بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الحركة العمالية المصرية عند مفترق الطرق.. (الجزء الأول)

مقدمة
يمثل برنامج “الإصلاح” الاقتصادي الذي طبقه نظام مبارك خلال السنوات الأربع الأخيرة (في أعقاب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في مايو 1991 ثم مع البنك الدولي في نوفمبر من نفس العام) خطوة هامة على الطريق الذي سارت عليه البرجوازية المصرية بتعثر منذ أواخر الستينات عندما تفاقمت أزمة رأسمالية الدولة الناصرية: طريق الاندماج في السوق الرأسمالي العالمي.

شهدت السنوات القليلة الماضية تركيزًا على الجوانب المالية والنقدية من هذا البرنامج حيث تم (إلى حد كبير) كبح جماح التضخم وتخفيض العجز في الموازنة العامة من خلال سياسات انكماشية مثل خفض معدل الاستثمار وتقليل الأنفاق على الخدمات ورفع الدعم من السلع الأساسية وزيادة الضرائب ورفع، أسعار الفائدة… الخ وينتظر أن تشهد السنوات القادمة الدفاع البرجوازية المصرية ودولتها نحو الإصلاحات “هيكلية” تستهدف زيادة معدلات التراكم والنمو عن طريق سياسات تكثف الاستغلال بما يسمح برفع معدلات الربحية ودعم قدرة الصادرات المصرية على المنافسة في الأسواق العالمية.

ولاشك أن سياسات “الإصلاح” هذه لها آثار واسعة على مجمل أوضاع المجتمع المصري. وهي تطرح على الطبقة العاملة المصرية مهام جسيمة وتحديات بالغة. فعلى مدى الربع قرن الأخير راحت الطبقة العاملة تتجاوز بشكل متزايد وصاية الدولة والنقابات الصفراء عليها. ولكنها عجزت في الوقت نفسه عن إفراز بديل تنظيمي نضالي لأشكال الهيمنة التي تحاول الدولة عبثًا تكبيلها بها. واليوم، ومع وصول الهجمة الرأسمالية على الطبقة العاملة والفقراء عمومًا لمحطة حاسمة فإن الحركة العمالية المصرية تقف على مفترق الطرق: فإما المواجهة الشاملة مع العدو الطبقي الذي كشر عن أنيابه أو الرضوخ للمزيد من الاستغلال والإفقار والقهر.

لكن ما هو المسار الذي سارت فيه الحركة العمالية منذ احتوائها بواسطة الناصرية في الخمسينات حتى تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي في أوائل التسعينات؟

الناصرية والحركة العمالية
استولى “الضباط الأحرار” على السلطة في مصر في يوليو 1952 وسط أزمة اجتماعية وسياسية طاحنة للرأسمالية المصرية. وكما يرى بنين ولوكمان، أبرز مؤرخي الحركة العمالية المصرية فقد سعى قادة النظام الجديد لأن “يقطعوا الطريق على تحديات أكثر جذرية للنظام الاجتماعي القائم ويوجدوا حلاً للأزمة السياسية والاجتماعية، وأن يرفعوا العوائق من أمام التنمية بإجراء إصلاحات أساسية والسماح للرأسمالية المصرية بأن تحقق إمكانياتها الكاملة. وسرعان ما أظهر الحكام الجدد عدائهم للطبقة العاملة وحركتها المستقلة حيث واجهوا إضراب عمال النسيج بكفر الدوار بالقمع الدموي البشع وأعدموا العاملين الشهيدين مصطفي خميس ومحمد البقري.

وبعد أحداث كفر الدوار الدامية، سعى “مجلس قيادة الثورة” لاحتواء الحركة العمالية داخل جهاز الدولة من خلال مزيج من القمع والإصلاح. فمن ناحية راح النظام الجديد يعمل بدأب على القضاء على التأثير اليساري داخل النقابات بالوسائل القمعية، كما سحق بعنف إضراب عمال نسيج الشوربجي في سبتمبر 1953 حيث تم اعتقال ما بين 350 و500 عامل وفي الوقت ذاته، احتاج “مجلس قيادة الثورة” لخلق قاعدة تأييد له بواسطة التشريعات الإصلاحية، فأصدر في ديسمبر 1952 سلسلة من القوانين والقرارات العسكرية التي لبت مطالب أساسية للحركة النقابية. وكان أهم هذه المطالب هو توفير ضمان العمل من خلال الحد بدرجة كبيرة من حرية أصحاب الأعمال في فصل عمالهم تعسفيًا، أي الفصل لأسباب تتعلق باعتبارات السوق.

