الأحزاب والطبقات في المعركة الفلاحية
أن أنقسام أي مجتمع إلى أحزاب سياسية مختلفة يكشف عن نفسه بأكثر الصور وضوحا في أوقات الأزمات العميقة التي تهز البلد بأسره. وهذا لأنه في مثل هذه الأوقات تكون الحكومات مجبرة على السعي من أجل الحصول على الدعم من مختلف طبقات المجتمع؛ وكل ما هو تافه وعرضي تكنسه جسامة النضال؛ والأحزاب تشحذ كل هممها وتتوجه إلى الجماهير؛ والجماهير – مسترشدة بغريزتها التي لا تخطئ، ومتنورة بتجربة نضال سافر – تتبع الأحزاب التي تمثل مصالح طبقة معينة.
لينين – 1912
كتب لينين هذه السطور وفي ذهنه أن “الأزمات العميقة التي تهز البلد بأسره” هي – بالتحديد – الأزمات الثورية.. أي الثورات الاجتماعية التي تطرح تغيير الطبيعة الطبقية للسلطة السياسية. ولكن هذا لا يمنع أن نفس هذا الكلام ينطبق – وأن يكن بدرجة أقل بالتأكيد – على كل المعارك الطبقية الهامة، حتى تلك التي تعد أقل جذرية وشمولاً بكثير من الثورات. إذ أنه في كل معركة طبقية سافرة تظهر، بأكثر الأشكال وضوحا، الطبيعة الطبقية الأساسية (والحقيقة) للأحزاب ولسياساتها؛ ويتراجع وينكشف كل ما هو لفظي، منافق، وهامشي في برامجها ومواقفها؛ وتتحدد علاقتها بجماهير مختلف الطبقيات لأزمنة طويلة قادمة.
من هذا المنطلق، يحق لنا أن نقوم بتقييم ما أسفر عنه النضال الفلاحي، المتواصل منذ شهور، من تحديد لطبيعة الأحزاب والقوى السياسية المصرية. إذ لا يوجد مختبر أفضل من الصراع الطبقي في أنعطافاته الحادة للكشف عن الأساس الطبقي للسياسة الحزبية المصرية. وسنقتصر في حديثنا هنا على الأحزاب والقوى المعارضة للقانون، والتي فرزتها الأحداث بشكل عميق حقا.
يمكننا أن نقسم الأحزاب والقوى السياسية المعارضة للقانون (فيما عدا الماركسيين الثوريين) من حيث جذورها الطبقية الأساسية إلى قسمين رئيسين: القوى المنحازة بشكل حاسم إلى البرجوازية (التجمع، العمل، الناصرى، الحزب، الشيوعى)، والقوى الديمقراطية البراجوازية الصغيرة (الناصريون الراديكاليون خارج الحزب الشيوعى). وقد أكدت تجربة اقل من عام واحد من النضال الفلاحى السافر ضد الدولة والبراجوزية الكبيرة السمات الأساسية لكل قسم، وكأن لها الفضل فى إثبات – وفى حالة القوى المنحازة إلى البراجوزية “فضح”! هذه السمات بشكل عملي.
فلننظر على سبيل المثال إلى القوى التى اسميناها بالقوى المنحازة بشكل حاسم إلى البراجوازية (ولنلاحظ أن كلها – فيما عدا الحزب الشيوعى – من “الأحزاب الشرعية” التى تسمح لها السلطة بالوجود العلني). هذه القوى تطرح نفسها كقوى ديمقراطية حقيقية – اى كقوى معبرة عن مطامح واَمال الجماهير الشعبية. تعلن هذه القوى – سواء التجمع أو العمل أو الناصرى أو الحزب الشيوعى – على لسأن قادتها أن صوتها وبرامجها ومواقفها هو – فى الحقيقة – صوت الجماهير المعارضة لسياسات الحكم، وأن الأصوات الاخرى تقف ضد مصالح “الفقراء”.
وفى المعركة الفلاحية طنطنت هذه القوى – بما تملكه من تراث فى الرياء والكذب الماهر – بكلام كثير عن مصالح جماهير الفلاحين المستأجرين والفقراء، وعن الظلم الذى يتعرضون له… الخ إلى الحد الذى قد يعرض من ليست لديه القدرة على التمييز بين الغث والثمين وبين الكاذب والصادق هذا الجبل الهائل من التدليس. ولكن من حسن الحظ أن المعركة الفلاحية التى رفعت درجة حرارة نفاق المنحازين إلى البراجوازية بشكل حاسم، هى أيضاً التى أوضحت الكنه الطبقى لسياساتهم الفلاحية، بل أنها – إضافة إلى ذلك – بلورت أنعطافهم الحاسم ناحية الحل البرجوازى للمسالة الفلاحية. فلترى كيف حدث ذلك.
