الإخوان والحركة العمالية.. طريقان لا يلتقيان

في تسعينيات القرن التاسع عشر نما في مصر قطاع استثماري مملوكا لأجانب ومتمصرين، في مجالات التمويل والخدمات (الترام، الكهرباء، الغاز، الملاحة والشحن) وصناعات مرتبطة بالزراعة (السكر والقطن والحرير…) كما نمت، خلال الحرب العالمية الأولى، طبقة برجوازية مصرية ظلت لصيقة بالرأسمالية الأجنبية برغم التنافس الظاهري. وقد عاشت الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة في حالة من التهميش والخطر الدائم في السقوط للطبقة الدنيا، وهي البيئة التي نما فيها فكر لإخوان.
طرح الإخوان تصورًا أخلاقيًا لمشكلات الواقع المصري تحت الاحتلال، واختزلوها في “التغريب والفساد الأخلاقي”. وقد حملت كتابات البنا، وقبله رشيد رضا في مجلة المنار، تعاطفا مع حقوق العمال، من منطلق أخلاقي وإنساني، شابه الخلط الناجم عن كون معظم الطبقة الرأسمالية من الأجانب، حيث تم تصدير هذا الجانب في الصراع وانكار الصراع الطبقي، برغم من صعود الحركة العمالية، التي بدأت إرهاصاتها في نهاية القرن التاسع عشر، وصعدت في موجة كبيرة مع نهاية الحرب العالمية 1918، لتنفجر ثوة 1919م. وقد توُج نضال العمال في ظهور عدد من النقابات، وفي بلورة مطالب عامة للعمال تتعلق بالأجور وساعات وظروف العمل، والحرية النقابية.
الاتجاه يمينا فيمينا
ارتبط نشاط الأحزاب والتنظيمات الشيوعية ارتباطا وثيقا بالحركة العمالية، كما سعت الأحزاب الليبرالية للارتباط بالحركة العمالية بسبب زخمها، في حين خلت برامج كل من “مصر الفتاة” و”جماعة الإخوان المسلمين” من أي ذكر للعمال، وأثبتت المواقف نفورهما من العمل النقابي.
كانت الطبيعة الطبقية المتناقضة للإخوان هي سبب تناقض موقفهم وتحوله من التعاطف، إلى التخوف، ومن ثم معارضة امتداد النضال العمالي، ففي في نهايات الثلاثينيات، أعلن عدد من أعضاء “الاتحاد العام لنقابات عمال المملكة المصرية” الإضراب عن الطعام، مطالبين بإصدار تشريع عمالي، لكن “صالح العشماوي” أرسل رسالة باسم الإخوان يطالب العمال بالعدول عن الإضراب.
خلال انتفاضة فبراير 1946، قام الإخوان بتشكيل ” لجنة الطلبة والعمال” بدعم من القصر في مواجهة “اللجة الوطنية للعمال والطلبة” التي ضمت بقية القوى الوطنية، كما قام الإخوان بالاعتداء على عمال شبرا الخيمة.
وبرغم عدم تصاعد الانتفاضة، لم ينطفئ وهج الحركة العمالية، التي تعرضت لمعاملة متوحشة من الشرطة كما شنت “الإخوان” حملة ضد عمال النسيج في شبرا الخيمة والأسكندرية.
مع الضباط ضد العمال
أعقبت حركة الضباط الأحرار يوليو 1952، شهر عسل مع الإخوان، دفعت فيه الجماعة نحو قمع الحركة العمالية والحركة الثورية عموما، فقد كان أحد أعضاء المحكمة التي قضت بإعدام خميس والبقري بعد أقل من شهرين من حركة الضباط، من الإخوان، كما ناشد “سيد قطب” نفسه مجلس قيادة الثورة على صفحات الجرائد من أجل حظر الإضرابات والمظاهرات.
