بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

لماذا لا يقاوم الفلاحون طردهم من الأرض.. بالشدة اللازمة؟!

تحتاج الإجابة على هذا السؤال التعرض لقضايا متعددة، منها وضع القوى السياسية، وفي القلب منها اليسار، وعلاقتها بالفلاحين، ومنها أداء النظم ومحاولاته لتمرير سياساته لتطبيق سياساته المعادية للفلاحين مستخدماً مختلف الأساليب والأدوات.

إلا أن أحد اهم العناصر التي نحتاج لفرض مساحة لمناقشتها هي الفلاحون أنفسهم وخاصة القيادات التلقائية وكذا العناصر الأبرز منهم التي نعتبرها قيادات سياسية سواء انخرطت فى التنظيمات اليسارية أو لم تنخرط.

الفلاحون منذ يوليو 1952:

نبتت القيادات الفلاحية في الريف أو بالقرب منه فى ظل تخلف اقتصادي وسياسي وفكري شامل، حيث كانت وسائل الإنتاج بدائية وكذا طرق الزراعة وأنماط الإنتاج، وحيث تنتشر الأفكار الغيبية والخزعبلات والخرافات، ويغيب الوعي بحاجتهم للتنظيم النقابي والسياسي، علاوة على أن وطأة الإقطاع كانت ثقيلة قبل 1952 وجبروت النظام الحاكم كان شديدا ومستمرا بعدها رغم ما أجراه من تغييرات وأصدره من قوانين تتعلق بالأرض وبغيرها.

وقد أدى هذا الوضع، الخاص بالفلاحين والنظام معا، إلى إضعاف القدرة على العمل الجماعي فى الريف خصوصا بعد قيام ثورة يوليو. ولم يتغير ذلك الحال كثيرا فى العهود الثلاثة التى انقضت منذ ذلك التاريخ.

ففي عهد عبد الناصر، ورغم المكاسب التى حققها الإصلاح الزراعي، إلا أن الفلاحين لم يشاركوا فى تنفيذ أى من الإجراءات الجديدة، علاوة على أن الدولة كانت تتحكم فى كل شيء يتعلق بالإنتاج الزراعي (خطة الإنتاج، الأصناف التى تزرع ومساحاتها، تسويق الحاصلات الزراعية وتصديرها وأسعارها، توريد المحاصيل الإجبارى للدولة، عمليات التسميد والمقاومة وأسعارها الخ.. ).

أما فى عهد السادات فقد تم العصف بكل المكاسب التى تحققت، وفُتِح الباب واسعا لهيمنة الأغنياء والكبار على مقاليد الريف والإنتاج الزراعي، وأرسيت الأسس التى تقضي قضاء مبرما على إمكانية الاستفادة مما أسسته الناصرية أو تعديل بعض أسسها لزيادة فائدتها.

وفى العهد الحالي نمت سياسات السادات وازدهرت، حيث تعهدها مبارك بالرعاية حتى أثمرت وأضاف لها الكثير.

لقد ضاقت الخيّة حول رقاب الفلاحين منذ صدور قانون رفع الحراسات 69 الأول عام 1974. فكلما تدهورت سبل الحياة وتعثرت إمكانية الزراعة كلما غادرت الريف قطاعات جديدة من الفلاحين والعاطلين ثم من خريجي المعاهد التعليمية والجامعات للالتحاق بدوائر وحلقات رجال الأعمال والحكام المحليين وبعض رجالات الدولة والمسئولين السابقين، أو للسفر والهجرة إلى بلاد النفط والبلاد الأوربية، أو للإرتباط بوكلاء الشركات الأجنبية والأعمال الملحقة بتجارة المستورد، فضلا عن كثير من الأعمال الخدمية (كرجال أمن وخفراء وخدم فى المنازل وباعة جائلين).

من ناحية أخرى أصبح هذا المناخ، الذى ساد فى فترة الإنفتاح وما تلاها، أرضا خصبة لاختلاط ثقافة الاستهلاك بثقافة الريف لتفسد جوانبها الإيجابية. وكلما تقلص حجم العمالة فى بلاد النفط وضاقت فرص العمل فى مصر وازداد الفقر واستشرت البطالة وانتشر الفساد كلما انتعش تيار الإسلام السياسي. فقد خلق له النظام الحاكم وضعا نموذجيا للنشاط، وباتت المهمة الرئيسية أمام هذا التيار هى تغييب وعي الجمهور وصرف انتباهه عن الأسباب الحقيقية لتلك الكوارث المحيقة بالشعب وتوجيه طاقته إلى دروب العنف، بل ومشاركته للنظام فى إشاعة اليأس والإحباط وقتل الانتماء للوطن.