فى مؤتمر حزب التجمع الذى عقد فى يوم 1 سبتمبر الماضى تحت عنوأن “أستقرار الفلاح أنقاد لمصر وللمستقبل”!!، “للتضامن” مع الفلاحين فى مناسبة عيد الإصلاح الزراعى علت أصوات بعض الحاضرين (مجموعهم أقل من300 فلاح) بالهتاف الاَتى: “تحيا مصر..خالد هو ضمير العصر.. من عرابى لمحيى الدين.. مصر بتنجب وطنيين.. وفى أعياد الفلاحين.. جايين تشكى من الحكام.. عايزين ياخدوا الأرض كمأن”. وبالطبع، فأن الهتافات لمحيى الدين رئيس الحزب لم تكن تعبيراً عن “صوت الجماهير” الفلاحية – فهذه الجماهير كأنت بحلول شهر سبتمبر قد فهمت إلى أى جأنب يقف الحزب – وأنما تعبيراً عن صوت القلة من رجال الحزب الملتفين حول “الزعيم” خالد.
فى هذا المؤتمر – وقبل الهتافات – عرض خالد والأخرون من قيادات الحزب برنامجهم بصدد نضال المستأجرين (قسم أساسى من البرجوازية الصغيرة الريفية) من أجل الإحتفاظ بالأرض. وفى هذا البرنامج يتضح كامل الطابع البرجوازى للحل التجمعى. ذكر خالد محيى الدين فى كلمته أن “قضية مستأجرى الأرض الزراعية ليست قضية حكومة ومعارضة أو فلاحين وملاك بقدر ماهى قضية وطنية بالأساس تمس بشكل مباشر مستقبل هذا الوطن وأمن المجتمع”. ووجه خالد رسالة للمسئولين قال فيها “إن الوقت لم يفت بعد وأنه من الممكن إنقاذ الوضع الراهن بإصدار تشريع عاجل بوقف تنفيذ المرحلة النهائية من القانون ليس حماية للمستأجرين بل حماية لمصر كلها”.
في هذه الكلمات القليلة حدد خالد الأسس التي يستند إليها مشروع حزب التجمع لحل القضية، أما المشروع نفسه فهو كالآتي: مع رفع القيمة الإيجارية بما يحقق العدالة بين المالك والمستأجر (على ضوء صافي دخل الفدان، وقيمة العمل المبذول من الفلاح وأسرته)؛ ضد طرد المستأجرين من الأرض التي تمثل المصدر الأساسي لدخلهم؛ مع إنشاء صندوق لتمويل شراء المستأجرين للأراضي التي يرغب الملاك في بيعها؛ مع إصدار مجلس الشعب لقانون عاجل يوقف تطبيق المادة في القانون التي تقرر طرد المستأجرين في أكتوبر، وذلك لعدة سنوات؛ مع إدارة حوار قومي حقيقي، خلال سنوات الإيقاف، من أجل الوصول إلى حل مستقر يحمي حق المستأجر في الاستمرار في الأرض وحق المالك في التصرف في أرضه وفي الحصول على ريع مناسب منها؛ مع توفير أراضي بديلة قابلة للزراعة للمستأجرين في الأراضي التي يرغب الملاك في زراعتها بأنفسهم؛ مع استخدام الوسائل “الشرعية والدستورية” في مقاومة القانون.
