الحركة العمالية المصرية عند مفترق الطرق.. (الجزء الثاني)
مقدمة:
ارتبط مسار الحركة العمالية المصرية خلال السبعينات والثمانينات بمفارقتين بارزتين. الأولى هي أن انهيار الأساس المادي لسيطرة الدولة على الحركة العمالية (في سياق التراجع عن العقد الاجتماعي الناصري) قد اقترن بتشديد سيطرة الدولة على التنظيم النقابي الرسمي وبالتالي تزايد اغتراب الطبقة العاملة عن هذا التنظيم السلطوي الأصفر. أما المفارقة الثانية فهي أن تمرد الطبقة العاملة المصرية المتزايد على هذا التنظيم النقابي ظل تمردًا جزئيًا يتبدى أثناء الإضرابات والاعتصامات الكبرى ثم ما يلبث أن يتراجع سريعًا دون أن يفرز بدايات حقيقية لبديل نقابي قاعدي ديمقراطي.
كان هذا هو حال الحركة العمالية طوال الربع قرن الأخير. فما هو الجديد؟ نحاول في هذا الجزء الثاني من المقال أن نبين أن برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أقدمت عليه البرجوازيات المصرية منذ 1991 يمثل تطورًا كيفيًا بالغ الأهمية في سياسات تجاوز الأزمة على حساب الطبقة العاملة والفقراء، وأننا بالتالي قد نكون إزاء مفترق طرق حقيقي في مسار الحركة العمالية المصرية. وسنركز بالأساس على تأثير برنامج الإصلاح هذا على التشغيل (أو البطالة) في مصر وما يرتبط بقضية البطالة من تحولات في مستوى الأجور وتوزيع الدخل. وأهمية مسألة التشغيل هذه تكمن تحديدًا في أن “ضمان العمل” أهم المكاسب التي حصل عليها العمال المنظمون في ظل العقد الاجتماعي الناصري.
تفاقم الأزمة في الثمانينات يمهد للـ”إصلاح”:
عندما بدأت بوادر الأزمة الاقتصادية تظهر على رأسمالية الدولة الناصرية في مصر تجاوز معدل البطالة 2.5 %. ومنذ ذلك الوقت راح هذا المعدل يتزايد بشكل مطرد حتى بلغ حوالي 7.7 % وفقًا لتعداد 1976، ثم 12% 1986 والمبنى على عينه قدرها 20 % ونشرت نتائجه في ديسمبر 1989)، ثم 17.5 % عام 1990 وفقًا لتقدير منظمًا العمل الدولية.
كانت الناصرية قد نجحت في تخفيض معدل البطالة بشدة بفضل عاملين أساسين. أولاً، النمو السريع، حيث بلغ معدل النمو السنوي في المتوسط حوالي 6 % خلال الفترة 57-1965، في حين نمت الصناعة التحويلية خلال الفترة نفسها بمعدل سنوي يزيد على 10 % وثانيًا، سياسات التشغيل الناصرية، حيث حاولت الدولة أن تخلق سوقًا استهلاكيًا كبيرة بواسطة التوظيف الواسع والأجور المرتفعة نسبيًا في القطاع العام.
هكذا التزمت الدولة بسياسية وتعيين جميع خريجي التعليم العالي والمتوسط، وكانت هذه السياسة تهدف إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي من ناحية وخلق السوق الاستهلاكية التي تشجع النمو الصناعي من ناحية أخرى. وجدير بالذكر أن هذا النوع من السياسات كان سائدًا في الرأسمالية العالمية بأشكال متفاوتة خلال الخمسينات والستينات، ففي ظل الانتعاش الكبير الذي تلي الحرب العالمية الثانية ومع ارتفاع معدلات الربح إلى مستويات قياسية، مالت الرأسماليات المختلفة لمنح الإصلاحات الاجتماعية التي تهبط قليلاً بهامش الربح ولكنها تضمن الاستقرار الاجتماعي والسياسي كما تسهم أيضًا في زيادة الإنتاجية.