انتهت فترة الوفاق، بحملة الاعتقالات التي طالت أيضا الشيوعيين، الذين تم استثناؤهم بالماسبة من قرارات الإفراج التي تلت حركة الضباط. وقد شهدت فترة الستينات صعود وازدهار المشروع الناصري على كافة الجوانب الوطنية والاجتماعية والاقتصادية، مع تأميم الحركة النقابية.
وما أدراك ما السبعينيات
شهدت السبعينيات، تراجع المشروع الناصري وصعود السادات، لينقلب على كافة منجزات عبدالناصر، في حين وجد الإخوان الهاربين إلى الخليج فرصة للعودة من جديد، بتركيبة طبقية وقيمية مختلفة عن جيل الآباء. وقد بنيت الجماعة من جديد، بدعم مادي قوي من مؤسسات استثمارية نمت بأموال الخليج في عصر الانفتاح، وبقوة شباب الحركة الطلابية، من جيل محمد أبو الفتوح وغيره.
من الجامعات إلى النقابات المهنية
كان اهتمام الإخوان بالعمل النقابي امتداد لنشاطهم الناجح في الجامعات، كما يقول ابو الفتوح “بعد التخرج بحث هؤلاء الطلبة عن مكان للاستمرار في نشاطهم فيه، وتوجه معظمهم إلي النقابات المهنية نظراً للقيود الموضوعة علي النشاط الحزبي” وأصبحت النقابات المهنية من أهم محطات الانطلاق التى شهدتها الجماعة، وكانت الطبيعة الطبقية المتناقضة لعضوية تلك النقابات (الطبيب مع صاحب المستشفى، والمهندس مع المقاول وصاحب الشركة، والصحفي مع رئيس التحرير) تتماشى مع سياسة الإخوان التوافقية.
ومن جانب النظام كان ذلك فرصة لاستيعاب الإخوان الرافضين للعمل المسلح والمهادنين بشكل عام، في ظل حربه مع الجماعات الاسلامية المسلحة، ارتبط صعود الإخوان بالانتخاب بقوائم سياسية وليست وفق الفروع النقابية. وفي نقابة الأطباء حصد الإخوان 40% من المقاعد في 1984، وصلت إلى 71% في دورة 1991م. كما حصدوا النسبة نفسها في نقابة المهندسين، وامتد نفوذهم إلى بقية النقابات المهنية، ولكن دون الاقتراب من مقعد النقيب الذي ترك طوعا لرجال النظام، كما أعطتهم صداقتهم بعثمان أحمد عثمان الفرصة للنشاط في نقابة المهندسين. ورغم تجميد النظام لنشاط النقابات، أبقى الفرصة للإخوان للاستمرار في نشاطهم الخدمي. الذي يعد امتداد لنشاطهم الخدمي في الجامعة، على حد قول ابو الفتوح، حيث أقام الإخوان معارض السلع والملابس والاثاث، معتمدين على شبكتهم التنظيمية.
وفي مقابل قوة التيار الإسلامى فى النقابات المهنية، لم يكن لهم تاثير في النقابات العمالية. وقد زعم بعض الكوادر الإخوانية أن المشكلة ترجع إلى تلك النقابات التي “تهتم بالقضايا اليومية والحيايتة على حساب القضايا الكبرى أو الإسلامية”
أدى دخول الإخوان البرلمان إلى زيادة توافقهم مع النظام، طوال الثمانينيات والتسعينيات، فقد اكتفوا بالنقض المحدود لسياسات مبارك، كما لم يبدوا أي اعتراض على تطبيق سياسات تحرير السوق وخصخصة القطاع العام، التي يؤيدونها إيديولوجيا، بينما ينتقدونها ظاهريا من حيث طرق التقييم والتمويل فحسب.