هذه هي أسس حزب التجمع، وهذا هو مشروعه. أما الحزب الشيوعي – ربيب التجمع وجناحه السري – فلم يختلف في مواقفه، برغم هالة السرية، عن الأخ الأكبر. من السطور المكتوبة في نشرة “الانتصار” (لسان حال الحزب الشيوعي) في أعدادها الأخيرة، يمكننا أن نستخلص موقف الحزب من النضال الفلاحي الجاري في الشهور الأخيرة. تقول “الانتصار” (عدد مايو / يونيو 1997): “أن الحل الذي يطرحه الاتحاد (المقصود اتحاد الفلاحين الذي أسسه التجمع) للمشكلة من خلال إنشاء صندوق لتمويل شراء المستأجرين للأرض بفائدة رمزية على فترات طويلة، هو الحل الوحيد والواقعي للمستأجرين والملاك الصغار الراغبين في بيع أرضهم”. وتضيف النشرة” أننا نناضل من أجل إسقاط القانون (يعني إسقاط البنود والمواد في القانون التي تعطي للمالك الحق في طرد المستأجر، ونعمل على استخدام كافة وسائل النضال الديمقراطي السلمي بداية من جمع التوقيعات وتقديم العرائض ولقاء المسئولين وتنظيم الاحتجاجات وإقامة المؤتمرات وإجراء المسيرات والمظاهرات السلمية”.. ثم تمضي النشرة ناقدة لموقف الحكومة” التي تصر على أن القضية شديدة المحدودية ولا تمثل أي مشاطل، ولموقف بعض المزايدين” من الذين يحاولون حرف حركة النضال تجاه هذه القضية الهامة عن مسارها الذي يمكن أن يؤتي ثمرة لصالح ملايين الفلاحين (غير مفهوم طبعا من هم المزايدون وكيف يحرفون مسار القضية)”. أما الموقف السليم الواجب على كل طرف الالتزام به من وجهة نظر “الانتصار” فهو أولا “أن يتمسك (الفلاحون) بالأرض وبحقهم في الحياة، وأن تستمر العلاقات الإيجارية مع إجراء تعديلات تفصيلية، وأن تتعاظم الحركة النضالية بالأساليب الديمقراطية المسئولة”؛ وثانيا “أن تقر الحكومة بواقع خطورة قضية طرد المستأجرين، وأن تبعد عن طرح الحلول غير الواقعية (استصلاح الصحراء) وأن تأخذ بالحلول العملية (كصندوق تمويل شراء المستأجرين للأرض)”؛ وثالثا “أن تتحرك القوى السياسية والديمقراطية المناصرة للقضية تحركا مشتركا بروح التضامن القومي وليس المزايدات السياسية، وأن تعمل على تشكيل لجان للدفاع عن المستأجرين في كل المواقع”. “إن الخيار – تقول الانتصار – (عدد يوليو / أغسطس 1997) بين النماء والاستقرار وبين العنف والدمار مازال قائما، وعلى الحكومة – على الأقل بوقف تنفيذ هذا القانون – وضع المجتمع في إطاره الصحيح”.
وإذا كان حزبا التجمع والشيوعي لديهما برنامج واضح ومفصل لإخضاع نضال الفلاحين للبرجوازية (كما سنبرهن بعد قليل)، فإن برنامج الحزب الناصري، الذي يتفق مع برنامج هذين الحزبين على نفس الهدف الاستراتيجي يتلخص في نقطة واحدة: الالتماس إلى رأس الدولة الرأسمالية الكبيرة – مبارك – ليقف في صف جماهير الفلاحين!! ففي مؤتمر عقده الحزب يوم 9 سبتمبر للاحتفال بعيد الفلاح (حضره حوالي 70 فلاح، معظمهم من قيادات الحزب بالمحافظات!) وجه بشير غنيم (أمين الفلاحين بالحزب) نداءات للرئيس مبارك بعنوان “نريدك معنا.. كما كنا معك: “سيادة الرئيس، عندما استشعر فلاحو مصر أن هناك خطرا قد تعرضتم له في تلك المحاولة الدنيئة التي نالت أمن وسلامة مصر في أثيوبيا.. لقد توقفت الحياة تماما في كافة مزارع وحقول وقرى مصر واحتبست الأنفاس. وهرع هؤلاء الفلاحون إلى منازلهم.. للاطمئنان.. (من خلال أجهزة التليفزيون) على سلامتكم. واليوم الخطر ذاته يتهدد هؤلاء الفلاحين. فلقد سقط منهم العشرات في صدامهم مع الملاك.. أليس من حقهم يا سيادة الرئيس المطالبة بنفس الشعور.. أيها الأخوة فلاحي مصر.. مازال الأمل يحدونا ومازالت ثقتنا في رب البيت ابن مصر.. فنحن ما زلنا في انتظار قراره العادل وتدخله السريع حماية لمصر وأبناء مصر ودحرا للطر المحدق الذي يتهدد الوطن والأمة بأسرها”. هذا هو الشق “الجبهوي” من برنامج الحزب الناصري: لعق حذاء مبارك واستجدائه للتحالف مع المستأجرين. أما الشق المتعلق بهدف “التحالف” فقد أكد ضياء الدين داود (رئيس الحزب) أنه إسقاط القانون: “من حقنا أن نعلن رفض أي قانون ضد رغبة ومصالح الشعب، ونعمل بكل الوسائل المتاحة لنغير هذا القانون. ونحن لا نحرض الفلاحين على التمسك بحقوقهم، وإنما نترجم رغبة الفلاحين ونحولها إلى مواقف.. وإلا لماذا يكون الحزب؟” (حقا أنها وقاحة ليس لها نظير!).