إلا أن مشكلة الناصرية تمثلت تحديدًا في أن مستوى الإنتاجية لم يرتفع بالقدر الذي يتوائم مع ارتفاع الأجور الحقيقية وهو ما أدى إلى انخفاض ربحية القطاع الصناعي بحلول منتصف الستينات. وهكذا بدأ معدل الاستثمار يتباطأ ثم جاءت هزيمة 1967 لكي تحول الأزمة إلى انهيار يقتضي إعادة نظر جذرية في الإستراتيجية الاقتصادية.
وعلى الرغم من التراجع عن سياسات التشغيل الناصرية منذ أواخر الستينات فالملاحظ أن معدل البطالة لم يصل إلى مستويات “خطرة” إلا في النصف الثاني من الثمانينات. ويعود ذلك لظهور آليات مختلفة ذات طابع عرضي استطاعت استيعاب الجزء الأكبر من قوة العمل خلال الفترة 67-1985. فقد حدث توسع ضخم في الاستخدام الحكومي العام من خلال القوات المسلحة بين حربي 1967 و1973. وفي أعقاب حرب أكتوبر ظهرت آليات جديدة لاستيعاب العمالة أبرزها الهجرة إلى الدول العربية النفطية والنمو السريع لقطاع التشييد والبناء في ظل وراج السبعينات. فقد استوعب الهجرة الخارجية نحو 20 % من القوة العاملة المصرية في الفترة 73-1985 كما استوعبت قطاع التشييد والبناء نحو 21 % من قوة العمل في نفس الفترة. وكذلك ارتفعت نسبة العاملين “عير المصنعين” والذين ينتمون لقطاعي الإنتاج والخدمات الهامشية (ما تسميه بيانات الدولة “القطاع غير الرسمي”) من 1.8 % من أجمالي العمالة عام 1976 إلى 6.7% عام 1986، وذلك وفقًا لبيانات التعداد السكاني.
ومع تراجع أسعار البترول وخفوت الرواج الاقتصادي المصطنع في منتصف الثمانينات، عجزت الآليات السابقة عن الاستمرار في استيعاب قطاعات واسعة من العمالة. فمن ناحية تراجع الطلب على العمالة المصرية في الخليج وليبيا وشهد سوق العمل هجرة عائدة حقيقية أدت إلى انخفاض العمالة المصرية في الخارج (وتفاقمت هذه المشكلة أكثر بعد أزمة وحرب الخليج في 90/ 1991). كما تقلص الأنفاق الاستثماري في قطاع التشييد وتباطأت قدرته على استيعاب العمالة، فضلاً عن تشبع القطاع الهامشي وعدم قدرته على امتصاص المزيد من المتعطلين. كل ذلك في الوقت الذي زاد فيه تقليص التشغيل الحكومي. وجدير بالذكر في هذا المقام أن قدرة القطاع الزراعي على استيعاب العمالة راحت تتدهور بسرعة من نحو 53 % إلى نحو 48 % عام 1976 ثم نحو 37 % عام 1985 وذلك بسبب الانخفاض النسبي لأجور العمالة الزراعية (وبالتالي انتقال هذه العمالة للقطاعات الأخرى وخاصة التشييد) بالإضافة إلى تزايد الميكنة الزراعية والاعتماد على أساليب إنتاجية كثيفة رأس المال في الزراعة الحديثة وفي مشروعات استصلاح الأراضي.
هكذا زاد معدل البطالة في نهاية الثمانينات عن 17 %. وبالطبع اقترن ارتفاع معدل البطالة بتدهور حاد في الأجور الحقيقية وفي توزيع الدخل. ووفقًا لبيانات وزارة التخطيط فقد انخفض متوسط الأجر الحقيقي بنحو 18.8 % على مستوى الاقتصاد القومي في الفترة 81/1972 – 86/1987، حيث بلغ الانخفاض نحو 15.6 % في القطاع العام ونحو 26 % في القطاع الخاص في الفترة نفسها. أما السنوات الخمس اللاحقة فقد شهدت انخفاض متوسط دخل الفرد مرة أخرى من نحو 750 دولار في السنة في 1986 إلى نحو 640 دولار في 1990 وفقًَا لدراسة صادرة عن البنك الدولي في 1991. أما بالنسبة لتوزيع الدخل فقد انخفض نصيب الأجور والمرتبات من الدخل القومي الإجمالي من نحو 50 % إلى حوالي 33 % في الفترة من 1970 حتى أواخر الثمانينات.
