستثمار كبرى لتطوير طرق الزراعة والرى والصرف وبالتالى لزيادة الإنتاج والإنتاجية. الوجه الاَخر لهذه العملية هو الإهلاك المتسارع للفلاح الصغير: سواء عن طريق إنحداره الصريح إلى صفوف العمال الزراعيين (كما سيفعل القانون 96 – إذا ما طبق – مع آلاف الفلاحين، وكما كانت ولا تزال تفعل حالات إفلاس الفلاحين الصغار الذين لا يملكون قوة لمواجهة قوى السوق “الحرة” العاتية)، أو عن طريق تحويل ملكيته (أو إجارته) إلى “حيازة اسمية” تضخ أقساط وفوائد القروض، والضرائب، والريوع.. وغيرها إلى المرابين والسماسرة والنهابين الكبار بينما لا يتبقى للمالك (أو المؤجر) الصغير – الذي لا يملك في الحقيقة إلا مصدرًا للتعاسة والشقاء اسمه الأرض – سوى ما هو أقل من الأجر ليتدبر به حاله هو وأسرته التي يضطر عدد من أفرادها إلى الدخول في سوق العمل كعمال زراعيين أو كأنفار في مقاولات المدن الكبرى!!
القانون إذن هو ضربة قاصمة في سياق حرب لتكسير عظام الحائز الصغير. الضربة هدفها النهائي هو “تحرير” “ربع” الأراضي الزراعية في الدلتا والوادي من “سدس” الحائزين ليستحوذ عليها ملاكها – صغارًا وكبارًا – لفترة انتقالية حتى يقع معظمها في نهاية المطاف – وبعد دورة من البيع والشراء – في يد الرأسماليين وكبار الملاك، وليهلك في سياق هذه العملية آلاف وآلاف من المستأجرين الصغار.
إفلاس قوى المعارضة
وإذا كانت الحركة الفلاحية قد فضحت الطبيعة البرجوازية والمعادية لفقراء الفلاحين لمشروع “إصلاح” الريف المصري وللقانون 96 / 92، فهي أيضًا قد كشفت أي فساد وأي انحطاط تعيشه المعارضة المصرية. لقد فرزت المعركة الفلاحية – على الرغم من عدم اتساعها وعدم تبلورها – كل القوى السياسية المصرية ووضعتها جميعًا في خانة أعداء النضال الفلاحي.. أعداء مصالح البرجوازية الصغيرة الريفية. ولكن، بالرغم من أن كل القوى السياسية اتفقت على معاداة المصالح الأساسية لجماهير الفلاحين الفقراء، إلا أنها اختلفت حول الشكل الذي اتخذه هذا العداء.. أي حول الأسلوب الذي اتبعه كل منها لخيانة فقراء الريف. فلننتظر في هذه المسألة بتفصيل أكبر لما لها من تأثير هام على مصير الحركة الفلاحية في مرحلتها القادمة.
لقد انقسمت القوى السياسية المصرية في شكل معاداتها لنضال الفلاحين إلى الأقسام التالية:
1- الوفد، الأحرار، الإخوان المسلمين: المعبرين الصرحاء عن البرجوازية المصرية
كالعادة دائما، وقفت هذه القوى السياسية الثلاث بشكل صريح في صف كبار الملاك والرأسماليين، وأعلنت موافقتها على القانون وعلى طرد المستأجرين. أعلن الوفد والأحرار موقفهما منذ أول لحظة، أما الأخوان فقد أعلنوا موقفهم “على استحياء” لتبرئة أنفسهم بعد أن اتهمهم حسن الألفي “اتهامًا” لا يستحقونه وهو أنهم يحرضون الفلاحين على العنف وعلى عدم تطبيق القانون 96 / 92.