ومن التماسات الناصري نتوجه رأسا إلى نداءات العمل. فعندما عقد حزب العمل مؤتمرا (حضره من 700 إلى.. 1 فلاح) في يوم 9 سبتمبر توجه إبراهيم شكري (رئيس الحزب) بنداء لمبارك: “أن يتعرف على المشكلة بنفسه وأنني أثق أنه لن يحول أفراح أكتوبر إلى أحزان للفلاحين”. (هناك إذن تنافس بين الأحزاب على لعق الأحذية). وفي مؤتمر لاحق في الغربية (سبتمبر) بلور إبراهيم شكري منظور الحزب” للالتحام” مع نضال الفلاحين على النحو الآتي: “إننا ندعو إلى توفيق الأوضاع، واستغلال الطاقات العاطلة، وأن نعطي الفرصة لأبناء هذه الأمة للعمل حتى يصبح قرارنا بأيدينا، وحتى لا نصبح أسرى المعونات والهبات”. وأضاف: “إننا سعينا إلى توفيق الأوضاع بين الملاك والمستأجرين في العديد من الأماكن، وهناك 3500 حالة من شبين القناطر فقط، ويمكننا مساعدة الحكومة في توفيق الأوضاع في باقي المحافظات”. أن “توفيق الأوضاع” الذي يروج له حزب العمل في الشهور الأخيرة (بالتعاون مع جهاز الدولة) هو – كما يرى الحزب حل مرحلي مؤقت هدفه نزع فتيل الأزمة والحفاظ على الأمن والاستقرار وعلى مصلحة الوطن. أما الحل الاستراتيجي للمسألة الفلاحية والزراعية فهو المزارعة: “أن حزب العمل كانت لديه رؤية مختلفة عما جاء في القانون، وهي أن الحل في نظام المزاعة، تفاديا لاختلاف التقديرات في نظام الإيجار. ومع ذلك فقد طالبنا منذ إقرار القانون بأن يجري توفيق الأوضاع، وأن تتم عملية تطبيق القانون بمراعاة الحالات الخاصة. واقترحنا حلولا تسهل تطبيق القانون وتقلل من أضراره الاجتماعية (تمويل شراء الأراضي.. إلخ) – إبراهيم شكري في مقال بجريدة الشعب في 1 يوليو 1997.
* * *
هذه هي برامج ومواقف الأحزاب – التي صنفناها في خانة القوى المنحازة بشكل حاسم إلى البرجوازية – كما عبر عنها “القادة” و”الزعماء” في غمار اشتعال النضال الفلاحي في الشهور الأخيرة. فما هو – في الحقيقة – الشيء الذي يجمع بين هذه القوى ويوحدها؟ وهل هذا الشيء – كما تدعى هي – هو معارضتها للقانون؟
إن النظرة السطحية التي تكتفي وتحب أن تتمسك (غالبا لأغراض خاصة بها) بالقشور والشكليات المخادعة هي التي تقف عند بحثها عما يوجد التجمع والعمل الناصري والحزب الشيوعي فقط عند جانب معارضة هذه الأحزاب لقانون طرد المستأجرين. أما الماركسية الثورية فهي تبحث عن الأساس الطبقي الذي تنبني عليه هذه “المعارضة”. إن ما يوحد الأحزاب الأربعة المذكورة ليس على الإطلاق معارضتها للقانون، وإنما الطابع البرجوازي لهذه المعارضة. وهنا ينبغي أن نتوقف لنقدم نقدا لتيار الاشتراكيين الثوريين بقسميه (الاشتراكيون الثوريون وجماعة تحرير العمل) الذي قامت عناصره في مرحلة معينة من تطور المعركة الفلاحية بالتركيز في تشهير السياسي بهذه الأحزاب على “وهمية الحلول” المقدمة من جانبها (مثلا وهمية مشروع التجمع لإقامة صندوق لتمويل شراء الفلاحين للأرض التي يؤجرونها). بالطبع هناك ضرورة للتشهير بانتهازية من تصل وقاحتهم إلى حد طرح حلول يعلمون تماما إنها وهمية – نحن لا ننفي هذا. ولكن لب القضية يكمن بالتأكيد ليس في وهمية الحلول وإنما في طابعها البرجوازي.