ومن وجهة نظر الطبقة العاملة، فإن البطالة والإفقار وجهان لعملة واحدة ويساهم كل منهما في مفاقمة الأخر. فمعدلات البطالة المرتفعة تسمح للرأسمالية باستخدام “جيش العمل الاحتياطي” في الضغط على مستوى الأجور وتخفيضها، وبالتالي زيادة حدة الفقر. ولكن الإفقار المتزايد هذا يساهم بدوره في زيادة معدل البطالة. وبشكل ملموس في حالة مصر نلاحظ أن تصاعد الضغوط الاقتصادية خلال الثمانينات قد دفع بأعداد متزايدة من الإناث إلى دخول سوق العمل بحثًا عن فرصة عمل تكنهن من المساهمة في المحافظة على مستوى معيشة أسرهن في مواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة. وحيث أن التزايد في عرض قوة العمل من النساء كان أعلى كثيرًا من الطلب عليهن، فقد أدى ذلك إلى ارتفاع معدل البطالة بين النساء إلى ما يزيد عن ضعف المعدل العام للبطالة على المستوى القومي. ويسمح هذا الوضع للرأسمالية المصرية بالاستغلال المضاعف والمكثف لنساء الطبقة العاملة. كما أدى الإفقار المتزايد أيضًا إلى تفاقم ظاهرة تشغيل الأطفال. ووفقًا للبيانات المتاحة “يقدر أن عدد المشتغلين من الأطفال دون الثانية عشرة من العمر بلغ في 1984 ما يقرب من أربعة أمثال عددهم في عام 1974، حيث أزداد، على نحو متأرجح نسبيًا، من نحو 265،4 ألف طفل يعادلون نحو 2.7 % من إجمالي قوة العمل في عام 1974 إلى نحو 1،014 مليون طفل يوازون نحو 7% من هذا الإجمالي في عام 1984” (دراسة صادرة عن معهد التخطيط القومي). ومن المؤكد أن عمالة الأطفال قد اتسعت كثيرًا عما كانت عليه في 1984. هكذا فمن خلال إفقارها المتزايدة للطبقة العاملة المصرية، تجبر الرأسمالية أعدادًا متزايدة من الأسر الفقيرة على عرض أبناءهم في سوق العمل، حيث يتعرضون لاستغلال بشع يفوق الاستغلال الذي يتعرض له آباءهم وأمهاتهم. ويساهم هذا التزايد في عرض قوة العمل في رفع معدلات البطالة وبالتالي المزيد من انخفاض الأجور. أنها بحق حلقة جهنمية من الإفقار والاستغلال والقهر.
وأخيرًا ينبغي أن نتذكر أنه من أهم سمات البطالة في مصر قبيل الإقدام على برنامج الإصلاح الاقتصادي في 1991 الارتفاع النسبي الشديد في معدلات البطالة بين الداخلين الجدد في قوة العمل من الشباب، والارتفاع الكبير في نصيب المتعلمين من مجموع عدد المتعطلين. (1) ويعني ذلك أن البطالة بالنسبة للبرجوازية المصرية لها طبيعة مزدوجة: إنها من ناحية تسمح بتكثيف استغلال الطبقة العاملة اعتمادًا على جيش العمل الاحتياطي، ولكنها من ناحية أخرى تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي وتمثل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار.