باختصار كان وضع الفلاحين منذ يوليو 52 هو وضع المتفرجين على كل ما يحدث حولهم من تغييرات ولم يكونوا طرفا فاعلا فى يوم من الأيام ولم يتم تشجيعهم أو دعوتهم للمشاركة من جانب النظام، كما لم يتم دفعهم إليها من قادتهم اليساريين، بل كانوا موضوعا لتلك التغييرات مثلهم مثل الأرض تماما.

فكما انتقلت الأرض من الإقطاعيين للفلاحين انتقل الفلاحون من زراعة الأرض لحساب الإقطاع إلى زراعتها لحساب أنفسهم وحساب الدولة (يدفعون أقساط التمليك أو الإيجار السنوى ويلتزمون بزراعة محاصيل بعينها وتوريدها للدولة بأسعار محددة سلفا ويشترون كل مستلزمات الإنتاج من الدولة). واستمر ذلك الوضع حتى عام 74 حين أطلق السادات الطوفان واستكمل مبارك المسيرة وتراجع الفلاح إلى الوراء وتقدم كبار الزراع والمستثمرون والشركات الزراعية العالمية لتصبح حجر الزاوية فى السياسة الزراعية الحالية. ولم يبد الفلاحون إيجابية حقيقية إلا فى حالات محدودة، وعند طردهم من أراضي الإصلاح الزراعي وإبان تطبيق قانون الإيجارات الزراعية 96/1992 .

وبالقطع لايمكن إرجاع ذلك إلى حالة التخلف الفكري والسياسي للفلاحين فقط ولا لجبروت النظام الحاكم بمفرده. فقد كان دور اليسار ودور القيادات الفلاحية فى الريف عنصرين هامين فى هذه المعادلة. وحيث يصعب الفصل بينهما فى كثير من الحالات فسنجمل الحديث عنهما معا.

اليسار والقيادات الفلاحية:

اتسمت القيادات الفلاحية التلقائية أو المنخرطة فى صفوف اليسار بالتواضع الشديد فى الحصيلة الفكرية والسياسية وهو ما جعل كثيرا من نشاطها أقرب إلى ردود الأفعال منه إلى الأعمال الواعية والمُحكمة.

ولأن تلك الحصيلة كانت تمثل شرطا حاسما فى قدرة هذه القيادات على قراءة الواقع الفلاحي، فإن فقر حصيلتها قد أسهم بشدة فى إضعاف قدرتها على اختيار التكتيكات والأدوات المناسبة للكفاح. وهذا بخلاف إضعاف إدراكها لدور الفلاحين السياسي عموما فى البلدان المتخلفة التى يشكل الفلاحون فيها نسبة كبيرة من السكان ويتعرضون لقهر مضاعف منسوبا لبقية طبقات المجتمع نظرا لتخلفهم وتدنى وعيهم السياسي والنقابي. ونشير فى هذا السياق لما كان رائجا فى أوساط مثقفي الريف واليساريين عموما فى ستينات القرن الماضى من المفاهيم المغلوطة فى هذا المجال.

فقد كان فهم كثير من القيادات للتوعية السياسية فهما مدرسيا منحصرا فى مساعدة الفلاحين على معرفة التسلسل التاريخي لتطور المجتمع وبعض الحتميات التاريخية والمفاهيم الفكرية والسياسية الكلاسيكية. ولم تدرك هذه القيادات أن الكفاح يتطلب شيئا مختلفا ويحتاج فهما وإدراكا نظريا ناضجا لا يتأتى من مجرد القراءة بعيدا عن النشاط العملي، كما لا يتأتى من مجرد نشاط عملي –يكون رد فعل لإجراءات معادية- دون فهم. وهذا يعني تلازم النشاط العملي والحصيلة النظرية وتبادل التأثر والتأثير بينهما للوصول إلى تصورات واضحة فى الكفاح بعيدا عن أحادية الفهم المدرسي للتثقيف وللعمل السياسي.

كذلك لم تتنبه تلك القيادات اليسارية لأن الكفاح فى أوساط الفلاحين هو بالأساس كفاح فى الشرائح السفلى للطبقة المتوسطة الفلاحية. وأن الاحتجاجات الفلاحية هى فى الحقيقة احتجاج على علاقات التوزيع (توزيع الثروة وعائد العملية الإنتاجية) وليست احتجاجا على علاقات الإنتاج السائدة فى المجتمع. أى ليست احتجاجا على أسس المجتمع وبنائه، على عكس الاحتجاجات فى صفوف العمال التي هي بالأساس على علاقات الإنتاج وبالتالي على علاقات التوزيع، حيث أن الأولى تفرز الثانية.