تتوحد أحزاب العمل والتجمع الناصري والشيوعي المصري في أن مشاريعها لحل المسألة الزراعية والفلاحية تقوم – بشكل أكيد – على الحفاظ على المصالح الاستراتيجية للبرجوازية المصرية. والتوحد بالطبع لا يعني التطابق وإنما يعني النضال – بشكل سافر أو مخادع – من أجل الحفاظ على المصالح الأساسية لنفس الطبقة. ولذلك فبينما تتوحد هذه الأحزاب في كل ما هو أساسي، نجدها مختلفة في تفاصيل كثيرة ثانوية.
وقد ذكرنا من قبل في “الشرارة” أن المصالح الاستراتيجية للبرجوازية المصرية حيال المسألة الزراعية والفلاحية تتركز في إصلاح الريف، وتطوير قوى إنتاجه عن طريق تحويل الزراعة “إلى فرع من فروع الإنتاج الرأسمالي” وعن طريق “مركزة الملكية في يد كبار الرأسماليين المتحالفثين مع أغنياء الفلاحين (رأسماليو الريف) وتشجيعها على دفع استثمارات كبرى لتطوير طرق الزراعة”. وذكرنا أيضًا أن “الوجه الآخر لهذه العملية هو الإهلاك المتسارع للفلاح الصغير: سواء عن طريق انحداره الصريح إلى صفوف العمال الزراعيين (كما سيفعل القانون 96 – إذا ما طبق – مع آلاف الفلاحين، وكما كانت ولا تزال تفعل حالات إفلاس الفلاحين الصغار الذين لا يملكون قوة لمواجهة قوى السوق الحرة العاتية)، أو عن طريق تحويل ملكيته (أو أجارته) إلى “حيازة اسمية” تضخ أقساط وفوائد القروض، والضرائب، والريوع – وغيرها إلى المرابين والسماسرة والنهابين الكبار”. (الشرارة – العدد التاسع – سبتمبر 1997).
هذه هي المصالح الأساسية للبرجوازية المرية الآن؛ فما هو الموقف الذي تتبناه الأحزاب الأربعة في هذا الصدد؟ تقبل هذه الأحزاب بالركائز الأساسية للمشروع البرجوازي، ولكنها تكافح من أجل ألا يقترن هذا المشروع بإفقار الفلاحين وطردهم من أرضهم!! بالطبع هذا أمر مستحيل الآن لأنه يقوم على التوفيق بين أمرين متناقضين تمام التناقض: تطبيق السياسة البرجوازية لإصلاح الريف، وهو ما يقتضي تمكين الرأسمالية الكبيرة من السيطرة على الزراعة؛ ومواجهة تدهور الفلاحين الصغار، وهو ما يقتضي النضال الجذري ضد السياسة البرجوازية في الريف. لكن هذا الجمع بين المتناقضات يصبح مفهوما إذا ما أدركنا أن هذا قدر كل قوة تنعطف بشكل حاسم ناحية البرجوازية، ولكنها تحاول في نفس الوقت الحفاظ على بقايا جذور لها في أوساط الطبقات الخاضعة والمستغلة. قوة كهذه تتذبذب بشكل انتهازي، وتطرح نفسها كقوة ديمقراطية، كمعارضة لما هو قائم.. بينما جذرها الطبقي الحقيقي راسخ في البرجوازية. وكمعارضة برجوازية (للبرجوازية!!) تبحث لنفسها عن مكان على الخريطة السياسية بالتوجه إلى الجماهير، تسلك هذه القوة المسلك “الانتخابي” البرجوازي ولكن برياء وقح أكثر من المعتاد: الكذب على الزبون فيما يتعلق بجودة ومتانة وفائدة البضاعة!
تقبل أحزاب التجمع والعمل والناصري والشيوعي (كما يمكن أن نستخلص من العرض في القسم السابق) بكل ما تطرحه البرجوازية: بضرورة الحفاظ على أمن واستقرار المجتمع والوطن (أي بضرورة الحفاظ على السيطرة الطبقية للبرجوازية)؛ وضرورة نبذ العنف (أي بضرورة نبذ أي محاولة للقضاء على، أو حتى مواجهة السلطة الطبقية للبرجوازية)؛ بضرورة تطوير قوى الإنتاج في الريف مع الحفاظ على العدالة والتوازن بين المالك والمستأجر (أي مع عدم المساس بجوهر العلاقات الاجتماعية للإنتاج السائدة في الريف والقائمة على سطوة رأس المال)؛ بضرورة تعبئة التمويل للعملية الإنتاجية الزراعية عن طريق البنوك (أي عن طريق سيطرة رأس المال المصرفي على الفلاحين الفقراء واستنزافه لهم)؛ بضرورة الحفاظ على التعاونيات (أي بضرورة الحفاظ على التعاونيات الرأسمالية الخاضعة للسوق والقائمة على التنافس الرأسمالي)؛ بضرورة رفع الإيجار بطريق متوازنة (أي بضرورة الحفاظ على الريع الرأسمالي، وضبطه وفقا لقوى السوق)… إلخ.