عقد التغيير
مع صعود فرص التغيير السياسي، اعتبار من الانتفاضة الفلسطينية ثم احتلال العراق، وبشكل خاص مع حركة التغيير 2005-2006، حرص الإخوان على الاحتفاظ بمسافات متقاربة من كل الخيارات، وهو ما يتسق مع طبيعتهم السياسية-الطبقية. وهناك من ميزوا بين تيارين في جماعة الإخوان الأول (تحديثي أو إصلاحي) وهو الأكثر ميلا للتوافق مع الدولة والمجتمع، وتيار محافظ، تربته في الشرائح الأفقر، لكنهم يرجعون المشكلة إلى “الانحلال الأخلاقي، وهو ما ينعكس في مواقفهم المتعصبة ضد المرأة والأقباط.
حديث الحزب
تكررت مشروعات الإخوان لتأسيس أحزاب سياسية كمظلة “شرعية” لنشاطهم، منذ 1986، وكان آخرها قبل الثورة طرح برنامج حزبي تجريبي في 2007م. تحدث عن “مرجعية النظام الاقتصادي الإسلامي”، وهو مصطلح فضفاض ينتقد بعض مظاهر الرأسمالية ولا يتناقض مع جوهرها.
ولعل أهم الأمثلة هو قضية الخصخصة، حيث لا ينتقدها برنامج الإخوان، بل ويعتبرها ضرورية ومطلوبة، ويستند إلى دراسات أعدتها مؤسسات كالبنك الدولي بشأن تجارب الخصخصة، ويختزل نقده على آداءات الفساد التي اتسمت بها عملية الخصخصة في مصر. كما أعلن العريان في خضم معركة التغيير أن الإخوان في حالة وصولهم للحكم سيواصلون برامج الخصخصة والانفتاح على السوق العالمي، وأنهم لن يمسوا الاستثمارات بأي حال.
بعد الثورة.. الشاطر يكسب
يمكننا أن نقول أن حالة من المنافسة (وليس الخلاف) على قيادة الجماعة كانت قائمة بين جناح السياسيين والمهنيين الذين مثلهم ابو الفتوح، وبين جناح كبار الرأسماليين، وعلى رأسهم خيرت الشاطر وحسن مالك، انتهت إلى فوز الجناح الأخير، بعد خروج ابو الفتوح في أعقاب الثورة.
وكان الشاطر هو الرجل الأول في الجماعة، وممثل الجماعة والحزب في الاجتماعات العديدة التي واكبت الحملة الانتخابية الرئاسية، والتي ضمت رجال أعمال أجانب، ورجال أعمال من عهد مبارك. غازل خيرت الشاطر العالم الرأسمالي الخارجي في تصريحاته حيث أكد عدم التراجع عن اقتصاد السوق، واحترام كافة الاتفاقيات (كامب ديفيد، الغاز، الكويز).
أقرب للسطة.. أكثر قمعًا
أيد الإخوان أول مراسيم المجلس العسكري، القاضي بـ”تجريم الاعتصامات والإضرابات”، كما أدان المرشد وكوادر الجماعة دعوات الإضرابات والاعتصامات. وقد تعمد المجلس العسكري تعطيل قانون الحريات النقابية، وتأجيل الانتخابات النقابية وعودة اتحاد مجاور مع تعيين بعض من رجال الإخوان كأعضاء بالاتحاد.
وبعد دخولهم البرلمان، سعى الإخوان إلى تمريرمشروع قانون جديد، يزيد من القيود المفروضة على التظاهر والاعتصام. واستبعاد قطاعات كاملة من قانون النقابات، والتضيق على تكوين النقبات المستقلة، والاحتفاظ بالهيكل الهرمي لاتحاد العمال بعد سيطرة الإخوان عليه، واستمرار تدخل وزارة القوى العاملة. وقطع صلة العمال بالسياسة وقصر نشاط النقابة على النشاط الخدمي، وتقليص الحماية النقابية على مجالس الإدارات. في مقابل تخفيف العقوبات الواقعة على أصحاب العمل في حالة التضييق على حركة العمال أو حتى فصلهم، إلى الغرامات التافهة.