وبالطبع طنطن أعداء الجماهير هؤلاء بتبريرات – استخدموا فيها كلمات وعبارات جوفاء مثل “العدالة” و”الشريعة” و”حقوق الملاك المظلومين”.. إلخ – حاولوا فيها باستماتة، وكأي برجوازي وقح، أن يجردوا المعركة من مضمونها الطبقي والاجتماعي وأن يحولوا إلى مسألة حقوقية.. أي إلى مسألة الدفاع عن “حق” البرجوازية في الملكية والاستغلال! ولكن عندما وقعت المعارك، وعندما استباحت جيوش القمع دماء الفلاحين الفقراء، صمت هؤلاء صمت القبور لتظهر للجميع حقيقة “عدالتهم” و”ديمقراطيتهم” و”معارضتهم”.
2- التجمع، الحزب الشيوعي، حزب العمل: الذيول الانتهازيين للبرجوازية المصرية
هنا في هذا المعسكر – الذي يضم يساريين (!) وإسلاميين – تتجلى بأوضح صورة، كل أشكال الانتهازية والإفلاس السياسي. فهؤلاء يدعون أنهم يعارضون القانون ويدافعون عن الفلاحين والحركة الفلاحية بينما هم في الحقيقة، وكالعادة، ذيول للبرجوازية وكبار الملاك.
حزب التجمع والحزب الشيوعي من داخله (فالقيادات هنا وهناك واحدة) ظلا لسنوات يبنيان في “اتحاد الفلاحين” لمواجهة الخطر القادم. ولكن عندما بدأت المعركة الطبقية في الريف تشتعل في الشهور الأخيرة، انكشف الحزب واتحاده الورقي، وظهر لجموع الفلاحين الذين التفوا حولهما – بالتجربة العملية – أي موقف يتبناه هؤلاء. لعب الحزب – على يد قياداته الفلاحية بالذات – دور البرجوازي الناصح والعاقل الذي يتفهم ضرورة المضي قدمًا في الطريق “البرجوازي” لإصلاح الريف (من أجل “العدالة” و”الاستمرار” و”زيادة الإنتاج”)، ولكن الذي يطالب بالتمهل خمس سنوات وبمراعاة ظروف الفلاحين “الغلابة”!
وعندما اكتشف هؤلاء الانتهازيون أن البساط يسحب من تحت أقدامهم، وأن الفلاحون ينفضون من حولهم غاضبين (بعد مؤتمر 30 أبريل الشهير)، وأن عدد من عناصر الحزب الأكثر جذرية يتململون.. عندما اكتشفوا هذا، وفهموا أن الموجة أعلى من أن “تحتويها” الشعارات اليمينية القذرة المطروحة، قرروا أن ينعطفوا خطوة واحدة باتجاه اليسار. تراجع الحزب عن موقف التأجيل خمس سنوات وبدأ يطرح مواقف غامضة غموض انتهازي محنك (عدم طرد الفلاحين، رفع الإيجار كل 3 سنوات، صندوق لتمويل شراء الفلاحين للأراضي.. إلخ).
أما حزب العمل، فقد قرر من أول مرحلة في المعركة ركوب الموجة: شعارات راديكالية براقة.. وتحركات نشطة وفعالة (على يد محسن هاشم أمين الفلاحين).. يخفيان ورائهما انتهازية ماكرة. فبينما كان محسن هاشم ينظم المؤتمرات، وبينما كان أعضاء الحزب يطالبون الفلاحين برفع الرايات السوداء احتجاجًا على القانون، كانت جريدة الشعب تتبرأ من العنف الفلاحي، وتنصح الدولة بحل المشكلة وإلا ضاع الاستقرار، وتطالبها بتنفيذ وسائل لجان التوفيق (التي كون الحزب نفسه عددًا منها!)، وقروض لشراء الأراضي، وأراضي بديلة للفلاحين المضارين. باختصار كان الحزب نشيطًا في حشد الفلاحين وتعبئتهم وتحريكهم، وكان نشيطًا أيضًا في سوقهم إلى لجان التوفيق، وإلى القبول بخدعة القروض!! أما مؤخرًا – وبعد القبض على محسن هاشم – فقد اختفى موضوع الفلاحين من أجندة الحزب ومن صفحات جريدته (الشعب) ليحل محله موضوع آخر، هو الحملة على الألفي وزير الداخلية، يمارس فيه الانتهازيون – الذين يوظفون كل المعارك السياسية لأهدافهم الانتهازية مهمتهم في التحرش “بأهل الحكم” (كما يسميهم عادل حسين) ومناوشتهم من أجل إقناعهم بعقد صفقة مصالحة وطنية لإنقاذ الوطن!