تأثيرات برنامج الإصلاح:
كانت هذه هي الأرضية التي أقدمت الدولة على أساسها على تبني برنامج “التثبيت والتكيف الهيكلي “في عام 1991 بناء على الاتفاق مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فما هو التأثير المتحقق والتوقع لهذا البرنامج على البطالة والأجور وتوزيع الدخل في مصر؟ علينا أن نتذكر هنا أن هذا البرنامج يتضمن شقين أو مرحلتين. يتمثل الشق الأول (الذي يسمى ببرنامج التثبيت) في حزمة من السياسات المالية والنقدية التي تهدف إلى تخفيض العجز في ميزان المدفوعات وموازنة الدولة وتخفيض معدل التضخم، وذلك من خلال سياسات تقشفية تقوم على تقليص الطلب الكلي سواء كان استهلاكيًا أو استثماريًا. ومن أهم الإجراءات التي يتم إتباعها في هذا المجال تخفيض الإنفاق الحكومي برفع الدعم عن السلع الأساسية وتقليص الإنفاق على الخدمات، وزيادة الضرائب، وتقييد عرض النقود، ورفع أسعار الفائدة لتشجيع الادخار على حساب الاستثمار، وتخفيض الأجور الحقيقية بطريقة غير مباشرة من خلال ما تمارسه البطالة المتصاعدة – بسبب انخفاض مستويات الإنتاج – من أثر تخفيضي على الأجور. أما الشق الثاني (الذي يسمى ببرنامج التكيف الهيكلي) فهو الجزء الأهم من برنامج الإصلاح حيث أنه يركز ليس على علاج الاختلالات المؤقتة من خلال خفض الطلب مثل برنامج التثبيت، وإنما على زيادة العرض عن طريق رفع معدل الاستثمار وزيادة الإنتاج واقتحام أسواق التصدير، ولا يمكن تحقيق ذلك بالطبع دون رفع معدل الربح في الاقتصاد وزيادة قدرته التنافسية، وهو ما يتطلب تشديد وتكثيف استغلال قوة العمل على نطاق واسع.
ويمكن القول بأن السنوات الأولى من برنامج الإصلاح قد شهدت نجاح النظام بدرجة معقولة في تنفيذ الشق الأول من البرنامج. فقد تقلص بالفعل العجز الداخلي والخارجي كما تراجع معدل التضخم من ما يزيد عن 20 % إلى نحو 7 أو 8 %. إلا أن هذا “النجاح” بالطبع لم يكن بلا ثمن، وقد دفع الثمن أساسًا جماهير الفقراء في مصر. فالسياسة الانكماشية التي تم أتباعها أدت إلى انخفاض معدل النمو السنوي من نحو 2.5 إلى 3 % في الفترة 89-1991 إلى حوالي 0.4% في 92-1993. ومع دخول حوالي نصف مليون إنسان جديد إلى سوق العمل سنويًا، فإن ذلك يعني أن معدل البطالة قد تزايد بشكل مؤكد في تلك الفترة (رغم عدم توفر أرقام دقيقة). كما أن انخفاض معدل النمو عن معدل التزايد السكاني نعني تراجعًا مطلقًا في مستويات المعيشة. أما بالنسبة لتوزيع الدخل فيكفي أن نذكر أن تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في 1992 قد اعتبر مصر واحدة من أربع دول “تواجه الآن خطر الانضمام لقائمة الدول التي فشلت بسبب الفجوات الواسعة في الدخل ما بين قطاعات مختلفة من السكان”.
إلا أن “نجاح” هذا الشق أو هذه المرحلة من برنامج الإصلاح لم يكن كافيًا في حد ذاته. فالنظام كان يعي تمامًا أن هذا النجاح ليس سوى مقدمة ضرورية للشق الثاني الذي يعد بحق الهدف الحقيقي من برنامج الإصلاح. هكذا فمنذ أواخر 1993 بدأ السعي نحو الانتقال نحو المرحلة الثانية التي يعد أهم جوانبها التخلص من “العمالة الزائدة” (خاصة في القطاع العام) وجذب الاستثمارات الخاصة عن طريق تقليص أجور وحقوق الطبقة العاملة في الريف والمدينة، وتوفير أقصى “مرونة” لرأس المال في تكييف العمالة (فيما يتعلق بحجمها ومستوى أجورها وطبيعة عملها) بما يحقق ميزة نسبية للرأسمالية المصرية في منافستها على أسواق التصدير.
