النقابة المستقلة.. كيف بنيناها؟
أول مرة أشترك فيها في نقاش حول النقابات المستقلة، وحول فكرة التعددية، كان في أحد مؤتمرات حزب التجمع، أيام كان حزب التجمع تجمع بجد، حيث طرح الفكرة أحد الآباء النقابيين، عم عطية الصيرفي، كان هذا منذ 25 عاما تقريبا، لم أقتنع بالفكرة، حيث كنت وقتها متأثرا بفكرة وحدانية التنظيم النقابي، وهي فكرة مرتبطة بالأفكار الاشتراكية عامة، والفكر الناصري خاصة.
بين الوحدة والتعددية
كنت أؤمن مع غيري من الناصريين من قبل، بفكرة وحدانية التنظيم السياسي، والتي تراجعتُ عنها – مع غيري – بعد أن أصبحت تصب في صالح قوى الردة على الثورة، ورفض التعددية وقتها كان يعني انفراد الحلف الطبقي الحاكم، والذي كان يمثل الرأسمالية الطفيلية الوليدة والإقطاع البائد، بما يعني رفض وجود أحزاب مقاومة لهذا الحلف الرجعي الحاكم.
عشنا في النصف الأول من السبعينات، أنا وغيري، نحلم حلما مستحيل التحقيق، ألا وهو تثوير الاتحاد الاشتراكي من الداخل، ووقف تقدم اليمين فيه، في الوقت الذي كان اليمين يزحف للسيطرة على مواقع السلطة والثروة في مصر، بمساندة نظام أنور السادات، الذي وضع اللبنة الأولى في جدار الفساد، حيث صدر قانون 43 لسنة 1974، قانون استثمار رأس المال العربي والأجنبي، ليبدأ الانفتاح الاقتصادي الذي أوصل مصر إلى ما وصلت إليه الآن من فساد واستبداد ونهب منظم.
النقاش الذي بدأ منذ ربع قرن لم يتوقف. استمر عم عطية الصيرفي في دعوته لمؤتمر عمال مصر، من أجل تنظيم نقابي مستقل عن الدولة، التي لم تخيب ظن عم عطية، واستمرت في موجة الانسحاب عن دورها التاريخي في بعض الأنشطة الاقتصادية لصالح قوى الشعب العامل، وكذلك الانسحاب من بعض الأدوار المنتجة التي باشرتها الدولة، وتركت قوى الشعب العامل نهبا لقوى السوق، فلم يعُد كيلو الحلاوة بـ4 قروش، ولا كيلو اللحمة بـ38 قرشاً، ولم تعد تذكرة الأتوبيس بـ5 مليم، وانطلقت دعوى “دعه يعمل، دعه يمر” كسكين في الجبن. بينما القوى المنتجة – قوى الشعب العامل- تتراجع ويتراجع نفوذها عن التأثير في مواقع إصدار القرار، والتمثيل في التنظيمات السياسية، ومجالس الشركات، وفي ظل ذلك آمنت بفكرة عم عطية الصيرفي، وانتقل الحوار حول فكرته من دوائر حزب التجمع إلى دائرة اللجنة القومية للدفاع عن حقوق العمال، بقيادة المناضل أحمد شرف الدين المحامي رحمه الله، وتأصلت الفكرة.
فساد النقابات الحكومية
هكذا تحولت من موقع الدفاع عن وحدانية التنظيم النقابي إلى موقع الدفاع عن حرية التنظيم النقابي. وساعدني على هذا الهشاشة التي لمستها بنفسي من خلال عملي النقابي في التنظيم الرسمي الذي تخلى تماما عن دوره في الدفاع عن أعضائه وتبني قضاياهم، وانصرف لكتابة برقيات الشكر والتهنئة للمسئولين ولأصحاب العمل وأغفل تماماً العمال، وأصبح تنظيما يعج بأشباه الرجال، وأشباه النساء، وأوحشهم قادة التنظيم من الخصيان، الذين لم يختلفوا كثيرا عن أي إدارة من إدارات الدولة، بل علي العكس فقد التقيت في التنظيم الإداري بإناث، أشرف آلاف المرات من قيادات في التنظيم النقابي. أصبح التنظيم النقابي مؤسسة فساد كبرى، تكرس للفساد وتدافع عنه وتروج له، وسمعت في الجمعيات العمومية المتعاقبة التي حضرتها كلاما لتبرير الخصخصة أكثر مما سمعته من رجال الأعمال، والمستفيدين من الخصخصة، بيعت مقدرات الشعب المصري بـ”بلاش”، تحت عين التنظيم النقابي الرسمي، وخرج العمال من المصانع لينضموا لطوابير البطالة أو ليبيعوا أمشاط وفلايات في الشوارع والأتوبيسات. نجح النظام، وبتشجيع من التنظيم النقابي الرسمي، في تحويل قوى العمل والإنتاج إلى مشردين، أو في أفضل الأحوال باعة لسلع تافهة، وأذكر عندما كنا عام 1997، نضع برنامج حزب الكرامة، تمسكت مع المناضل النقابي فايز الكارتة بأن نضع بندا في برنامج الحزب، ينص علي حرية تكوين النقابات العمالية والمهنية، ونجحنا في فرض هذا النص، وأعترف أن كثيرين من الأخوة لم يكونوا مدركين بعد مدى أهمية هذه الخطوة.