ولأن هناك عشرات العوامل التى تتدخل فى تغيير علاقات التوزيع صعودا أو هبوطا -دون أن تمس علاقات الإنتاج- ويمكن لكثير من القوى المعادية للفلاحين أن تلعب دورا فى تعديلها أوتغييرها (أي تصب الماء البارد على أسباب الاحتجاج)، فإن إمكانية التأثير فى موقف الفلاحين ممكنة من خلال التدخل المحسوب لتغيير بعض هذه العوامل من جانب هذه القوى. وبالطبع يتم ذلك دون تغيير علاقات الإنتاج وبالإبقاء على بنيان المجتمع على ما هو عليه.

وهذا يعنى ضرورة التنبُّه للطبيعة الوسطية للفلاحين الذين يمكن تغيير مواقفهم من بعض الإجراءات والقضايا السياسية، بتقديم بعض المزايا والمكاسب المرحلية لشق صفوفهم أو تعديل مواقفهم أو إضعاف تأثيرهم فيها على أقل تقدير.

إن الضعف الذى اعترى ويعتري عديدا من القيادات السياسية والفلاحية العاملة فى الريف يتصل فى كثير من الأحيان بمدى معرفتهم بطبيعة الفلاحين وبمنظومة القيم التى تحكم سلوكهم وبحجم المعارف التى يمتلكونها فى مجال السياسة الزراعية والفلاحين وإدراك ما يدور فى المجتمع بشأنها. كما يتصل أيضا بمعرفتهم بنضالات الفلاحين فى تلك المجتمعات المتخلفة بل وفى المجتمعات المتطورة وبإمكانية الاستفادة -لا النقل- منها.

إن عدم الإلمام بتلك الطبيعة وبالأسس النظرية لها، إضافة إلى الفهم المدرسي للتثقيف الفكري والسياسي وسطحية قراءة الواقع الفلاحي، تقود لاتباع تكتيكات وأدوات خاطئة تكون نتيجتها الكفاحية سلبية ويسفر تكرارها المستمرعن الإحباط واليأس. ومن ثم تتحول القيادات التلقائية الواعدة إلى أشباه مثقفين يتشدقون بالمصطلحات السياسية المحفوظة فى غير مواضعها ودون فهم لمعظمها ويتحولون إلى كائنات كاريكاتورية مثيرة للشفقة وينسحبون تدريجيا أو فجأة من الكفاح ليصبحوا مجرد خطباء فى الاحتفاليات السياسية المظهرية. وعادة ما تتغير خصالهم الشخصية وربما تتحول مصالحهم بمضي الزمن إلى اتجاه آخر ليصبحوا عبئا على النضال لا دافعا له.

وتلك هي الأسباب التي تصيب بالدهشة أي مراقب أمين فور التقائه بالعديد من مثقفي اليسار العاملين فى الريف، أو بالقيادات الفلاحية الملتفة حولها والمتأثرة بها. عندما يلحظ أنه أمام نسخ مكررة أو شديدة التشابه ببعضها تلوك نفس العبارات، ليس عن توحد في التشخيص وتقارب فى التقديرات، بل عن تلقين مدرسي محفوظ الملامح والقسمات. كما يشعر المراقب أنه إزاء أفكار سابقة التجهيز قلما توجد بينها فكرة عميقة.

وهذا ما يفسر مسحة الاستبداد التى عادة ما تلوح بين ثنايا العلاقة التي تربط تلك القيادات بجمهورها السياسي من الفلاحين الأقل دراية وخبرة، وتبرزه الميول المظهرية والاستعراضية لبعضها.

ولأن طريق الكفاح مليء بالتعرجات والمنحنيات الوعرة، ومن المنطقي أن يشهد كثيرا من الأحداث المثيرة (المبهرة والمؤسفة)، فإنه يشهد أيضا تساقط بعض من شاركوا فى شق هذا الطريق وتعبيده، سواء فى صفوف العمال أو الفلاحين لكن معدله بين الفلاحين أعلى وأكثر إثارة وهذا ما يتطلب تعويضه بمكافحين جدد بشكل دائم.

ولأن القوى المعادية لا تترك فرصة مواتية لها إلا وتغتنمها لإضعاف معسكر الفلاحين فإنها تتمكن فى أحوال معينة من جذب بعضها واستخدامها -على سبيل المثال- فى استئجار الأراضي التي طرد منها فلاحون آخرون أو فى حراستها حتى لا يستعيدها من طردوا منها أو فى إطلاق الشائعات أو إشاعة جو اليأس والإحباط فى صفوف الفلاحين. بل لا نبالغ لو قلنا إن عددا من القيادات الفلاحية ذات التاريخ المضيء قد أسهمت فى ذلك الأمر بشرائها للأرض (التى استأجروها من الإصلاح الزراعي) من ورثة الإقطاعيين.