وفيما يتعلق بالـ “عمالة الزائدة” في القطاع العام، فإن أغلب التقديرات تدور بين 250 و300 ألف عامل في شركات القطاع العام (وهو ما يمثل حوالي 20 % من أجمالي العاملين بها) وحوالي 800 ألف عامل في القطاع العام بمفهومه الواسع (شاملاً الإدارة المركزية والمحليات، والهيئات العامة الخدمية والاقتصادية، إلى جانب شركات القطاع العام). (2) وقد قرر النظام البدء بالتخلص ممن يعتبرهم “عمالة زائدة” في شركات القطاع العام، ولكي يتسنى له ذلك أقدم على إعادة تنظيم القطاع العم حيث صدر قانون قطاع الأعمال العام – القانون رقم 203 لسنة 1991 – الذي نص على تحويل الهيئات العامة إلى شركات قابضة لها حرية اتخاذ كافة القرارات المتعلقة بالشركات التابعة لها سواء في مجال الإدارة أو التشغيل أو التصريف بالبيع في الأصول أو الأسهم. ووفقًا لهذا القانون، فإن شركات قطاع الأعمال العام سوف تواجه كل منها واحدًا من احتمالات تنظيمية ثلاثة: (1) التصفية الكاملة، في حالة الشركات التي بلغت درجة من التدهور يستحيل معه إصلاح أوضاعها، أو (ب) إعادة الهيكلة، والمقصود لها هو قيام الشركة “بتحسين وضعها التنافسي من خلال إعادة تنظيم وتحديث سياساتها في التشغيل ونظم التسويق بها والفنون الإنتاجية المستخدمة وتكيف قوة العمل بها للتغيرات الجديدة” أو (ج) الخصخصة، والمقصود بها “نقل الأنشطة والأصول الإنتاجية المملوكة للحكومة في المشروعات العامة إلى الملكية الخاصة، أو وضعها تحت الإدارة الخاصة”. (3)
ووفقًا لدراسة هامة حول تأثير سياسات استندت إلى تحليل معلومات صادرة عن الكتب الفني لقطاع الأعمال العام، فإن عدد العمال المنتظر أن يفقدوا وظائفهم نتيجة للخصخصة عدد الذين سيفقدون وظائفهم نتيجة لإعادة الهيكلة أو التصفية. (4) وإزاء الأعداد الهائلة من العمال الذين سيتم الاستغناء عنهم وفقًا لبرنامج التكيف (سواء اقترن الاستغناء بالخصخصة أو لم يقترن) فإن الحكومة تقدم “بدائل” وهمية لهؤلاء العمال تتضمن التقاعد المبكر أو صرف تعويضات إنهاء الخدمة أو تقديم القروض لإقامة المشروعات الصغيرة.
وخلال السنوات القليلة الماضية كان الشكل الأبرز للتخلص من العمالة في القطاع العام هو الاستغناء عن ذوى العقود المؤقتة (أي غالبية العمال الجدد نسبيًا). ورغم أن المرحلة الثانية من “الإصلاح” قد بدأت بالفعل في 1993، فالملاحظ (رغم عدم توفر أرقام دقيقة) أن التنفيذ الفعلي لسياسات التكيف كان أبطأ مما كان مخططًا بسبب خوف النظام من العواقب السياسية الخطرة للإسراع في تنفيذ البرنامج. وقد مثل أضرب عمال الغزل بكفر الدوار في أكتوبر 1994 والانتفاضة الشعبية التي واكبته لمحة من المقاومة العمالية التي تنتظر البرجوازية المصرية مع مضيها قدمًا في سياساتها الجديدة. كانت كفر الدوار بحق “بروفة” لما سوف تشهده السنوات القادمة من مواجهات. فرئيس مجلس إدارة شركة الغزل الرفيع الجديد قد تم تعيينه خصيصًا لتنفيذ برنامج “إعادة الهيكلة” في أضخم شركات كفر الدوار. وخلال السنة السابقة على الإضراب، “نجح” الرجل في حرمان 1600 عامل من الحوافز لمدة 3 أشهر بسبب التأخير عن مواعيد العمل أو القيام بأجازات مرضية، نقل عددًا من رؤساء الأقسام وفصل 200 من العاملين بعقود مؤقتة كما حرم 300 عامل “غير منضبط” من الحوافز “مدى الحياة” هكذا استحق رئيس شركة الغزل اللقب الذي كان يدلله به عاطف صدقي رئيس الوزراء السابق، وهو “بلدوزر كفر الدوار”، إلا أن اندلاع الإضراب والانتفاضة كان بمثابة جرس إنذار اضطرت الحكومة معه لإبطاء مسيرة “الإصلاح”.