تقبل الأحزاب الأربعة بكل هذا ولكنها تعارض طرد المستأجرين من الأرض.. والأسباب شرحناها قبل قليل. وتستند هذه الأحزاب في تعبئتها على هذا الموقف المتناقض على طرح نفسها كرائدة لفكر البرجوازية المتقدمة والمستنيرة التي – هكذا يدعون – لا تتجاهل مصالح الجماهير. لم يكن غريبا في هذا السياق أن يطرح عريان نصيف – وهو يدافع عن البرنامج الاستراتيجي الطويل المدى لتجمع في المسألة الفلاحية – إن شعار الأرض لمن يفلحها الذي يتبناه الحزب” ليس شعارا اشتراكيا بطبيعته، بقدر ما يستهدف في الأساس تصفية بقايا العلاقات الإقطاعية والمتخلفة في المجتمع، وتوفير الفرص الأوسع أمام الاستثمار الأكثر تقدمًا في الزراعة، وقد تم تنفيذه في الكثير من الدول ذات الأنظمة السياسية والاقتصادية المختلفة، بما فيها الدول الرأسمالية التقليدية كاليابان”. لم يكن غريبا أيضا أن يضيف عريان أن المزارع التعاونية الاختيارية (وهل حل طويل الأجل آخر من حلول التجمع) مطلوبة لمواجهة قوى السوق والتفاعل معها حيث أنها تقوم على مبدأ “التجميع الزراعي الاختياري وليس إلغاء الملكية الفردية” (عريان نصيف في مصر وقضايا المستقبل، الأعمال التحضيرية للجنة البرنامج بحزب التجمع – كتاب الأهالي رقم 60). وهكذا، فإن نصيف يدافع – في 1997 – عن إصلاح زراعي برجوازي غير ثوري هدفه تدعيم الرأسمالية في الريف، وعن مزارع تعاونية تقوم بدور مشاريع رأسمالية تنافس الرأسمالية الاحتكارية في الريف! أن ما يطرحه نصيف هو ببساطة إصلاح زراعي جديد يدعم السلطة الاقتصادية والسياسية للبرجوازية الكبيرة، بينما المطلوب – من وجهة نظر الثوريين – هو حركة فلاحية ثورية تحت قيادة البروليتاريا في المدينة والريف هدفها القضاء على سلطة رأس المال.
ولأن القوى المنحازة إلى البرجوازية بشكل حاسم تطرح برامجها البرجوازية – المطعمة بمحاولات لمغازلة الفلاحين الفقراء – في 1997 (أي بعد نهاية عصر رأسمالية الدولة، وأيضا في غمار مواجهة بين الفلاحين الصغار والدولة) فإن هذه البرامج والحلول التي تخرج من عباءتها تكون وهمية، أو بمعنى أكثر دقة مفلسة ومخادعة، هدفها القايم بدور الكابح لحركة الجماهير كأحد أدوار قوى التحالف البرجوازي (البرجوازية تحتاج إلى الانتهازيين أحيانا بالضبط لهذا السبب).
