العسكر.. والعمال

قام الضباط الأحرار في الثالث والعشرون من يوليو من العام 1952 بانقلابهم العسكري الذي عرف تاريخيًا باسم “ثورة 52”. ترجع نشأة تنظيم الضباط الأحرار لمنتصف الأربعينيات من القرن الماضي؛ حين بدأت تتكون فئة جديدة واسعة من ضباط الجيش المصريين الصغار الرافضين للسيطرة البريطانية على الجيش المصري والمعادين أيضًا للطبقة الحاكمة في ذاك الوقت، وهكذا اجتذب التنظيم العسكري المتمرد المئات من الضباط.
ولكن لطبيعة تكوين هذا التنظيم وانتمائه للطبقة الوسطى العسكرية، فقد كانوا معادين لحركة الجماهير، التي كان تدخُّلها يعني الفوضى وفقدان السيطرة، وكانوا أيضًا يظاهرون العداء للحركة الحزبية القائمة ورافضين لكل الأشكال الحزبية باعتبارها فشلت في تحقيق التحرر الوطني وأن كل الأحزاب القائمة في هذا الوقت كانت قائمة على الانتهازية والتلاعب بالمصالح. وهكذا يتضح لنا أن الضباط الأحرار لم تكن لديهم رؤية محددة سواء سياسيًا أو اجتماعيًا، غير أنهم أظهروا ومنذ البداية عداءً للديمقراطية، فالديمقراطية كانت تعني أن يعود العسكر للثكنات وأن يُسلِّموا السلطة للمدنيين، وهذا ما لم يكن مطروحًا لديهم ولا مقبول. وأول ظهور لديكتاتورية العسكر وفرضهم للسيطرة كان في تعاملهم مع الحركة العمالية التي استبشرت خيرًا بالثورة ومبادئها الستة التي اعتبروها سبيل الخلاص للعمال الذين طالما دفعوا الثمن من اضطهاد واستغلال طيلة عصور كان المتحكم في العمال رؤوس الأموال الأجنبية وكبار ملاك الاراضى الزراعية وأصحاب المصانع.
تجلى هذا العداء في تعاملهم مع إضراب عمال غزل “كفر الدوار” فقد أيَّدَ عمال كفر الدوار الثورة وخرجوا في مظاهراتِ تأييدٍ لها ولمبادئها وطافت المظاهرات شوارع مدينة كفر الدوار وداخل مصنع الغزل في نفس الوقت الذي كان العمال يهتفون بسقوط مدير عام الشركة والسكرتير العام للشركة حسين فهمي ـالتركي الجنسيةـ واللذين كانا من أنصار الملك السابق، وقد استغل أعوان الملك السابق المظاهرات العمالية المطالبة بزيادة أجورهم وإجراء انتخابات نقابية حرة فاندسوا من خارج الشركة بين صفوف العمال وأشعلوا النيران في مكتب الأمن وبعض مكاتب الإدارة في الوقت الذي قام العمال أنفسهم بالحفاظ على المصانع وإطفاء النيران وقد أسفرت تلك المظاهرات والاضطرابات عن مصرع الجندي سيد الجمل وإصابة 50 من رجال الشرطة والعمال. وهكذا أُلقِيَ القبض على مئات العمال وتشكَّلت المحاكمة العسكرية برئاسة عبدالمنعم أمين، أحد الضباط الأحرار ومن كوادر الإخوان المسلمين. وأمام آلاف العمال وفي فناء المصنع نصبت المحاكمة العسكرية واتهم مئات العمال بالقيام بأعمال التخريب والشغب، فيما كان من ضمن المتهمين طفلٌ عمره 11 عامًا! ونُطِقَ بحكم الإعدام على العامل «محمد مصطفى خميس» ابن التسعة عشر ربيعًا ونُطِقَ بذات الحكم على العامل «محمد عبد الرحمن البقري» ذي السبعة عشر سنة.
هكذا حقَّقَ العسكر عدة أهداف من خلال تعاملهم مع الإضراب. وصلت رسالة العسكر للحركة العمالية بأنه لن يسمحوا وسيضربوا بشدة وعنف كلَّ من يزعزع استقرارهم أو يُقوِّضه، وفي الوقت نفسه وصلت رسالتهم الثانية لرؤوس الأموال المحلية والعالمية بأن النظام الجديد لن يقوي شوكة العمال على حساب رأس المال، وبدا وكأنه ينفي عن نفسه شبه الانتماء لليسار. ثم واصل الحكام الجدد سد السبل أمام العمال بالسيطرة على النقابات، فقاموا بتصفية كل النقابات المستقلة وأحلوا نقاباتٍ تابعة للنظام الجديد محلَّها.