ولكن النظام لم يكن يملك الانتظار طويلاً. فعمق الأزمة التي يواجهها يضع حدودًا ضيقه على هامش المناورة الذي يتحرك دخله. وجاء التغيير الوزاري المحدود في يناير الماضي، والذي يولى كمال الجنزوري بموجبه رئاسة الوزارة، تعبيرًا عن الرغبة في إسراع وتيرة برنامج التكيف الهيكلي. لقد تأكد هذا المعنى من خلال العديد من الإجراءات والقرارات التي أقدمت عليها الحكومة الجديدة. وقد أكدت حكومة الجنزوري عزمها على التقدم بسرعة لمجلس الشعب بمشروع قانون العمال الموحد، ذلك القانون الذي استمرت المداولات بشأنه عدة سنوات، وكان تاجر صدوره تعبيرًا عن تردد الحكومة السابقة إزاء المرحلة الثانية من برنامج الإصلاح.
يمثل قانون العمل الموحد ما يمكن أن نسميه البنية التحتية القانونية لبرنامج التكيف الهيكلي. فالقانون أولاً (وفقًا لمسودته الأخيرة التي تم الإعلان عنها) يسمح لصاحب العمل (في القطاع العام أو الخاص) بالفصل الجماعي لأعداد كبيرة من العمال بما يتناسب مع ظروف منشأته. أما بالنسبة للفصل الفردي، فإن القانون الجديد يزيل العديد من القيود التي كانت تحد منه وفقًا لقانون العمل الحالي (رقم 137 لسنة 1981). فهو أولاً يوسع دائرة المخالفات التي يحق لصاحب العمل بموجبها أن يفصل العامل. كما يمنع القانون الجديد ما كان ينص عليه قانون العمل الحالي من استمرار دفع أجر العامل أثناء نظر المحكمة لقرار الفصل، وهو ما يعني أن العمال في الغالبية العظمى من الحالات لن تكون لديهم القدرة على اللجوء للقضاء ضد قرارات الفصل (وجدير بالذكر أن المحكمة لا تستطيع أن تحكم بعودة العامل المفصول لعمله إلا في حالة واحدة فقط وهي ثبوت أن الفصل كان بسبب النشاط النقابي، أما فيما عدا ذلك فإن أقصى ما يمكن أن تحكم به المحكمة لصالح العامل هو التعويض المادي). وعلى خلاف القانون 137 الذي كان ينص على إمكان تجديد عقد العمل المؤقت مرة واحدة فقط يصبح بعدها ساريًا بشكل دائم، فإن القانون الجديد يسمح بالتمديد اللا نهائي للعقد المؤقت، مما يتيح لصاحب العمل حرية أكبر في فصل العامل وقتما شاء. وأخيرًا يسمج قانون العمل الموحد لصاحب العمل بإجبار العامل فعليًا على الاستقالة حيث ينص على حق صاحب العمل “لأسباب اقتصادية” في تخفيض الأجور و أو تغيير طبيعة العمل، وهو ما يفرغ فكرة العمل ذاتها من أي مضمون.
