العصابة الحاكمة وعمال النسيج في مصر
حقق عمال غزل المحلة انتصاراً تاريخياً، ليس فقط ضد إدارتهم الفاسدة والنقابة الخائنة ولكن أيضاً ضد حكومة رجال الأعمال وعصابة نظيف ومحيّ الدين.
ولكن من المهم أن ندرك أن هذا الانتصار العظيم هو بداية الطريق في حرب طويلة، وأن تلك الحفنة الحاكمة لن تتوقف عن محاولاتها لتصفية وتشريد العمال وتدمير ما تبقى من قلاع صناعة النسيج.
تتبنى تلك العصابة سياسة اقتصادية واضحة تعتمد على حل أزمتهم من خلال نهب منظم للغالبية العظمى من المواطنين لصالح مجموعة صغيرة من كبار رجال الأعمال والشركات الأجنبية. وقد نجحوا منذ التسعينات في زيادة نسبة الواقعين تحت خط الفقر من 20% إلى 40%، في حين زادت ثروات كبار رجال الأعمال والأسرة الحاكمة لتتجاوز مليارات الدولارات.
المبادئ الثلاثة
هناك ثلاثة مبادئ أساسية تعتنقها هذه العصابة بشكل ديني. المبدأ الأول هو الخصخصة، أي تحويل كل ما هو ملك الدولة من صناعات وبنوك وخدمات وتأمينات ومرافق عامة إلى ملكية خاصة في أيدي رجال الأعمال وعائلاتهم في شراكة مع الشركات الأمريكية والعالمية العملاقة.
المبدأ الثاني هو التصفية، أي أن كل شركة أو هيئة أو مؤسسة لا يمكن بيعها يجب تصفيتها بالكامل وتحويلها إلى أراضي للبيع وخردة وقطع غيار. لا يهم هنا إن كان ما يتم تصفيته يؤدي خدمة للجماهير أو له أهمية اجتماعية، فسواء كان مصنعاً ينتج سلعاً ضرورية أو جامعة عريقة أو مستشفى تعالج الفقراء كل ذلك لا يهم في عقيدة العصابة، المهم إما البيع المربح أو التصفية.
المبدأ الثالث وهو في واقع الأمر المبدأ الأساسي وهو إفقار وتشريد العمال، فبدون هذا المبدأ الثالث لا يمكن تحقيق أهداف المبدئين السابقين. فهم يريدون التخلص من غالبية عمال القطاع العام وموظفي الحكومة وتقليص حقوق وأجور ومكتسبات ما تبقى منهم حتى يتمكنوا من البيع والتصفية.
مخطط تصفية صناعة النسيج
ما يحدث منذ التسعينات في صناعة النسيج هو جزء لا يتجزأ من مخطط العصابة الحاكمة. فقد قررت منذ ذلك الحين أن الجزء الأكبر من صناعة النسيج خاصة الشركات الكبرى في المحلة وكفر الدوار والإسكندرية وشبرا الخيمة وغيرها غير صالحة للبيع وأن القطاع الوحيد الذي يريدون الإبقاء عليه هو جزء من قطاع الملابس، أما الباقي فبدأوا في التحرك بشكل منظم نحو تصفيته.
كانت الخطوة الأولي هي التوقف التام عن الاستثمار في تحديث الميكنة وأساليب الإنتاج، فالتقديرات تشير إلى أن 72% من ميكنة غزل القطن و87% من ميكنة تحضير القطن و100% من ميكنة غزل الصوف و71% من ميكنة الملابس كلها يزيد عمرها عن 25 عاماً، وهو وضع كارثي في صناعة عالمية يتم فيها تغيير الميكنة والتكنولوجيا الإنتاجية كل 12 شهر في المتوسط. هذا بالإضافة إلى الإهمال الجسيم والمتعمد لعمليات الصيانة الضرورية وترك المجال واسعاً لفساد الإدارات بالتجارة في الميكنة وسرقة موارد الشركات.
كان لهذا التخريب المنظم نتائج كارثية على الصناعة، فالقدرة التنافسية في سوق عالمي شديد الضراوة بدأت في الانهيار السريع فانخفضت نسبة الصادرات المصرية من النسيج في إجمالي الصادرات العالمية خلال عقد التسعينات من %0.5 إلي %0.2 وانخفضت تلك النسبة في السوق الأوروبية من أكثر من 2% إلى أقل من 0.5%، في حين وصلت تلك النسبة من الصادرات التركية إلى أكثر من 8% والصينية إلى أكثر من 10%.