3- الناصريون: انتهازية الصمت
لقد أعفانا الحزب الناصري من الحديث كثيرًا عن موقفه من الحركة الفلاحية. فالحزب – الممثل الشرعي لليمين الناصري – بعد أن أعلن موقفه “الكلامي” برفض القانون، اكتفى بهذا ورفض أيضصا أن يفعل أي شيء. إذا ما بحثت عن الحزب في أي مؤتمر أو نضال فلاحي فلن تجد له أثرًا. وكذلك إذا ما تفحصت الأمر قليلًا ستجد أن هذا الحزب – الذي تقوده وتسيطر عليه عناصر من رجال الأعمال التي تحب أن تعطي نفسها مسحة قومية محبة للوطن ولاستقلاله! – بالرغم من رفضه الكلامي للقانون يشعر “بأوجاع” أغنياء الفلاحين وكبار الملاك أكثر ألف مرة من شعوره بنهب الفلاح الصغير. وبالتالي فهذا الحزب – مرة أخرى بالرغم من رفضه الكلامي للقانون – يستطيع أن يتفهم مقتضيات “العدالة” و”حق الملكية”.. إلخ، ويستطيع أيضًا أن يتفهم أن الناصرية – طبعة 1997 – لا يمكن أن تعني إلا كلام ولغو فارغ.
4- الجماعات الإسلامية: انحطاط البرجوازية الصغيرة
مؤخرًا، أصدرت الجماعة الإسلامية بيانًا أعلنت فيه موقفها من الحركة الفلاحية ضد تطبيق القانون 96 / 92 موقف الجماعة الإسلامية هو أنها تقف مع شرع الله.. أي مع حرية المالك في إنهاء عقد الإيجار وفي طرد المستأجر. ألحقت الجماعة الإسلامية بهذا أنها تتعاطف مع فقراء المستأجرين ولكن شرع الله لا راد له.
يكشف لنا هذا الموقف بكل وضوح طبيعة الجماعات الإسلامية المسلحة. هذه الجماعات مشبعة بمنظور الإرهاب الفردي تمامًا، ولا تطيق الجماهير وحركتها، المرة تلو المرة تثبت هذه الجماعات موقفها من مسألة كيفية التغيير: التغيير هو مهمتنا نحن الجماعة الضيقة من المؤمنين، والجماهير لا دور لها ولا وجود.. بل أنها قد تكون من الأعداء.
المذهل أن هذا الموقف، الممتزج برجعية شديدة في القضايا الأساسية للصراع الطبقي، قد عبر عن نفسه بهذا الوضوح في مسألة الفلاحين الفقراء. فالجماعات الإسلامية – التي جندت معظم كوادرها من مثقفي الريف البرجوازيين الصغار الذين عايشوا وفهموا تمامًا مقدار النهب والاستغلال الذين يتعرض لهما الفلاحين والفقراء – لم تستطع ولم ترد أن تتزحزح عن موقفها حتى في قضية اكتوى معظم قياداتهم بنارها.
ومما يزيد الطين بلة، أن العداء للنضال الفلاحي ولمطالب فقراء الريف لدى الجماعات الإسلامية قد امتزج بسيطرة ميول المهادنة ووقف العنف في أوساطهم. قرر الإسلاميون المسلحون عقد هدنة مع الدولة، وأعلن عدد كبير منهم وقف العمليات المسلحة، في نفس الوقت الذي أكدوا فيه أنهم ليسوا في صف نضال الجماهير إذن فلا إرهاب فردي، ولا إيمان بدور الجماهير التغييري، ولا وقوف في صف حركتها الجماهيرية! فماذا يتبقى إذن؟ يتبقى كل ما هو أصيل في حركة البرجوازية الصغيرة: التذبذب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، والانتقال من الرومانسية الفجة إلى الصفقات الرخيصة.
