بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الأرض تشتعل في قرى مصر

لم تعرف مصر الملكية الخاصة للأراضي الزراعية إلا في عهد الخديوي سعيد، فالأرض منذ الفراعنة كانت ملكية عامة للدولة حتى صدور ما يسمى باللائحة السعيدية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، التي أعطت للخديوي الحق في منح بعض الأشخاص حق ملكية بعض الأراضي الزراعية لمن يقدمون خدمات جليلة للباب العالي أو لوالي مصر، وكان هذا الامتياز مقصوراً علي مدة حياة الشخص فقط، ثم سمح بعد ذلك لانتقال الملكية لورثته، وكان بالطبع من يصدر لهم تلك الفرمانات بالملكية أن يكونوا من المقربين للوالي من رجال الحاشية والبطانة، لذلك كان طبيعيا ًان يتركز تملك الأراضي وحتى 1952 في عدد معين من الأشخاص، مما أدى لتركز شديد في ملكية الأراضي الزراعية، لذلك كان من أول إجراءات ثورة يوليو 1952 صدور المرسوم بقانون 178 لسنة 1952 ، بعد شهور قليلة من قيامها . وحدد القانون في مادته الأولى الحد الأقصى لملكية الفرد بمائتي فدان ، ثم تقلصت إلي مائة فدان بقانون الإصلاح الزراعي الثاني الذي صدر في 127 لسنة 1961 .

ونص قانون الإصلاح الزراعي في مادته الثالثة على أن تستولي الحكومة خلال الخمس سنوات التالية لتاريخ العمل به على ملكية ما يجاوز الحد الأقصى للملكية.

كما نصت المادة الرابعة من القانون على توزيع تلك الأراضي على صغار الملاك في حدود خمسة أفدنة لكل فلاح بحد أدني فدانين، وحددت المادة الخامسة الحق في تعويض يعادل عشرة أمثال القيمة الإيجارية على ان تقدر القيمة الإيجارية بسبع أمثال الضريبة العقارية المقررة على الأرض، وقامت الهيئة العامة للإصلاح الزراعي بتوزيع استمارات بحث حالة للفلاحين الراغبين في الانتفاع بالتوزيع، وحددت المادة (11) من ذات القانون طريقة تحديد ثمن الأراضي المستولى عليها والموزعة على الفلاحين على أن يدفع مجموع الثمن على أقساط سنوية متساوية، على مدى ثلاثين عاما.

وهنا نود أن ننبه أنه في حين بدأت علاقة الفلاح بأراضي الإصلاح الزراعي كمنتفع إلا أنه كان هناك نية للتمليك من جانب الدولة بعد سداد أقساط الثمن ، وبصدور دستور 1971 بدأت مرحلة جديدة في موضوع الأرض، حيث نصت المادة (34) على أن الملكية الخاصة مصونة ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون وبحكم قضائي، وعلى ذلك بدأ عدد من بقايا الإقطاعيين وورثتهم في رفع دعاوى عدم دستورية الأمر العسكري رقم 138 لسنة 1961 الذي صدر استنادا للقانون 192 لسنة 1958، وبالفعل استقر قضاء المحكمة الدستورية على عدم دستورية قرارات فرض الحراسة. وفي عام 1973 صدر القانون 69 لسنة 1974 الذي نص في مادته الأولى على انتهاء جميع التدابير المتعلقة بالحراسة وعلى أثر تلك التعديلات التشريعية والدستورية التي واكبت تغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية منذ عام 1971.

بدأ الإصلاح الزراعي في إصدار قرارات إفراج عن الأراضي التي كان تم الاستيلاء عليها وتوزيعها على الفلاحين وإعادتها لملاكها القدامى أو ورثتهم، وتفجر الأمر بإقرار قانون العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية رقم 96 لسنة 1992، والذي بدأ تنفيذه عام 1997 والذي أعطى المالك الحق في إنهاء العلاقة الإيجارية بينه وبين المستأجر وفقا لقاعدة العقد شريعة المتعاقدين، هنا بدأ الجيل الثالث من ورثة الإقطاعيين القدامى محاولة جديدة لوضع يدهم واسترداد حيازة الأرض، في الوقت الذي كانت يد الفلاحين على الأرض جيلاً وراء مستمرة غير مدركين للتحولات التشريعية الخطرة والإجراءات التي تمت في غيبتهم معتقدين أنهم قد تملكوا الأرض بالفعل من الإصلاح الزراعي أو من الدولة على الأصح أو بوضع اليد لمدة طويلة –أكثر من 15 سنة- أكسبتهم حق ملكيتها.