إلا أن مطلب ضمان العمل هذا لم يتحقق بلا ثمن. فالتشريعات العمالية الجديدة اقترنت بحظر الإضرابات. وكما يلاحظ بنين، فقد تم التوصل إلى “اتفاق غير مكتوب: لا إضرابات في مقابل حظر الفصل التعسفي. ولكن عمليًا، وفي غيبة سلاح الإضراب الفعال، كثيرًا ما وجد أصحاب الأعمال طرقًا للتحايل على القانون”. ومع ذلك فقد أستطاع النظام، من خلال تشريعات ديسمبر 1952 العمالية والإصلاح الزراعي المحدود الذي سبقها في سبتمبر، أن يوفر لنفسه تأييدًا شعبيًا سمح له بالتحرك بفعالية ضد أي معارضة محتملة. ففي يناير 1953، تم حل جميع الأحزاب السياسية واستبدالها بـ “هيئة التحرير التي صارت التنظيم السياسي الوحيد. وعلى حين فشلت “هيئة التحرير” التي في أن تصبح حزبًا سياسيًا حقيقيًا قادرًا على تعبئة التأييد الجماهيري المنظم للنظام، فإنها نجحت في تكوين علاقة وثيقة مع قيادة أحد أهم قطاعات الطبقة العاملة، وهو قطاع عمال نقل القاهرة. وقد لعبت هذه العلاقة دورًا بالغ الأهمية خلال أزمة مارس 1954، عندما تفجر الصراع بين أنصار “استمرار الثورة” وأولئك الذين طالبوا بعودة الحكم المدني والحياة البرلمانية فالإضراب العام الذي نظمته نقابة عمال النقل بالقاهرة في 27 و28 مارس لعب دورًا حاسمًا في خروج عبد الناصر منتصرًا من هذا الصراع، وهو النصر الذي رسخ استمرار الحكم العسكري وكانت له عواقب بالغة الأهمية بالنسبة للحركة العمالية. يقول بينين ولوكمان:

القادة النقابيون ربطوا مصيرهم بعبد الناصر عقدوا اتفاقًا واضح المعالم، وإن لم يكن معلنًا. لقد وافقوا على تأييد دكتاتورية عسكرية دللت مرارًا وتكرارًا على معارضتها التي لا تلين لحركة نقابية حرة لحق الإضراب، ولأي شكل من أشكال المبادرة والفعل المستقلين للعمال. وفي المقابل عزز النظام مواقعهم في القيادة ووافق على الإبقاء على المكاسب الاقتصادية التي تم تحقيقها وعلى توسيعها كذلك، وخاصة المطلب الشديد الأهمية الخاص بضمان العمل.

كان هناك إذن أساسًا ماديًا لاحتواء الحركة العمالية، إلا أن خيار الارتماء في أحضان السلطة لم يكن بالتأكيد الخيار الوحيد المتاح أمام الحركة العمالية. وبالفعل جاء رد فعل الطبقة العاملة المصرية لدعوة الإضراب العام تأييد لاستمرار الحكم العسكري مختلطًا. حيث امتنعت قطاعات واسعة من الطبقة العاملة عن المشاركة فيه. إلا أن إضراب عمال النقل العام بالقاهرة (فيما عدا عمال الترام الذين امتنعوا) حسم الأمر لصالح عبد الناصر ورفاقه. إن القادة النقابين الذين وقفوا مع النظام في هذه اللحظة اختاروا التضحية بالمصالح الإستراتيجية للطبقة العاملة وبوجودها المستقل ذاته لصالح مطالب جزئية ومحدودة وكذلك لصالح امتيازاتهم الخاصة وترسيخ سلطتهم داخل الحركة النقابية.