الطاقات الثورية في الحركة الفلاحية
ننتقل الآن إلى المسألة الثالثة – والأهم – التي أثبتتها الحركة الفلاحية في الشهور الأخيرة: طاقات التجذير والثورية لدى الفلاحين الفقراء (في حالتنا هذه المستأجرين الصغار).
اندلعت الحركة الفلاحية فجأة وبشكل عفوي بداية من مطلع هذا العام. انتقلت الحركة من منطقة إلى أخرى (بني سويف، الجيزة، الدقهلية، والمنيا، قنا… إلخ)، واتخذت أشكالًا متعددة (مؤتمرات فلاحية بدرجات متفاوتة من التنظيم والتدخل للقوى السياسية، تجمهرات ومظاهرات، رفع رايات سوداء، حرق جمعيات زراعية، عنف فردي..)، ولكن الأمر الواضح تمامًا.. والذي يجمع بين كل أشكال ومواقع الحركة.. هو أنها عبرت عن طاقات وإمكانات حركة فقراء الفلاحين.
في هذه المرحلة من تطور الرأسمالية المصرية أصبحت الحيازة الصغيرة للفلاح الفقير (سواء كان مالكًا أو مستأجرًا) نقمة أكثر مما هي نعمة. الرأسماليون ودولتهم يتخذون بشكل متتابع ومتوحش إجراءات لنهب واستنزاف وأخيرًا طرد – الفلاح الفقير. في هذه المرحلة بالذات يستطيع الحائز الصغير – الذي يحتوي وضعه الطبقي على تناقض بين كونه مستحوذًا على أرض، وبين كونه منهوبًا ومستنزفًا من جانب الرأسمالي والمرابي والدولة – أن يستشعر الروابط العميقة التي تصله والمرابي والدولة – أن يستشعر الروابط العميقة التي تصله بالمعدمين وبطبقة العمال الأجراء في الريف والمدينة، وأن يفهم تمامًا أن الرأسمالية تعني هلاكه واستنزافه.
هذا بالضبط هو جوهر الطابع التقدمي، والمعبر عن إمكانيات ثورية، في حركة الفلاحين المستأجرين. لقد استيقظ في جموع واسعة من الفلاحين – بشكل غير مسبوق، وبسبب نضالهم بالذات – الوعي (وإن كان جنينيًا) بالعداء المستحكم بينهم وبين الدولة. وبدأت تختمر في صفوف أجزاء منهم بوادر فهم سياسي للتحالفات والمشاريع الطبقية المصاغة والمنفذة. وبالرغم من أن المعركة تدور للحفاظ على الحيازة – أي للحفاظ على وضع الحائز (البرجوازي) الصغير – إلا أنها أيضًا تدور ضد مشروع الإصلاح البرجوازي للريف، وبهذا المعنى فهي تساهم في شد المستأجر الصغير، الذي أصبح يفهم أكثر علاقة هلاكه بالرأسمالية وبمشاريعها.. إلى صفوف الأجراء في الريف والمدينة، وتساهم في ربطه بالمنظور الاشتراكي العمالي الثوري لإصلاح الريف.
ولكن للأسف فإن هذه المعركة تدور في ظل ظروف تراجع وانحسار ودفاعية نسبيين في الصراع الطبقي والحركة العمالية، وفي ظل صغر حجم وتأثير الحركة الثورية. نضال الفلاحين اليوم هو منطقة المد المركزية في بحر من التراجع النسبي، ولذلك فهناك صعوبة جمة في تفتيح إمكانياته الثورية وشدها إلى مجرى اشتراكي هادر. فهذا يحتاج إلى أن تكون الطبقة العاملة قادرة على أداء هذا الدور.