ولكن السياسة الحزبية المصرية، بأسسها الهشة وبقاعدتها المستندة إلى ديكتاتورية مستبدة تجعل الأحزاب لعبة ورقية، لا تعترف بكل هذا، وليس لديها مكان أو مجال لخدمات الأذناب عديمي القيمة من الانتهازيين. البرجوازية المصرية قادرة على تمرير مصالحها بدون اللجوء لهذه الأحزاب. والأمر كذلك، فإن موقف حزب العمل كان بائسا حينما كان يمارس أكاذيبه وتعبئته الزائفة في معركة الفلاحين (تلك التعبئة التي أسفرت – كما رأينا – عن النضال من أجل “التوفيق”!)، ويحاول في نفس الوقت أن يدعو “أهل الحكم”. لإجراء حوار من أجل إنقاذ الوطن (أي لإقامة تحالف برجوازي سياسي جديد يدعم مصالح البرجوازية). أما موقف حزب التجمع، فقد كان أكثر بؤسا عندما تحسرت جريدته (الأهالي 1 سبتمبر 1997) على خيانة الحزب الوطني للاتفاق الذي عقده مع التجمع قبيل عرض القانون 96 لسنة 92 على مجلس الشعب، والذي تضمن عناصر عديدة من برنامج الحزب لحل المسألة الفلاحية: “واحتفلنا بهذا الاتفاق (المقصود هو الاتفاق بين الوطني والتجمع على مشروع قانون للعلاقة هو الاتفاق بين الوطني والتجمع على مشروع قانون للعلاقة بين المالك والمستأجر) وتبادلنا التهاني وشربنا الساخن والمثلج. ومن جانبنا، نحن حزب التجمع، أخذنا الموضوع بجدية والتزام ونشرناه في الأهالي.. وقلنا أنه اتفاق رائع. ولكن الحزب الوطني فعل بهذا الاتفاق – الرائع – ما فعله عمرو بن العاص باتفاق دومة الجدل فأدخله مجلس الشعب وله فيه الأغلبية الكاسحة، وبجرأة تجاوزت حدود الشجاعة إلى التهور أخرج القانون 9 لسنة 9 الذي رأى فيه التجمع نقضا لكل ما كان الاتفاق قد تم عليه، فرفضه ورفضه معنا آخرون”!!!
بؤس الحزبين أصبح واضحا للعيان عندما مضت الدولة في طريقها غير عابئة باستجداءات هذه الأحزاب وبلعقها للأحذية؛ سواء في معركة الفلاحين أو في غيرها. ولكن هذا بالطبع لا يثير شفقة الماركسيين الثوريين وإنما يثير احتقارهم للذين يهربون من كل مسألة مبداية لإخفاء انعطافهم الحاسم ناحية الببرجوازية، لتأتي المعارك الطبقية الهامة فتكشف للجماهير وللمخدوعين في أي جانب من التاريخ يقفون.
* * *
ننتقل الآن للحديث عن القسم الثاني من القوى السياسية المصرية، ونعني به القوى الديمقراطية البرجوازية الصغيرة. ورغما عنا فإن حديثنا سيكون مختصرا جدا، وذلك لسببين: أولا أن هذه القوى محدودة العدد والتأثير ومبعثرة، وثانيا أنها ليست منتظمة في أشكال سياسية واضحة المعالم، وبالتالي ليس لها تراث مكتوب.
تتميز القوى الديمقراطية بتبنيها الكامل لآمال وطموحات الجماهير، ولكنها تتميز أيضا بتبنيها لأوهام هذه الجماهير (البرجوازية الصغيرة) عن طبيعة وهدف النضالات التي تخوضها. وفي غمار النضالات الكبرى للبرجوازية الصغيرة، حركة الفلاحين، تنتعش القوى الديمقراطية وتولد من جديد. ولكن بسيماء جديدة تحمل من آثار الشيخوخة والعجز والتردد أكثر مما تحمل من آثار الفترة والشباب. إذ لا ينبغي أن ننسى أن عهد الحركات الوطنية الراديكالية قد ولى، وأصبح الجمع بين الميول البرجوازية الصغيرة وبين الثرة أقرب إلى المستحيل.
ولعل الناصرية الراديكالية التي يحمل لواءها حمدين صباحي وكمال أبو عيطة وآخرون كانت أكثر القوى الديمقراطية بروزا على ساحة النضال الفلاحي في الشهور الأخيرة. والناصرية الراديكالية – كما ظهرت في المعركة الفلاحية – كانت “زعامة” و”رمز” أكثر منها حركة سياسية لها وضوح برنامجي سياسي. وهذه بالطبع سمة من سمات كل الاتجاهات البرجوازية الصغيرة التي تستطيع أن تنتج من الزعامات أكثر بكثير مما تنتجه من البرامج والسياسات.
أسس حمدين صباحي ورفاقه “اللجنة القومية للدفاع عن الفلاحين” – التي توسعت فيما بعد لتشمل العديد من القوى السياسية -، وخاضوا من خلالها المعركة كعناصر ديمقراطية حقيقية تتبنى مطامح الجماهير الفلاحية، من المستأجرين الصغار، في الاحتفاظ بالأرض. ولكن كأي برجوازيين صغار – غاضبين من فظائع الرأسمالية ولكن كأي برجوازيين صغار – غاضبين من فظائع الرأسمالية ولكن لا يعرفون مصدرها ولا كيفية القضاء عليها – طرح الناصريون الراديكاليون أنفسهم كمعبرين عن الجماهير (عن الشعب، عن الفقراء،.. إلخ) بوجه عام، وتخلفت تعبيراتهم بغطاء أيديولوجي ناصري تمثل في بعض جوانبه، في بعض الأحيان، مع أحط أشكال الرطان الناصري البرجوازي الذي يتقنه الحزب “الشرعي”. بل إن كمال أبو عيطة في أحد المؤتمرات (مؤتمر الحزب الناصري في 9 سبتمبر الذي أشرنا إليه من قبل) دعا الفلاحين إلى مقاومة القانون مؤكدا أن “هذه ليست دعوة للعصيان أو العنف ولكنها دعوة لبناء هذا الوطن”!!