اتخذ احتواء الحركة العمالية المصرية بواسطة النظام الناصري شكلاً مؤسسيًا بين أواخر الخمسينات وأواسط الستينات. فبعد تطهير الحركة النقابية من التأثيرات اليسارية، وأعلن النظام في 30 يناير 1957 عن قيام “الاتحاد العام لنقابات عمال مصر”. ولم يشأ النظام أن يترك أي مجال للالتباس بخصوص التكوين السياسي لقيادات الاتحاد ففي المؤتمر التأسيسي قامت الحكومة ببساطة بتسليم أسماء الأعضاء السبعة عشر في القيادة للمؤتمر لكي ينتخبهم” وفي ذات الوقت، فإن قانون العمل الموحد العام 1959 وقانون النقابات العمالية لعام 1964 قد أكملا تحويل الحركة النقابية إلى جزء من جهاز الدولة من خلال مركزه البنية النقابية حول عدد محدود من النقابات العامة تحت إشراف الاتحاد العام ووزارة العمل. وقد صارت عضوية الحزب الحاكم – الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي – شرطًا ضروريًا للترشيح في الانتخابات النقابية على كافة المستويات. كما أبقى قانونا 1956 و1964 على حظر الإضرابات.

وخلال النصف الأول من الستينات، توسع القطاع العام كثيرًا سواء من خلال تأميم جزءًا كبيرًا من الشركات الصناعية والتجارية أو من خلال تسريع عملية التصنيع. وفي الوقت ذاته صدرت عدة قوانين هدفت إلى رفع مستوى معيشة العمال. فقد انخفض أسبوع العمل في المنشآت الصناعية إلى 42 ساعة، وتضاعف الحد الأدنى للأجور والتزمت الحكومة بتوفير فرص العمل لجميع خريجي الجامعات والمدارس الثانوية. وقد أسفرت هذه السياسات عن زيادة الأجور الحقيقية في مصر بنحو 60 % بين 1952 و1966.

وبحلول منتصف الستينات تعرض “العقد الاجتماعي” الذي ارتكزت عليه الناصرية لهزة اقتصادية بالغة ما لبثت أن تحولت لأزمة طاحنة بعد هزيمة يونيو 1967. كان هذا العقد الاجتماعي الناصري يقوم على ركيزتين أساسيتين: الأولى هي تقديم تنازلات اقتصادية واجتماعية هامة (كما رأينا) للقسم المنظم من الطبقة العاملة في القطاع العام مقابل القضاء على استقلالية الحركة العمالية وحرمانها من سلاح الإضراب، والثانية هي إعادة توزيع الدخل والملكية لصالح الطبقة الوسطى إخضاع الريف ككل – عبر التحويل المنظم للفائض الزراعي من الريف إلى المدينة – لأغراض التراكم في قطاع رأسمالية الدولة الصناعية.

كان الهدف من هذا العقد الاجتماعي هو تحقيق الإستراتيجية الاقتصادية الناصرية في التنمية “المستقلة” المعتمدة على التصنيع السريع كثيف الرأسمال من خلال التخطيط الاقتصادي واستبدال الواردات بالمنتجات المحلية. وعندما بدأت هذه الإستراتيجية تتزعزع في منتصف الستينات، كان هذا تعبيرًا عن عجز الاقتصاد عن تحمل معدلات عالية من الاستثمار والاستهلاك في ذات الوقت. وقد اتخذ عبد الناصر بحذر في أواخر الستينات الخطوات الأولى على طريق “الانفتاح الاقتصادي” تلك السياسة التي تبلورت بعد ذلك منذ 1974.

لقد تخلت الطبقة الحاكمة عن إستراتيجيتها القديمة المتعثرة واستبدالها بإستراتيجية جديدة تقوم على الاندماج الكامل في السوق الرأسمالي العالمي من خلال زيادة تنافسية وربحية الاقتصاد المصري. اقتضت هذه الإستراتيجية الجديدة للرأسمالية المصرية التراجع عن المكتسبات التي حصلت عليها الجماهير في المرحلة السابقة، ومن ثم بدأ الأساس المادي لسيطرة الدولة على الحركة العمالية يتقوض. وفي هذا السياق نستطيع أن نفهم تصاعد مستوى الصراع الطبقي في مصر منذ أواخر الستينات.

الطبقة العاملة تتمرد على الوصاية:
عندما صدرت الأحكام الشهيرة ضد القادة العسكريين المسئولين عن هزيمة 1967، تظاهر عمال المصانع الحربية ومصنع الطائرات بحلوان احتجاجًا على تهافت تلك الأحكام، وكانت مظاهراتهم بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل مظاهرات هائلة في جميع وحدات الإنتاج والمدارس والجامعات في كافة المدن المصرية تعبيرًا عن عمق السخط على المشروع الناصري وخيبة الأمل فيه حدث هذا في فبراير 1968 ولم يكن سوى نقطة انطلاق لموجة طويلة من تصاعد الصراع الطبقي.