يتضح لنا مما سبق أن معدل البطالة الحالي الشديد الارتفاع مرشح للتزايد أكثر في ظل تنفيذ المرحلة الثانية أو الشق الثاني من برنامج الإصلاح، الذي تحاول البرجوازية المصرية الخروج به من مأزقها، إن أنصار السوق من المروجين لسياسات نظام مبارك يزعمون أن البطالة قد تتزايد فقط على المدى القصير، أما على المدى المتوسط والطويل، فإن كفاءة القطاع الخاص وقدرته على استيعاب العمالة بشكل أفضل من القطاع العام ستساهم وفقًا لدعايتهم في تخفيض معدل البطالة. فهل هذا صحيح؟
لا بد أن نشير في معرض الإجابة عن هذا السؤال إلى أن الصناعة المصرية قد اتسمت منذ الأربعينات على الأقل بالاعتماد على تكنولوجيا تتسم بالكثافة الرأسمالية العالمية. وليست مصر حالة فريدة في هذا المجال فنتيجة لحدة المنافسة في الداخل والخارج، تميل الوحدات الرأسمالية دائمًا لتكثيف الميكنة بهدف زيادة الإنتاجية، وهو ما يؤدي إلى تخفيض عدد العمال اللازمين لإنتاج نفس الكمية من السلع. هكذا ففي الفترة 45-1957 زاد الإنتاج الصناعي في مصر بنسبة 6 % سنويًا في حين انخفض حجم العمالة في القطاع الصناعي بنسبة 9 % خلال نفس الفترة. أي أن الإنتاج كان يزيد وعدد العمال ينخفض. ومن الناحية الجوهرية لم يختلف لم يختلف الأمر كثيرًا في أوج التنمية الناصرية ونمو القطاع العام في الفترة 57-1965. فوفقًا لدراسة هامة صادرة حديثًا عن معهد التخطيط القومي، “لم يتأثر الميل أو الانحياز إلى استخدام تقنيات كثيفة رأس المال في الصناعة التحويلية في مصر كثيرًا بنشأة واتساع نفوذ القطاع العام، إذ يعتقد أن قيادات هذه الصناعة، على مختلف مستوياتها، حافظت منذ 1957، على التقليد الذي ساد منذ زمن طلعت حرب”. وهكذا شهدت هذه الفترة ارتفاعًا كبيرًا فيما يطلق عليه الماركسيون “التركيب العضوي لرأس المال” (أي نسبة رأس المال الثابت من آلات ومعدات إلى العمل الحي). وخلال السبعينات والثمانينات تزايد بشدة الميل نحو الكثافة الرأسمالية العالية في القطاع العام المصري. (5)
وعلى الرغم من ذلك، فإن الكثافة الرأسمالية في القطاع الخاص الصناعي في مصر تظل إجمالاً أعلى من مثيلتها في القطاع العام. (6) كما أن معدل نمو هذه الكثافة الرأسمالية أعلى في القطاع الخاص منه في القطاع العام.(7) وهذا يعني أن توسع دور القطاع الخاص لن يقترن بتخفيض معدلات البطالة، إلا بالطبع إذا نما الاقتصاد المصري بمعدلات فلكية وهو أمر مستبعد تمامًا في ظل الكساد العالمي وشراسة المنافسة على أسواق التصدير التي سيواجهها الاقتصاد المصري في المرحلة المقبلة.
خلاصة:
بدأ تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر في بداية التسعينات في أعقاب عشر سنوات شهدت ارتفاع معدلات البطالة وتقليص الأجور الحقيقية وتزايد سوء توزيع الدخل. ولكن ذلك كله لم يكن كافيًا لرفع معدلات برح الرأسمالية المصرية في القطاعين العام والخاص بما يسمح لها بالـ “انطلاق”. وهكذا جاء برنامج الإصلاح لكي يفاقم من التردي في أحوال الطبقة العاملة والفقراء في مصر.
برنامج الإصلاح هذا يعني بالنسبة للطبقة العاملة المصرية المزيد من الاستغلال والاعتصار. وستسمح معدلات البطالة المتزايدة للبرجوازية بتخفيض الأجور الحقيقية وإجبار الجزء الذي يعمل بالفعل من الطبقة العاملة على القبول بشروط عمل أسوأ.