حمدين صباحي هو الآخر تحدث في احتفالية أقامتها له جريدة الدستور بمناسبة خروجه من السجن، فأثنى على الفلاحين، وعلى الرفاق والزملاء المسجونين، وتعهد بمواصلة النضال ضد القانون إلى النهاية. ولكنه عبر عن تقديره لما خلفته المعركة من محو للتمايز والانقسام بين عناصر القوى السياسية المختلفة (هذا الانقسام الذي خلقته القوى الاستعمارية والظروف الخارجية كما خلقت تقسيما مماثلا في الحدود بين الدول المستعمرة!). بالنسبة لحمدين صباحي، تنصهر كل القوى في بوتقة واحدة في دفاعها عن “الشعب”.. عن الفلاحين – لا فرق بين ناصري وتجمعي وماركسي وحزب عمل! وبالنسبة لحمدين هذا معناه أن هناك ضرورة لإعادة النظر في هذه الفروق المصطنعة وخلق جبهة واحدة أصيلة وعميقة.
ولنلاحظ أن حمدين صباحي ومن قبله أبو عيطة يتحدثان بألفاظ مماثلة لألفاظ القوى المنحازة إلى البرجوازية، في تعبيرهم عن ضرورة “الدفاع عن مصالح الوطن”، وعن ضرورة محو التمايزات والانقسامات المصطنعة.. إلخ. ولكن بينما أن الناصريين الراديكاليين – كديمقراطيين برجوازيين صغار أصلاء إلى حد كبير – يعبرون بهذه اللغة عن أوهام البرجوازية الصغيرة في فهم طبيعة نضالها ضد البرجوازية، فإن المنحازين إلى البرجوازية يخفقون بها انحيازهم الحاسم للبرجوازية (وهل توجد برجوازية تطرح نفسها إلا كممثلة للمجتمع كله؟!).
الديمقراطيون البرجوازيون الصغار يحملون كل ضيق أفق المالك الصغير، وكل فشله في أن يجد لنفسه موقعا على خريطة المجتمع الطبقية (فهو ينتمي إلى طبقة أهم سماتها أنها محصورة – ومتذبذبة – بين طبقتين). ولذلك رأينا أن الناصريين الراديكاليين فشلوا في أن يقدموا نقدا سياسيا طبقيا للأحزاب الشرعية التي ظهرت خيانتها لمبادرة الجماهير في المعركة، وفي أن يطرحوا مشروعهم بلغة طبقية واضحة وحقيقية. وهذا ما جعل المسألة تنطرح في كثير من الأحيان من أوساطهم على أنها مسألة فنية.. مسألة وضع خطة مناسبة تحقق مصالح الجماهير (بالرغم من أنها – بالطبع – لن تقضي على الأسباب الجذرية لاستغلالهم). وهذا أيضا ما جعل محور نقدهم السياسي للأحزاب الشرعية يتركز – إضافة إلى الحديث عن خيانتها – على وهمية الحلول التي تطرحها (وهي سمة قلنا أن تيار الاشتراكيين الثوريين تأثر بها فترة)، دون النظر إلى ما هو جوهري: المضمون الطبقي لهذه المشاريع.
الناصريون الراديكاليون يجمعون فقط سمات الغموض وأحيانا التردد من جانب، مع البطولة والتفاني من جانب آخر، وإنما أيضا حملوا سمات الهزال والضعف ومحدودية التأثير. ولذلك فبالرغم من ظهورهم في المعركة – دفقة الحياة التي تلقوها – إلا أن تأثيرهم فيها وفي مسارها كان محدودا. وهم في هذه النقطة الأخيرة (التأثير المحدود) يشتركون مع الماركسيون الثوريون، ولكن الفارق هو أن الاشتراكية الثورية هي قوة المستقبل (الطبقة العاملة هي القوة الوحيدة المؤهلة لقلب هذا المجتمع ثوريا)، بينما الديمقراطية البرجوازية الصغيرة هي قوة مشدودة للماضي لما تقوضه الرأسمالية وتقضي عليه.