أكاذيب محي الدين
وبالطبع لم تعترف العصابة بجرائمها بل اتهمت العمال بأنهم هم المتسببون في تلك الخسائر الفادحة, وخرج علينا محمود محيي الدين وعصابته ليدعي أن هناك أكثر من 50 ألف من “العمالة الزائدة” في شركات النسيج العامة وأن إنتاجية العمال لا تصلح وغير تنافسية وأن تكلفة الأجور تجعل الصناعة في أزمة دائمة. كل تلك الادعاءات كما نعرف جميعاً محض أكاذيب فإجمالي أجور عمال النسيج تمثل أقل من 15% من تكاليف الإنتاج، وهي نسبة تقل كثيراًً عن المستوى العالمي، ومتوسط أجورهم هي من أدنى أجور عمال النسيج عالمياً ما عدا بعض البلدان الأفريقية (أجور عمال النسيج في تونس خمسة أضعاف الأجور المصرية، أما تركيا فتزيد عن عشرة أضعاف).
ولذا فمحاولات محي الدين وغيره لتقليص العمالة وتخفيض الأجور الحقيقية للعمال لا علاقة لها بتخفيض التكاليف أو تحسين التنافسية، بل هي فقط محاولة تحميل فشلهم وتخريبهم على ظهور العمال وجعلهم يدفعون ثمن جرائم العصابة. وهم يستخدمون في هذه المحاولة سياسة مزدوجة، فمن جانب هناك تقليص وتضييق الأجور والأرباح والحوافز ومن الجانب الآخر هناك الكارثة المسماه بالمعاش المبكر والتي لم ينتج عنها حتى الآن إلا الخراب والدمار لكل عامل يقبل به.
لعبة الكويز
ولعل أكبر محاولات الخداع والكذب والإجرام في نفس الوقت جاءت مع ما يسمى اتفاقية الكويز. فمع اتفاقيات تحرير تجارة النسيج العالمية والتي بدأت في عام 2005 أراد النظام أن ينقذ رجال الأعمال الكبار المشتغلين في قطاع إنتاج الملابس الجاهزة المعتمدين على التصدير من ضراوة التنافس خاصة من الصين والهند، ومن جانب آخر رضخ النظام كما يرضخ دائماً لمطالب الأسياد في واشنطن لتحسين العلاقات التجارية مع الدولة الصهيونية. فالاتفاقية تنص علي إعفاء السلع النسيجية المصرية المصدرة للسوق الأمريكي من الرسوم الجمركية بشرط ألا تقل المكونات الصهيونية فيها عن 11.7% أي أن المنتج المصري سيعفى من الجمارك طالما أصبح غارقاً في دماء الشعب الفلسطيني.
وقد تم تصوير الاتفاقية وكأنها الحل السحري لصناعة النسيج، فحين تم توقيع اتفاقية الكويز مع الصهاينة وأمريكا، ادعت الحكومة أن قطاع النسيج سيجذب استثمارات أجنبية تقدر بأكثر من خمسة مليارات جنيه وستخلق أكثر من ربع مليون فرصة عمل وستزيد الصادرات إلى أمريكا إلى أربعة مليارات دولار خلال عامين. لكن لم يحدث أي من هذا بالطبع، وتبخرت وعودهم وأكاذيبهم تماماً كما تبخرت أكاذيبهم السابقة عن توشكى وغيرها من المشاريع الوهمية.
فمن ديسمبر 2004 أي بعد توقيع الاتفاقية وحتى ديسمبر 2005 زادت صادرات النسيج المصرية من خلال اتفاقية الكويز إلى الولايات المتحدة بنسبة أقل من 9٪ في حين زادت صادرات النسيج بأكثر من 180٪.
وهنا لا بد من الإشارة إلي أن هذه الزيادة كانت مركزة في قطاعات محددة من الملابس وأن باقي منتجات صناعة النسيج شهدت انخفاضاً حاداً في التصدير إلى السوق الأمريكية مقارنة بمثيلتها الصينية التي زادت في نفس المدة بنسبة 156٪. أضف إلى ذلك أنه أصبح هناك احتكار من خلال اتفاقية الكويز لعدد صغير من الشركات الخاصة في بعض المناطق على حساب الصناعة ككل. وحتى الآن فغالبية الاستثمارات الأجنبية في القطاع تأتي في شكل وكلاء متخصصين في التصفية وليس مستثمرين يريدون التوسع في الصناعة والتشغيل.
لم يعد هناك شك أن محمود محي الدين والعصابة الحاكمة في مصر يريدون القضاء على صناعة النسيج المصرية مع الحفاظ على عدد صغير من الشركات الخاصة بالشراكة مع الصهاينة يتاجرون في دم الشعب الفلسطيني وفي عرق عمال مصر.
إن طريق مقاومة هذا المخطط رسمه عمال المحلة وغيرهم بنضالهم عبر الشهور الماضية، لكن علينا الانتباه إلى أن انتصار عمال المحلة ليس إلا خطوة كبرى على الطريق تحتاج إلى خطوات أخرى كثيرة.