ففي أغسطس 1971 قام عشرة آلاف عامل بمصنع الحديد والصلب بحلوان بالإضراب من أجل وقف تدهور مستواهم المعيشي. وقد تحول هذا الإضراب إلى احتلال للمصنع من جانب العمال الذين احتجزوا المديرين وممثلي وزارة الصناعة والحزب الحاكم بالإضافة إلى سكرتير إتحاد نقابات العمال الذي أرسله السادات شخصيًا لفض الإضراب، حيث قال له العمال عند إلقائهم القبض عليه: “أنت ممثلنا أمام الدولة، بل ممثل الدولة هنا”.

وتواصلت الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات على مدى السنوات الثلاث التالية حيث لم تفلح محاولات الطبول الإعلامية للنظام في استغلال حرب أكتوبر 1973 في كسر نضالية الطبقة العاملة عن طريق العزف على نغمة “الوطنية” و”النصر”، حيث أن الأزمة الشاملة للنظام كانت تذكر العمال كل يوم بالحاجة للانخراط في الصراع الطبقي حيث النهاية. ومع بداية 1975، حدث تحول كيفي في طبيعة ومستوى نضالات الطبقة العاملة المصرية.

ففي أول يناير 1975، استيقظت البرجوازية المصرية من سهرة رأس السنة لتفاجأ بقيام عمال عدة مصانع بحلوان باحتلال مصانعهم. وعقد العمال العمومية حيث انتخبوا مندوبين عنهم لتنسيق احتلال مصانع وشوارع القاهرة. وسرعان ما قاد عمال حلوان مظاهرات ضخمة أمام محطة قطار باب اللوق وانضمت إليهم جماهير غفيرة من العمال العاطلين والطلاب والمهمشين. وقام المتظاهرون بتحطيم سيارات الأتوبيس والمحلات الكبرى كما احرقوا مبنى الاتحاد الاشتراكي – الحزب الحاكم وقتها.

كان لدى المتظاهرين مطالب اقتصادية ذات طابع سياسي واضح حيث أنها لم تكن موجهة لهذا القسم أو ذاك من الرأسمال وإنما الدولة البرجوازية ذاتها، ومثلث تدخلاً عماليًا في صياغة السياسة الاقتصادية” ضد أيه زيادة في الضرائب غير المباشرة، وضد الفروق في المرتبات بين العمال والديرين، وضد زيادة الأسعار وخفض الأجور. ورفعوا كذلك شعارات سياسية مثل “صحافة حرة وحياة أفضل” كما طالبوا بإقالة حجازي رئيس الوزراء، الذي اضطر السادات بالفعل لدفعه للاستقالة. كانت أحداث يناير 1975 بمثابة ذروة غير مسبوقة في مستوى الصراع الطبقي في مصر منذ الأربعينات. فقد ارتقى الصراع من الإضرابات الجزئية إلى احتلال المصانع والشوارع، ومن العفوية إلى قدر من التنظيم، ومن المطالب الاقتصادية إلى الجمع بين مطالب اقتصادية وسياسية معًا.

وقفت البرجوازية مذعورة أمام هذه الحركة. وراحت كعادتها تستخدم ترسانة القمع بشراسة لسحق الحركة، كما أطلقت أبواق الصحافة الصفراء حملة دعائية فجة ضد العمال تتهمهم بالخيانة الوطنية حيث أن “ديان ورابين سعداء بمشهد تدمير القاهرة، كما جاء بأحد المانشيتات. ولم يفلح هذا المزيج من القمع والأيديولوجية في كبح جماح الحركة. فخلال السنتين التاليتين استمرت النضالات الطبقية الكبرى التي سنقف سريعًا أمام اثنين منها.

في يونيو 1976، أضرب عمال النصر للسيارات بسبب امتناع الإدارة عن صرف نصيبهم المتفق عليه من الأرباح. وتعليقًا على ذلك قال رئيس مجلس الإدارة واصفًا العمال: “إنهم قطيع من الغنم؛ وسيعودون للعمل عند سماعهم صفارة انتهاء فترة الراحة”. وعندما سمع العمال بذلك حولوا إضرابهم إلى اعتصام بالمصنع وأعلنوا مطالب جديدة. ولم ينفض الاعتصام إلا عندما اقتحمت قوات الأمن المصنع وألقيت القبض على عشرات المعتصمين. ومع ذلك، فقد اضطرب الإدارة للإذعان وصرف مكافآت الأرباح للعمال.