محاولات داخل النقابة الرسمية
لم يكن ممكنا أن يكون هذا السطر المكتوب في برنامج الكرامة ممكن التحقيق بمجرد كتابته، فقد قضيت مع زملائي في العمل النقابي الرسمي 20 عاما، أحصل قاعديا علي الأصوات، وأرأس لجنتي النقابية، وأحاول مع زملائي، من خلال عملي النقابي في التنظيم النقابي الرسمي، أن نحقق أية مطالب من مطالب زملائي في الضرائب العقارية دون جدوى، وأذكر أنني مع الزملاء في مارس 1999 حاولنا من خلال النقابة العامة أن نضغط من أجل الاستفادة والحصول على حافز الإثابة 25%، الممنوح بقرار من رئيس الوزراء، وزيادة بند الجهود غير العادية من 30% إلى 50%، وأخذ رئيس النقابة العامة الطلبات وكتب خطابا للمسئولين، فردوا على الخطاب بعدم أحقيتنا في الحصول على حافز الإثابة، فما كان من رئيس النقابة العامة إلا أن كتب على غلاف مجلة النقابي العربي التي تصدر من أموال اشتراكاتنا عنوانا يقول “عدم أحقية العاملين في الضرائب العقارية في الحصول على حافز الإثابة”، ولم يكلف نفسه أي عناء آخر، وقد أطلقت على هذه الطريقة عبارة “نظام خالتي عندكم”، مجرد إرسال خطاب للمسئول دون بذل أي جهد كان ينتهي المراد من رب العباد، ويجلس القائد النقابي ذليلا سكنيا، لا يملك شيئا. وقتها تجمع زملائي من قادة اللجان النقابية وقررنا الاجتماع في نقابتنا العامة، فقام فاروق شحاته، رئيس النقابة العامة بإبلاغ الأمن، وطردنا من نقابتنا العامة، واستمر نضالنا، واستمر “نظام خالتي عندكم”، إلى أن تجمعنا يوما واعتصمنا أمام مجلس الشعب ليلتقي وفد منا برئيس المجلس، ثم ذهبنا إلى محيي الدين الغريب، وزير المالية وقتها، ليستجيب لمطالب زيادة الجهود غير العادية الـ50%، وذهبنا إلى وزير التنمية الإدارية زكي أبو عامر، ليوافق على منحنا الــ25% حافز الإثابة.
الحياة تدب من جديد
بهذا النصر ثبت فشل التنظيم النقابي الرسمي في الدفاع عنا، بل ثبت خيانته لنا ودفاعه عن صاحب العمل، كما ثبت للعاملين أن الحقوق تُنتزع، واسترحنا واستراح العاملين لهذا النصر، ونمنا عليه 10 سنوات كاملة. ولم تنقطع علاقتنا بـنظام “”خالتي عندكم”، وظللنا طيلة الـ10 سنوات تلك نحاول من خلال هذا النظام الحصول علي أي شيء دون جدوى. ثم جاءت التحركات الجديدة التي أنعشت الحياة في مصر، وجاء إضراب المحلة لينتزع حقوقا لزملاء لنا.
وجاءت موجة الأسعار الأخيرة، لتذكرنا بالنصر القديم الذي حققناه قبل 10 سنوات. بدأنا نتصل ببعضنا البعض ونجتمع في المقاهي والبيوت ومقرات العمل. وصلنا لحد أدنى من التنظيم، فعاجلنا التنظيم النقابي الرسمي بسيل من البيانات والأكاذيب، تحرض العاملين على عدم التعامل مع “مثيري الشغب ومحترفي الفتن” كما وصفونا، فضلا عن بلاغات للأمن، واتصالات بالإدارات لمحاصرتنا ومنعنا من الحركة.
شكلنا النواة الأولى للجنة الإضراب، ولما كان التنظيم النقابي الرسمي لاوجود له إلا في 9 محافظات فقط، فقد بذلنا جهودا مضنية للتوسع في التشكيل النقابي في المحافظات الأخرى، وكان التنظيم النقابي الرسمي يقف حائلا دون إقامة لجنة في المحافظة يرفض تشكيل لجان نقابية تابعة لها، لدرجة أن زميلا لنا وهو الأستاذ أحمد حجازي ظل يحاول، ونحاول معه لدى الاتحاد والنقابة العامة لتشكيل لجنة نقابية في المنوفية، ورتبنا كل الأوراق المطلوبة لإنشاء لجنة نقابية، لكن دون جدوى. إلى أن خرج الرجل للمعاش قبل أن يفلح في تشكيل لجنة تابعة للتنظيم النقابي الرسمي.