كهذا التطور التشريعي الدرامي والذي يعكس تحولات جذرية في علاقات الملكية ودور الدولة وموقفها المتأرجح بين الملاك وبين الفلاحين، هو الأساس المادي لما نشهده الآن من صدامات في الريف بين الفلاحين وورثة الإقطاع وهو ما يطلق عليه ظاهرة عودة الإقطاع في مناطق كثيرة خاصة في الأماكن التي كانت قبل الثورة مرتعا خصبا للإقطاع وللعائلات المشهورة بسوء معاملة الفلاحين، كعائلة الفقي في كمشيش، وعائلتي الأتربي والبدراوي في بهوت ودكرنس، وهي الأماكن التي بدأ فيها أولى خطوات الإصلاح الزراعي، فقرية بهوت ترتبط تاريخيا بالثورة ضد الإقطاع عام 1951 حيث قام الفلاحون بحرق قصر البدراوي عاشور والاستيلاء على الأرض بالقوة، وشهدت دكرنس أحداث مشابهة.

وما نشهده اليوم من مظاهر تبدو وكأن التاريخ يعود بنا للوراء، سببها الرئيسي هو موقف الدولة غير الحاسم من موضوع الأرض، فلو كان قد تمليك الأرض للفلاحين نهائيا بدلا من اعتبارهم منتفعين، ولو توسعت الدولة في إنشاء المزارع الحكومية الجماعية والتعاونيات الزراعية وتفعيل دور الفلاحين في إدارة الجمعيات الزراعية لما عاد التاريخ للوراء أبداً.

بشكل عام ورغم صدور العديد من قرارات الإفراج النهائي وإعادتها لورثة الملاك القدامى، إلا أن النذر اليسير من تلك القرارات هو الذي تم تنفيذه، حيث مازالت هناك عقبات قانونية ومادية تحول دون الأوضاع إلى ما قبل 1952، فأولاً أحكام قانون الحد الأقصى رقم 50 لسنة 1969 مازالت سارية والذي ينص في مادته الأولى “لا يجوز لأي فرد أن يمتلك من الأراضي الزراعية وما في حكمها أكثر من 50 فدانا، كما لا يجوز أن تزيد عن مائة فدان من تلك الأراضي جملة ما تمتلكه الأسرة”، كما أن القانون يحمي الحيازة التي استمرت لفترة طويلة بغض النظر عن الحق في الملكية من عدمه إذ تنص المادة (44) مرافعات بأنه “لا يجوز الحكم في دعاوى الحيازة على أساس ثبوت الحق أو نفيه”، ومن هنا يأتي حق الفلاحين الثابت في استمرار وضع يدهم على الأرض وزراعتها بغض النظر عن قرارات الإفراج الورقية التي صدرت للملاك الأصليين.

ثانيا، في الحالات التي حاول فيها ورثة الإقطاع تنفذ القرارات أو الأحكام التي حصلوا عليها كانت تكلفتها الأمنية والاجتماعية فادحة، ففي سراندو بمحافظة البحيرة أسفرت محاولة صلاح نوار طرد الفلاحين من الأرض مواجهات دموية أدت لوقوع قتيلة وإصابة العشرات من قوات الأمن والفلاحين وحرق وإتلاف سيارات وآلات زراعية مما أسفر عن العديد من القضايا الجنائية والمدنية ومازال الأمر هناك غير مستقر حتى الآن، وكذلك في دكرنس حين حاول ورثة عائلة الأتربي تنفيذ الأحكام الصادرة لهم حدثت مواجهات عنيفة بين الفلاحين وقوات الأمن ومازال الفلاحون يضعون على الأرض حتى الآن رغم التنفيذ الذي تم على الورق.

وفي بهوت صدر قرار من النائب العام بنزع حيازة 56 فدان لصالح عائلة البدراوي وحتى الآن لم يستطع أحد تنفيذ القرار، ويهدد فلاحو بهوت أصحاب التاريخ السياسي الطويل في مواجهة الإقطاع بالتضحية بشهيد مقابل كل شبر من الأراض.

إن استمرار التوتر الاجتماعي الحاد وتصاعده في الريف المصري يهدد باشتعال غضب الفلاحين، خاصة في الوقت الذي يعاني كافة الفلاحين من ارتفاع إيجار الأراضي ونقص المياه والأسمدة، مما يجعل الأمر ليس مجرد نزاعات على الملكية، بل حالة اجتماعية تهدد الاستقرار الاجتماعي للبلاد.

وأخيرا، فمن المؤكد أن تاريخ مصر بدأ وينتهي بتاريخ ملكية الأرض، ومازال الحلم في أن تكون الأرض لمن يفلحها قائما ومتجددا، فمازالت علاقة الفلاح بالأرض هي علاقة الإنسان بالحياة نفسها، لذلك فالجميع –خاصة اليسار المصري- مدعو بشدة لمساندة حقوق الفلاحين ومساعدتهم في الدفاع عن مصالحهم، وكذلك صياغة الشعارات السياسية والثورية الصحيحة لحل أزمة المسألة الزراعية في مصر، ولهذا حديث آخر.