وفي أكتوبر من نفس العام، نظم الحزب الحاكم احتفالاً بمناسبة “انتصار” السادات في استفتاء الرئاسة 99،9 % إلا أن عمال هيئة النقل العام احتفلوا بهذه المناسبة على طريقتهم الخاصة، حيث انتخبوا مندوبين يمثلونهم من خارج اللجنة النقابية وطرحوا المطالب الآتية على الإدارة: حل النقابة؛ خفض ساعات العمل إلى سبع ساعات؛ صرف تعويض عن زيادة نفقات المعيشة التي بلغت 40 %؛ صرف أجور أيام الراحات (56 يومًا في السنة)؛ صرف أجور أجازة عيد الفطر؛ دفع الشركة لغرامات المرور؛ وتحسين الخدمات الطبية والصحية. وعندما رفضت الإدارة الاستجابة لهذه المطالب أعلن العمال الإضراب. ومع فشل جميع محاولات السلطة لفض الإضراب، هاجمت قوات الأمن المركزي العمال باستخدام قنابل الغاز المحرمة دوليًا، فرد العمال عليهم بخراطيم المياه. وفي حي الأميرية تضامن الأهالي مع عمال الجراج وحاربوا الشرطة باستخدام الحجارة. ورغم أن المعركة أسفرت عن إصابة 200 عامل بإصابات خطيرة، إلا أن العمال لم ينهموا إضرابهم سوى عندما أذعنت السلطة لمطالبهم.

ثم جاءت انتفاضة يناير 1977 العمالية لتكون بمثابة تتويج لعقد كامل من النضالات المتواصلة. ففي حلوان، بدأ عمال شركة مصر حلوان للغزل والنسيج الانتفاضة عندما قادوا عمال المصانع الأخرى في مسيرة حول منطقة حلوان هتفوا فيها مطالبين بإلغاء قرارات رفع الأسعار وإسقاط الحكومة، معربين عن مقتهم للسادات وأسرته، وقام العمال بإغلاق الطرق وتحطيم السكك الحديدية المؤدية إلى القاهرة لمنع تعزيزات القوات الأمنية من الوصول، كما استطاع عدد ضخم من عمال حلوان الوصول إلى وسط القاهرة حيث انضمت إليهم جماهير الأحياء الفقيرة وطلبة جامعة عين شمس في مظاهرات عارمة وفي شبرا الخيمة أحتل العمال مصانعهم تحديًا لمحاولات السلطة الخروج من أزمتها على حسابهم وفي الإسكندرية، بدأ عمال الترسانة البحرية المظاهرات وانضم إليهم عمال الشركات الأخرى في مسيرات هائلة معادية للحكم ورموزه وقعت هذه الأحداث كلها يوم 18 يناير، وفي اليوم التالي لعب عمال مصنع الحرير ومصنع 45 الحربي بحلوان وعمال نسيج سوجات بحدائق القبة وعمال مصنع نسيج الشوربجي بإمبابة أدوارًا قيادية في الانتفاضة حيث اضربوا عن العمل وقادوا المظاهرات الجماهيرية الكبرى.

وقد وقعت أحداث مماثلة في جميع مدن مصر من الإسكندرية إلى أسوان حيث أكدت الطبقة العاملة قدرتها على انتزاع زمام المبادرة وتحريك الجماهير الفقيرة والمهمشة في انتفاضة ثورية كان العنف الثوري جزءًا عضويًا منها وجهته هذه الجماهير ضد رموز السلطة والطبقة الحاكمة. وقد أسفرت الوحشية التي واجه بها نظام السادات هذه الانتفاضة عن استشهاد وجرح المئات واعتقال الآلاف، حيث اضطر السادات للجوء للجيش لسحق حركة الجماهير. ومع ذلك فقد نجحت الانتفاضة في إجبار الحكم على التراجع عن قرارات رفع الأسعار. ويظل يناير 1977 شبحًا يطارد البرجوازية المصرية ويذكر النظام بالحاجة للتفكير ألف مرة قبل اتخاذ قراراته “الإصلاحية” بعد أن أثبتت الطبقة العاملة قدرتها على تركيعه أرضًا.