إن عدم الاتساع، وفقدان التواصل، والتبعثر الذين كانوا من سمات الحركة الفلاحية هم من السمات التي تعكس الظروف الراهنة للصراع الطبقي وللحركة الثورية (خاصة في ظل إفلاس كل قوى المعارضة). ولذلك رأينا أن النضال الفلاحي للمستأجرين الفقراء لم ينجح حتى اليوم في خلق حركة متواصلة ومتوسعة ومنظمة وذات إيقاع منسجم تشد ورائها فئات أخرى من فقراء الفلاحين والمعدمين.
ولكن الواقع هو أن المعركة لم تنته بعد، وأن الحركة كشفت عن طاقات هائلة. وسيبرهن الصراع الطبقي ذاته على المدى الذي يصل إليه تفتح هذه الطاقات وتكثيفها. سيبرهن الصراع ذاته على مدى قدرة هذه الحركة على تفجير صراع أشمل وأوسع في الريف (والمدينة).. خاصة وأن الموقعة الكبرى ستدور في شهر أكتوبر المقبل.
مهام الاشتراكيين الثوريين
منذ حوالي قرن من الزمان كتب إنجلز موجهًا حديثه إلى الاشتراكيين الماركسيين الفرنسيين حول مهام الاشتراكيين في الحركة الفلاحية، قائلًا:
إن تطور الرأسمالية يحطم بشكل لا رجعة فيه ملكية الفلاح الصغير. إن حزبنا (يقصد حزب الاشتراكيين الماركسيين) واضح تمامًا حول هذه النقطة، لكنه ليس لديه أي مبرر على الإطلاق أن يسرع هذه العملية بتدخلات من جانبه. ومن حيث المبدأ، علينا أن لا نترك فرصة لإتباع وسائل منتقاة بشكل صحيح هدفها جعل التدهور الحتمي للفلاح الصغير أقل إيلاما، إلا واتبعناها. ولكن إذا ما تجاوزتم هذا الحد – أي إذا ما أردتم الإبقاء على الفلاح الصغير بشكل دائم – فأنتم بهذا تحاولون فعل ما هو مستحيل اقتصاديًا، وبذلك تضحون بالمبادئ وتصبحون رجعيين.
إن ما يقصده إنجلز هو أن من واجب الماركسيين الثوريين أن يقفوا إلى جانب الفلاح الصغير في كل معاركه ضد الدولة والرأسماليين الذين يستنزفونه ويجعلون هلاكه مؤلمًا وقاسيًا، ولكن ومن واجبهم أيضًا أن يؤدوا هذه المهمة من منظور اشتراكي ثوري مبدأي. ما معنى هذا؟ معنى هذا أولًا ألا يكذبوا بصدد حتمية هلاك الفلاح الصغير بسبب من قوانين السوق الرأسمالي (المزاحمة وإفلاس الصغار تركيز الملكية)، وبالتالي ألا يكذبوا عند الحديث عن تأثير أي إجراء في صالح الفلاحين الصغار. فأي إجراء مهما كان (تخفيض ضرائب، قروض أفضل.. إلخ) لن يؤدي إلى إيقاف التدهور التاريخي للفلاح الصغير الناتج عن المنافسة والسوق، وإنما سيؤدي فقط إلى إبطاء التدهور أو جعله أقل إيلامًا. المقصود هو أن الثوريين إذا ما روجوا لو هم أن إجراء معين مهما كان سيحفظ وجود مزدهر دائم للفلاح الصغير سيكونون قد وقعوا في حبائل الانتهازية.
المعنى الثاني للدفاع عن الفلاحين الصغار من منظور ثوري، هو ألا يقف الثوريون مع أي إجراء يحقق بعض مصالح الفلاحين الصغار (أو المتوسطين) ولكنه يتناقض مع مصالح العمال الزراعيين (القاعدة الأساسية للثورة الاشتراكية في الريف). وهذا أمر يحدث عندما يبدأ الثوريون في محاولة لجذب شرائح أوسع من الفلاحين في الدفاع عن مصالح فلاحين متوسطين (يشتغلون لديهم عمال زراعيين) في قضايا تخص تكاليف العمالة الزراعية.. إلخ.