كانت القناعة بعدم جدوى الانتماء لهذا التنظيم النقابي راسخة لدى بعضنا، لكن لم يكن ممكنا التحرك لإقامة التنظيم النقابي المستقل ببعض الأعضاء، احتاج الأمر إلى الخوض بكل الناس تجارب مع هذا التنظيم الرسمي قبل أن تنتقل القناعة بعدم جدواه إلى الجميع، وبالفعل وبالاحتكاك بقادة التنظيم النقابي الرسمي وصل كل الزملاء لذات القناعة، ومع ذلك كان لابد من جلاء أكبر للفكرة، اعتصمنا في مقر الاتحاد العام لنقابات عمال مصر ليومين, وبأوامر من حسين مجاور أُغلقت القاعات ودورات المياه، بل وحتى المسجد، وتركونا للنوم على السلالم ورصيف الشارع. رجال التنظيم في النقابي الرسمي وموظفوه ينتشرون بيننا لإجهاض الإضراب، حوارات ومفاوضات تجرى لا مع صاحب العمل أو الحكومة، بل مع حسين مجاور ورجاله، ومعهم رجال الأمن.
الاعتصام طريق الاستقلال
أصبح جليا أن حقنا لن نحصل عليه إلا على جثث رجال المعاشات في الاتحاد العام والنقابة العامة، فانطلقنا على “طريق الاستقلال”، وساعدنا على إدراك تلك الحقيقة أن السيد مجاور طلب منا فض الاعتصام، وإمهاله فرصة أسبوعين لإجبار وزير المالية على الاستجابة لمطالبنا. “وان رفض فسأنزل معكم وهكون أول المعتصمين”، كما قال، وهى عبارة ألقاها علينا سابقا وقالها لغيرنا في محاولة لإجهاض الإضرابات، وعلى الرغم من فشله كل مرة في انتزاع أي من مطالب المضربين، إلا أنه لم يُضبط مرة متلبسا بالإضراب أو الاعتصام.
مر الأسبوعان على كل حال، فاغلق هاتفه، بل ورفض أية مقابلة معنا، فقررنا الاعتصام بشارع حسين حجازي حتى الاستجابة لكل مطالبنا.
على أسفلت الشارع وتحت وطأة البرد، أصبحت فكرة التنظيم النقابي فكرة سائدة لدى كل المعتصمين، وخرجت من مخبئها في عقول بعض القادة، لتصبح فكرة يتبناها بسطاء، يصحون يوميا خلال اعتصامهم على نقابي أصفر يدعوهم لفضه، فهتفوا هتافا خالدا يعلن ميلاد نقابة حرة من رحم إضراب ناجح: “يا فاروق مني منك.. النسوان أجدع منك”، وقتها كانت موظفات الضرائب العقارية يفترشن الشارع دفاعا عن مصالحهن، بينما قادة التنظيم النقابي الذي نشأ أصلا للدفاع عن حقوقهن مشغولون بالمكاسب والمصالح.
وهتفوا “يا مجاور يا فاروق يا شحاتة.. طلقناكم بالتلاتة”، وكانت طلقة بائنة لا رجعة فيها، إذ انتصر الإضراب وانتزعنا حقوقنا، بصمود المضربين على مطالبهم، فانسحب النقابيون الصُفر يجرون أذيال الخزي والعار.
وفي أول اجتماع للجنة العليا للإضراب بعد النصر، طرحوا سؤالا حول مستقبل لجنة الإضراب، هل نلغيها؟ نطورها ربما؟ وهل.. وهل؟، وجاءت الإجابة بتحويل اللجنة العليا للإضراب لقيادة للنقابة العامة للعاملين بالضرائب العقارية، وانطلقت اللجنة العليا في المحافظات تشكل لجان نقابية، واحتضن الموظفون البسطاء رسالة عظيمة كانت تطرح على استحياء في الندوات والاجتماعات.
لأول مرة منذ خمسين عاماً
وعملها الشياطين، أنشأوا نقابتهم المستقلة بقرار منهم، لا بمرسوم من مكتب عفن. الله يا بلادنا.. الله يا شعبنا، كما علمت الدنيا الزراعة والصناعة والعمارة والكتابة، تعلم الدنيا فن الاستقلال، وفن الحرية.
وما فات هو قصة نشأة أول نقابة مستقلة في مصر منذ خمسين عاما، والباقي تفاصيل تبدأ بتجميع 33 ألف تفويض من العاملين لأحدهم ليفوضوه في إنشاء أول نقابة مستقلة للعاملين في الضرائب العقارية، وتتشكل من لجان الإضراب في المحافظات لجان نقابية تجمع العضوية. فبعد توقيعات التفويض، جرى تجميع طلبات العضوية في استمارة تشتمل على بيانات طالب العضوية: الاسم، والسن، ووسيلة الاتصال.. إلخ، ويقوم العضو بانتخاب ممثليه في اللجان النقابية والنقابة العامة من الجمعية العمومية، وتجمع التوقيعات والاستمارات تنفيذا لنص في القانون نرفضه وسنعدله، ألا وهو رقم الإيداع الذي سيتم قبل أن تجد هذه السطور طريقها للقراء.