النقابات الصفراء تزداد اصفرارًا
كانت انتفاضة يناير 1977 هي أعلى نقطة وصل أليها المد المتصاعد في الصراع الطبقي بين 1968 و1977. وبالطبع كان موقف اتحاد نقابات العمال منها هو الإدانة المطلقة. وفي أعقاب الذروة التي بلغها مستوى الصراع الطبقي في 1977، شهدت السنوات الأخيرة من عهد السادات والسنوات الأولى من عهد مبارك جزرًا حادًا في الصراع ويعود ذلك لعدة أمور. أولاً، مثلت الإجراءات القمعية التي اتخذها السادات في أعقاب الانتفاضة عنصر ردع، حيث توالي صدور القوانين الاستثنائية الوحشية التي حاول بها النظام أن يحمي نفسه من خلال “الديمقراطية ذات الأنياب”. ثانيًا، ما أن وقعت الانتفاضة حتى هرعت البرجوازية الخليجية لإنفاذ أختها المصرية حيث قدمت منظمة التنمية الخليجية لمصر (التي كانت تضم وقتها السعودية والكويت والإمارات وقطر) قرضًا فوريًا بلغ 2 بليون دولار بفائدة 4 % فقط وفترة سماح خمس سنوات. ومع توصل السادات لسلامة المنفرد مع إسرائيل خلال السنتين التاليتين دفعت الولايات المتحدة الثمن حيث أصبحت مصر (ولا تزال) ثاني أكبر دولة تحصل على معونة اقتصادية وعسكرية أمريكية. ثالثًا، كانت التدفقات الواسعة للعمالة المصرية المهاجرة إلى الخليج وليبيا (والتحويلات التي أرسلوها لمصر) بمثابة فرصة لالتقاط الأنفاس بالنسبة للبرجوازية المصرية حتى منتصف الثمانينات حينما هبطت أسعار البترول وهبطت معها تحولات المصريين في الخارج وأخيرًا، فإن انتفاضة 77 (وما سبقها من صراعات) لم تسفر عن أي تقدم فيما يتعلق بالتنظيم القاعدي للطبقة العاملة مما قوى من فعالية العوامل وقدرتها على تلجيم الصراع الطبقي في مصر إلى حين.

إلا أن عشر سنوات من المد المتواصل في الصراع الطبقي كان من شأنها أن تقنع البرجوازية بأن هناك “حاجة غلط”. لقد أدرك النظام أن الأساس المادي لاحتواء الحركة العمالية (العقد الاجتماعي الناصري) لم يعد قائمًا. فكيف يستطيع في هذه الظروف الجديدة أن يحافظ على الطابع “الأصفر” الموالي للدولة للتنظيم النقابي وأن يدعم قدرة هذا التنظيم على احتواء وتقييد الصراع الطبقي؟ طوال السبعينات والثمانينات حاول النظام المصري أن “يجيب” على هذا السؤال وكان عنوان الإجابة هو دعم البيروقراطية النقابية الصفراء يشتي الطرق بحيث يتسنى حمايتها من ضغط القاعدة العمالية من ناحية والحفاظ على ولائها للدولة (لونها الأصفر) من ناحية أخرى.

فيما يتعلق بحماية البيروقراطية النقابية وتأميمها ضد أيه ضغوط من أسفل يمكننا رصد ثلاثة أمور أساسية. أولاً، راح النظام يتدخل بفجاجة متزايدة في الانتخابات النقابية (سواء عن طريق التزوير المباشر أو باستخدام سلطة المدعي العام الاشتراكي في الاعتراض على المرشحين) بحيث يضمن فوز عملاءه. ويلاحظ في هذا السياق أن نسبة التغيير في تكوين قمة الهرم النقابي بعد كل انتخابات نقابية أخذت في التضاؤل سريعًا منذ أوائل السبعينات. ففي 1971 كانت هذه النسبة 86% (كانت عالية بشكل خاص بسبب تطهير السادات الجهاز الدولة عقب “ثورة التصحيح”) ثم انخفضت وأوإلى 56 % في 1973 ثم انخفضت إلى 52% في 1976، ثم 24% في 1979، وأخيرًا 8 % في 1983 (وراحت تتضاءل أكثر بعد ذلك) وثانيًا أخذت الدورة النقابية تطول بالتدريج من سنتين إلى ثلاث سنوات بعد 1976 ثم أربع منذ 1981 (وأصبحت خمس سنوات الآن!) وأخيرًا، فإن التعديلين الذين تم إدخالهما على قانون النقابات في 1976 و1981 أضعفا بشدة المستويات الدنيا من التنظيمات النقابي لصالح المستويات العليا، حيث تراجعت صلاحيات اللجان النقابية إزاء النقابات العامة، كما تضاءلت قوة النقابات العامة بدورها بالمقارنة بالاتحاد العام – قمة الهرم النقابي.