المعنى الثالث والأخير للدفاع الثوري عن الفلاحين الصغار، هو أن يدخل الثوريون كل المعارك الفلاحية من منظور جذب الفلاحين الصغار (وقد يكون قسمًا من الفلاحين المتوسطين) إلى صف الاشتراكية.. أي إلى صف ديكتاتورية البروليتاريا وإجراءاتها في مجال الزراعة (مثلا إلغاء الديون على الفلاحين الفقراء، وتثبيت حقهم في الأرض، معاونتهم في زراعتها، تطوير علاقات تعاونية اشتراكية في المناطق التي لا يستحوذ عليها الفلاحين الفقراء.. إلخ). وبديهي أن هذا المعنى الثالث الأخير بالذات لا يمكن أن يؤديه الثوريون بشكل ذو تأثير إلا في ظروف حجم ونفوذ كبيرين للمنظمة أو الحزب العمالي الثوري.
إن المنظور الذي يطرحه إنجلز هو الذي يجب أن ينظم حركة الثوريين في معركة القانون 96 / 92 (مع الوضع في الاعتبار مسألة تغير الظروف – بالذ ات مسألة الحجم والتأثير المحدودين للثوريين المصريين).
= القضية إذن هي أن يدعم الثوريون المصريون بكل طاقاتهم نضال الفلاحين ضد الدولة وضد كبار الملاك؛ وهي أن ينشغلوا بمقدار ما تستطيع طاقاتهم، في التعبئة والحشد والتنظيم، وفي دفع الحركة للأمام، وفي ابتكار وسائل وأدوات لتوسيع مدى الحركة ولربط أجزائها ببعضها البعض.. إلخ.
القضية أيضًا هي أن يسعى الثوريون للتنسيق مع كل من يقبل هدف إسقاط القانون ووسائل المقاومة الفلاحية القاعدية الجماهيرية (كالناصريين اليساريين.. إلخ)، وذلك من أجل توسيع دائرة الجبهة الموحدة حول مطلب الإسقاط.
القضية من جانب آخر هي ألا يكذب الثوريون في دعايتهم في المناطق القلاحية.. هي أن يشرحوا الصورة بكاملها بدون تلفيق أو تزويق، وبدون محاولة للتأثير عن طريق الخداع. وهذا معناه أن يشرحوا أن إسقاط القانون – لو تم – لن ينهي المشكلة، وأن طبيعة الرأسمالية هي إفقار الفلاح الصغير.. إلخ. ومعناه أيضًا ألا يغرقوا في الجزئي (القانون)، دون ربطه بالكلى (الرأسمالية والاشتراكية والفلاح الصغير).
القضية من جانب ثالث، هي أن يفهم الثوريون أن حجمهم وظروف الصراع الطبقي لن يسمحا لهم بلعب دور ذو تأثير في جذب الفلاحين الصغار المناضلين (طبقة واسعة ومفروشة على أرض مصر كلها) إلى الاشتراكية. هذا يحتاج إلى حزب كبير وإلى مد في حركة الطبقة العاملة. ولكن في مقدور الثوريين أن يخلقوا تأثيرًا في مناطق فلاحية محدودة.. تأثير قد يساهم في جعل هذه المناطق رؤوس حراب مؤثرة على مسار الحركة بهذه الدرجة أو تلك. يتم هذا التأثير عن طريق الانخراط في المعركة (التعبئة والحشد من أجل إسقاط القانون)، وفي نفس الوقت طرح المنظور الاشتراكي بكامله في الدعاية.. فهذا وقت يمكن أن يصغي فيه إلينا – وإلى موقفنا الاشتراكي من المسألة الفلاحية – جمهور واسع نسبيًا.. خاصة إذا ما كنا نحاول – بمقدار حجمنا – الانخراط في معركة المقاومة الفلاحية.