إن الإنهاك الذي كابده كثير من القيادات الفلاحية، من صعوبة الكفاح أو من الخوف من مخاطره يمثل أحد أسباب انسحابهم أو انكسارهم، وعادة ما يقف ضعف أو توقف التطور الفكري والسياسي وراء تلك الحالات.

لكن هناك حالات أخرى تنسحب من هذا الطريق بكامل إرادتها بسبب تغير مصالحها سواء لارتفاع دخلها وانتقالها لمستوى اجتماعي أعلى، أو لإغراءات من الخصوم والأعداء تشدها بعيدا عن طريق الكفاح.

ضعف المقاومة:

أما فيما يتعلق بحمية الفلاحين أو فتورهم فى مقاومتهم لطردهم من أراضيهم التى تملكوها أو استأجروها من هيئة الإصلاح الزراعي فإن الموقف يختلف إلى حد ما. فالطريقة التي حصلوا بها على تلك الأرض تحدد مستوى مقاومتهم لمن يعملون على طردهم منها. فالفلاحون الفرنسيون، الذين شاركوا فى ثورة الحرية والإخاء والمساواة ودفعوا دماءهم ثمنا لها وقضوا على النظام الإقطاعي دفعة واحدة ولم يُبقوا له أثرا وانتزعوا الأرض التي سخرهم الإقطاع فيها قرونا طويلة، هؤلاء الفلاحون تمتعوا بثمار ثورتهم ونعموا بالحرية والمساواة والاستقرار منذ انتصارهم وحتى اليوم لأنهم وضعوا أهم شعارات الثورة (الأرض لمن يزرعها) موضع التطبيق الكامل منذ أول يوم لها.

لكن الأمر اختلف فى مصر حيث أن مبدأ (القضاء على الإقطاع) لم يتم تطبيقه بشكل كامل. ولأن الثورة التي رفعت ذلك المبدأ لم ينفذها الشعب ولم يشارك فيها الفلاحون بل كان موقعهم منها موقع المشاهد، ولأن تلك الثورة قام بها أحد أجهزة الدولة القديمة (الجيش)، ولأنها لم تقم إلا بمصادرة جزء من أحد مصادر ثروة الإقطاعيين، التي تتجاوز ستة مصادر، وأبقت على جانب كبير من مصادر قوة الإقطاع دون مساس فإنها لم تستمر أكثر من عشرين عاما وتم الانقلاب عليها لأنها كانت بلا حراس، وأفضل حراس الثورة هم من صنعوها أو شاركوا فى صنعها. لذلك فإن كثيرا من الفلاحين الذين دقت الثورة أبوابهم ليحصلوا على الأرض التى صادرتها من الإقطاع لم تكن لديهم الحمية الكافية للدفاع عنها عند طردهم منها لأنهم حصلوا عليها دون مكابدة وبلا معاناة. بل إن بعض الفلاحين يشعر أنها ليست حقه لأنها انتزعت من ملاكها الذين وهبهم الله إياها، ولا فائدة فى مخالفة إرادة الخالق ومشيئته. ومن هنا يستميت النظام الحاكم فى ممارسة العنف ضد الفلاحين الذين لم يعانوا فى الحصول عليها.

إن اليسار بكل تلاوينه لم يلعب الدور المنوط به وسط الفلاحين قبيل أو إبان ثورة يوليو 52 رغم محاولاته المخلصة، كما أنه لم يفعل ذلك بعد الثورة. علاوة على أن الخطاب الذى استخدمه فيما بعد كان إما موجها للنخب والمثقفين ولم يسمعه الفلاحون أو كان يغازل النظام الحاكم من خلال حزب اليسار الشرعى (التجمع).

وقد نقل خطاب مغازلة النظام كثيرا من الأمراض المتوطنة للكفاح الفلاحي بواسطة اتحاد الفلاحين، وأدى بكثير من المكافحين للاعتكاف وملازمة المنازل، ودفع بعضهم للندم على ما بددوه من أعمارهم، وأفضى بآخرين للعب على الحبال بين معسكر الفلاحين ومعسكر الأعداء ولم يتبقى سوى عواجيز الفرح وضيوف الفضائيات.

لذلك وقع الفلاحون المصريون -الذين لم يشاركوا فى الثورة وفى انتزاع الأرض من الإقطاع- بين شقي الرحى، فطحنهم جبروت النظام الحاكم وأزلامه من ناحية وخذلتهم طراوة اليسار ورخاوته من الناحية الأخرى.