ومن ناحية أخرى، أخذ النظام يلقي ببعض العظام وفتات المائدة إلى كلابه لضمان استمرار ولائهم حيث استمر مبدأ الجمع بين منصبي رئيس اتحاد العمال ووزير العمل في 1969 (الآن تم الفصل مرة أخرى بين المنصبين إلا أن رئيس الاتحاد تتم ترقيته دائمًا إلى المنصب الوزاري) كما تزايد “نفوذ” “وأهمية” القيادات النقابية العليا خلال الثمانيات، حيث سيطروا على مؤسسات جديدة مثل بنك العمال والجامعة العمالية، كما احتلوا مناصب مرموقة في قيادة الحزب الوطني وفي مجلسي الشعب والشورى فضلاً عن العشرات من اللجان والهيئات المختلفة التي تسهم في صياغة سياسات البرجوازية المصرية.

هكذا تزايد الطابع البيروقراطي النقابي خلال السبعينات والثمانينات وازداد اغترابًا وانفصالاً عن القاعدة العمالية. كانت الليبرالية الاقتصادية إذن مصحوبة بالمزيد من السلطوية السياسية إزاء الحركة الإضرابات والاعتصامات العمالية منذ منتصف الثمانيات عندما بدأ الجزر الحاد يتراجع لصالح تزايد النضالات. فعلى حين أن المستوى الأدنى داخل التنظيم النقابي (اللجان النقابية) كان في أحيان قليلة يقود نضالات السبعينات أو لا يتخذ منها على الأقل موقف العداء السافر، فإن إضرابات الثمانينات الكبيرة – مثل كفر الدوار في 1984 والسكك الحديدية وإسكو والمحلة في 1986 والنقل الخفيف في 1987والحديد والصلب في 1989 – قد اتسمت جميعًا بالعداء الشديد بين القاعدة العمالية من جانب والبيروقراطية النقابية بمستوياتها الثلاث من جانب آخر. بل إن هذه الإضرابات والاعتصامات قامت بالأساس ليس فقط في مواجهته الدولة والرأسمال، وإنما أيضًا مباشرة في مواجهة التنظيم النقابي ذاته، ويكاد يكون مطلب “سحب الثقة من اللجنة النقابية” القاسم المشترك الأعظم بين مطالب نضالات الطبقة العاملة في الثمانينات.

والأمر اللافت للنظر حقًا في إضرابات الثمانينات هو أن اللجان النقابية كثيرًا ما تكون “ملكية أكثر من الملك” في عدائها السافر للتحركات الاحتجاجية لـ”عمالها” والسبب في ذلك هو أن سيف الاتحاد العام والنقابات العامة صار أقرب من كثيرًا في الثمانينات من رقاب اللجان النقابية مقارنة بالنصف الأول من السبعينات مثلاًً. ولما كانت أعين أعضاء اللجان النقابية تتجه بالأساس لأعلى – الصعود في سلم البيروقراطية النقابية – فمن الطبيعي أن يتخذوا مواقف العداء السافر للقاعدة العمالية.

لقد لفظ عمال مصر على مدى أكثر من عقدين من النضال التنظيم النقابي “الأصفر الموالي للدولة الجاثم على صدورهم. إلا أن الملاحظ أيضًا أن تجاوز البنيان النقابي الأصفر هذا الذي يظهر بوضوح عند احتدام الصراعات لم يصل بعد لمستوى طرح البديل النقابي القاعدي الديمقراطي. فلماذا عجز عمال مصر عن خلق أشكالهم التنظيمية البديلة على الرغم من تجاوزهم المتكرر للتنظيم النقابي الأصفر! إننا نرى أن أحد العناصر الهامة للإجابة عن هذا السؤال يتمثل في أفكار وسياسة اليسار المصري. فعلى الرغم من أن هذا اليسار لم يكن أبدًا جماهيريًا بالمعنى الدقيق للكلمة، فلا شك أنه لعب دورًا هامًا في الإضرابات والاعتصامات العمالية خلال السبعينات والثمانينات. فاليسار (رغم كل نواقصه) كان أكثر القوى السياسية تعاطفًا مع النضالات العمالية واستطاعت تنظيماته أو رموزه أن تقود بالفعل العديد من هذه النضالات. فإلى أين كان اليسار يقود العمال؟.