وإذا كان الكثيرون قد توقعوا أن تراجع البرجوازية المصرية عن “العقد الاجتماعي الناصري” سيتزامن مع رفع وصاية الدولة على التنظيم النقابي وزيادة ديمقراطية، فإن الذي حدث في الواقع هو العكس. فالتعديلات الأخيرة على قانون النقابات العمالية قد كرست سلطة البيروقراطية النقابية الصفراء الموالية للدولة. فقد تم مد الدورة النقابية عامًا إضافيًا لتصبح خمس سنوات، كما تم إعفاء أعضاء مجلس إدارة النقابة العامة أو الاتحاد العام من الترشيح لعضوية اللجنة النقابية لضمان استمرارهم في مواقعهم، وكذلك تم السماح للقيادات النقابية بالاحتفاظ بالعضوية النقابية عند شغل وظيفة “مدير عام”. وقد تجلي تفاقم البقرطة والعمالة للدولة كأوضح ما يكون خلال انتفاضة كفر الدوار في أكتوبر 1994 عندما أعلن الرئيس القذر للاتحاد القذر لنقابات عمال مصر السيد راشد أن الشهداء الأربعة الذين سقطوا برصاص النظام أثناء هذه الانتفاضة هم “مسئولية العمال والأهالي وليس الشرطة”!
تقف الطبقة العاملة المصرية عند مفترق الطرق إذن وهي منزوعة السلاح حيث تفتقر إلى التنظيم النقابي الذي يستطيع أن يقود نضالاتها ضد الهجمة البرجوازية الشديدة التي تتعرض لها. إن هذا الوضع يطرح تحديًا بالغًا على الطليعة المتقدمة للطبقة العاملة على مستوى تسليح الطبقة بالرؤية والحركة الضروريتين لخوض نضالاتها القادمة بكفاءة وفعالية تتناسب مع حجم التحديات. فما هي الملامح العامة لهذه الرؤية وتلك الحركة؟ سنحاول الإجابة على هذا السؤال في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال في العدد القادم.
هوامش:
1- وفقًا لبيانات تعداد 1986 يقع نحو 91 % من مجموع العاطلين الذين لم يسبق لهم العمل بين خريجي التعليم العالي (26 %) والمتوسط بكافة تخصصاته (65 %). وجدير بالذكر هنا أن دوي التعليم المتوسط الذين يشكلون 65 % من العاطلين الذين لم يسبق لهم العمل من أبناء الطبقة العاملة أساسًا.
2- للتفصيل أنظر: ليلي أحمد خواجة، “التعطل المستتر في القطاع العام: حالة مصر” (1993).
3- أنظر: نجلاء الأهواني، “سياسات التكيف والإصلاح الهيكلي وأثرها على التعطل في مصر” (1993)، ص 25-26.
4- المرجع السابق، ص 27-29
5- تبين دراسة ليلي خواجة التي سبق الإشارة إليها أن معامل رأس المال / العمل (يحسب هذا المعامل نسبة رأس المال بالمليون جنيه إلى العمالة بالألف عامل) في شركات القطاع العام الصناعي قد تضاعف أربع مرات تقريبًا من خلال الفترة 75-1985 حيث ارتفع من 4،1 في 1975 إلى 8،9 في 80/1981 ثم 15،1 في 48/1985.
6- تشير دراسة حديثة صادرة عن معهد التخطيط القومي إلى أن تكلفة خلق فرصة عمل (وهي تعبير عن مستوى الكثافة الرأسمالية) في المتوسط في الصناعات المعدنية والهندسية والكيماوية والدوائية تبلغ 160 ألف جنيه في المشروعات الخاصة التي تساهم فيها شركات متعددة الجنسية، و70 ألف جنيه في المشروعات الخاصة التي لا تساهم فيها شركات متعددة الجنسيات، وحوالي 32 ألف جنيه في مشروعات القطاع العام الصناعي. أنظر: معهد التخطيط القومي، استشراف بعض الآثار المتوقعة لسياسات الإصلاح الاقتصادي بمصر، الجزء الثاني، (سبتمبر 1994)، ص 333.
7- نفس المرجع، ص 333.