ومن ناحية أخرى استمر الإخوان في التسلق على نضال العمال، وعلى سبيل المثال، خلال اعتصام عمال القومية للأسمنت، قام النائب رمضان عمر (الحرية والعدالة) بالضغط على العمال لقبول العمل باليومية، بينما كانوا يطالبون بالتعيين، كما تكرر الموقف في الكثير من الإضرابات، منها إضراب غزل المحلة في يوليو2012، فبعد إضراب قرابة 10 ايام وزع الإخوان بيانا يزعم أن الفضل يعود لـ” سعد الحسيني” و”محمود توفيق” عضوا البرلمان عن الحرية والعدالة، ويدعو في الوقت نفسه للكف عن الإضرابات.
نهضة الإخوان.. نكبة العمال
استهل مشروع النهضة بأنه “خرج من رحم جماعة جاهدت على مدى ثمانين عاماً لحفظ هوية الأمة”. أرجع مشروع النهضة في مقدمته مشكلات البلاد إلى “سيطرة دولة غاشمة وطغمة فاسدة أو روتين حكومي فاسد لا يرحم”. وأن الشعب يستحق مكانته “بالقيم السامية والعلم والابتكار”، ودوله تمكنه من “فرص التعليم والصحة والعمل والاستثمار”.
وفي محور التحول للاقتصاد التنموي : أكد على جوانب ظاهرية، وحلول تفصيلية غير جوهرية، مثل “إصلاح النظام المصرفي”، وخطط المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والدعم الفني وبرامج التدريب، والتأكيد على “البنية التشريعية الملائمة”.
أما الحقوق الاجتماعية فقد جاءت تحت عنوان “التمكين المجتمعي”: حيث تحدث المشروع عن “منظومة عدالة اجتماعية” دون توصيف دقيق، وتحديد حل البطالة بـ”التطوير الكمي والنوعي في قدرات العاملين” بهدف “تلبية احتياجات سوق العمل”. وأكد على ضمان تقليل دور الدولة وإعادة دور الأوقاف.. بينما رهن حرية الإعلام بـ“الانضباط بالقيم المصرية”.
مرسي.. المواجهة من اليوم الأول
بلغت الإضرابات والاعتصامات العمالية في الشهر الأول لمرسي 400 احتجاج، بل ووصلت إلى قصر الرئاسة. وقد تطورت الإحتجاجات، التي يمكن تلخيص مطالبها بشكل عام في تطهير المؤسسات من القيادات الفاسدة والفلول والعسكريين، وحتى الاعتراض على تعيين وزراء (الزراعة والطيران)، واستعادة الشركات المنهوبة، ومطلب الحد الأدنى للأجور، وتعديل التشريعات العمالية: الحق في الإضراب، والحماية من الفصل والحريات النقابية، وتثبيت العمالة المؤقتة وعودة العمال المفصولين.
وفي المقابل، استمر القمع الموجه للحركة العمالية، فعلى سبيل المثال تم اعتقال النقابيين بهيئة النقل العام، والتشجير، والضيافة الجوية، وشركة تجارة الجملة، بتهمة التحريض علي الإضراب، وسحل العاملات في التشجير لفض اعتصامهم أمام وزارة الزراعة بالقوة، وحتى فصل مجالس إدارات نقابات مستقلة بالكامل.
وتستمر الإجراءات المتوالية بهدف خنق الحركة العمالية وتكبيلها، ففي مارس الماضي، أعلن خالد الأزهري وزير القوى العاملة، وقف قيد النقابات المستقلة، بعد تشكيل مئات من النقابات المستقلة التي قادت احتجاجات العاملين بأجر طيلة الفترة الماضية لانتزاع مطالبها في تثبيت المؤقتين، ورفع المرتبات وربطها بالأسعار، وإلغاء سوق العمل الأسود، وعودة الشركات التي تم نهبها. حيث نجح العمال في إعادة عدد من الشركات التى نهبها تحت اسم الخصخصة مما يغضب مؤسسات التمويل الدولية، كما نظموا إضرابا عاما في بورسعيد ويتطلعوا إلى إدارة شركاتهم ذاتيا بعد هروب المستثمرين.