الواقع أن تزايد اغتراب التنظيم النقابي عن القاعدة العمالية خلال الثمانينات قد تزامن مع اندفاع اليسار المصري (بجناحيه المعتدل والراديكالي) يمينًا، حيث صار هذا اليسار (باستثناء أصوات شاردة هنا أو هناك) يكاد يجمع على ضرورة الحفاظ على التنظيم النقابي القائم باعتباره تجسيدًا لوحدة الطبقة العاملة المصرية!! وعندما يؤكد القادة النقابيون اليساريون على ضرورة بقاء التنظيم النقابي القائم، فإنهم بالطبع يضيفون أن المطلوب هو “إصلاح” هذا التنظيم. ولكن قليل من التأمل يكفي لإدراك مدى هشاشة تصورات هؤلاء القادة لعملية الإصلاح هذه. لقد أصدر دار الخدمات النقابية بحلوان كتيبًا في 1990 حول “استقلالية الحركة العمالية” تضمن عددًا من المقالات لقيادات عمالية تنتمي لليسار الراديكالي في مصر، فما هي تصوراتهم عن مضمون هذه الاستقلالية وكيفية تحقيقها؟

تكاد المقالات المنشورة في هذا الكتيب تجمع على أن المطلوب، تلك تحديدًا هو تعزيز وتقوية ورد اعتبار اللجان النقابية، تكل الجان ذاتها التي ثار العمال ضدها في نضالاتهم الكبرى في الثمانينات!! ونبحث عبثًا فلا نجد كلمة واحدة في توصيات الكتاب عن الحركة القاعدية التي تتخذ منها اللجان النقابية مواقف لا تقل عداء عن مواقف الاتحاد العام والدولة ذاتها على أن “اليسار الراديكالي” في بلادنا يتميز على الأقل بالاتساق. فما دام الهدف هو دعم وتعزيز اللجان النقابية بما هو معروف عنها من خنوع، فإن وسيلة تحقيق الهدف ينبغي أن تقف عند حدود “النضال القانوني” “رفع الأمر للقضاء”، وإعداد مشروع قانون للنقابات العمالية يلغي كل النصوص التي تحد من حرية النقابات واستقلاليتها وديمقراطيتها الخ…. فليقارن القارئ هذا المنهاج بمنهج القادة العماليين المنتمين حقًَا لليسار الراديكالي في البرازيل والذين استطاعوا في أصعب الظروف أن يطرحوا رؤية واضحة لحركة قاعدية بديلة للنقابات الصفراء وأن يحولوا هذه الرؤية إلى كيان حقيقي على الأرض من خلال انخراطهم الواعي في نضالات الطبقة العاملة (أنظر باب “من ذاكرة الطبقة” في موضع آخر من هذا العدد). وجدير بالذكر أ، “اليسار الراديكالي” عندنا ينجح في حالات نادرة في الوصول للجان النقابية لا يكون أداءه مختلفًا كثيرًا عن أداء النقابيين الصفر (تأمل مأساة الحديد والصلب). والواقع أن “سر” هشاشة محاولات الإصلاح تكمن في أن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يأتي إلا من خارج التنظيم النقابي القائم وليس من داخله.

افتقدت الطبقة العاملة المصرية إذن القيادة النقابية أو السياسية الواعية والمناضلة التي تستطيع أن تعمم الدروس والخبرات التي تراكمها الطبقة ذاتها خلال معاركها المتوالية. وهكذا ظل تحدي الطبقة العاملة للتنظيم النقابي السلطوي جزئيًا. ولكن ماذا عن آفاق المستقبل؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بمعزل عن مناقشة طبيعة برنامج الإصلاح الاقتصادي الجاري تطبيقه في مصر الآن، وسيكون هذا موضوع الجزء الثاني من هذا المقال في العدد القادم من “الشرارة”.