بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عمال وفلاحين

بعد قانون تجريم احتجاجات العمال

الثورة والعمال والعدالة الاجتماعية.. هل من خارطة طريق؟

نصف ثورة يساوي هلاك أمة

(1)
يفترض الخطاب السائد أن المجتمع وحدة واحدة.. تركيبة متجانسة بحيث يصبح لها معنى واحد ومفهوم واحد عندما يتم استدعاء كلمة “المجتمع”. مثلا – حين يتحدث الإعلام عن المجتمع المصري – فإنه يفترض أن هذا المجتمع المصري يتكون من وحدة واحدة، وعندما نستمع إلي كلمة “مصر” فإنه من المفترض أن تعني شيئا واحدا محددا باعتبار أن مصر تتكون من نسيج واحد.

تتجاهل هذه الفكرة شيئا أساسيا في تكوين كل المجتمعات البشرية، فكل المجتمعات تتكون مجموعات متضاربة المصالح داخل المجتمع الواحد.. هذه المصالح تتعلق عند بعض الأطراف بالبقاء في وضع السيطرة، أو ربما حتي تعني عن أطراف أخري البقاء على قيد الحياة.

علي سبيل المثال، ففي العصور الإقطاعية، كان المجتمع يتكون من طرفين أساسيين. الطرف الأول هو الإقطاعيون وملاك الأراضي. هذا الطرف لديه مصلحة في الحفاظ على ملكيته المطلقة للأراضي قدر الأمكان، والإبقاء علي أيد عاملة رخيصة، لا تتكلف شيئا – سوي ربما بعض فتات الطعام – للعمل في هذه الأراضي. كما أن لدى هذا الطرف مصلحة مهمة في السيطرة على مقاليد الحكم كي لا تنتج التغيرات السياسية أي جديد قد يؤثر على مصالحهم هذه. هذا هو الطرف الأول.. لكن في نفس المجتمع هناك طرف أخرى لديه مصالح تتناقض كلية مع مصلحة الطرف الأول.. هذا الطرف هو طرف الفلاحين. هذا الطرف الآخر يهمه الحصول على ملكية هذه الأراضي التي يتحكم فيها الإقطاعيون، وانتزاع حرية التصرف فيها. يهمهم أيضا ألا يصبحوا عبيدا يتاجر الأسياد في قوة عملهم بلا مقابل. يهمهم وراء كل هذا أن يمتلكوا مقاليد الحكم ليضمنهم هم الآخرين ألا تخرج السياسة بما يعطل مصالحهم.

هذا التضارب في المصالح داخل مكونات المجتمع الواحد تجعل من الحديث عن مجتمع ما كأنه يعني شيئا واحدا وبنية متجانسة أمرا مغلوطا، وبالتالي يصبح أي رؤية أو تحليل مبني علي هذا المفهوم الخاطئ قاصرا إلي حد ما.

هذا التضارب في المصالح الأساسية يجعل مكونات المجتمع هذه تتجاوز كل عوامل الوحدة الأخرى التي يمكن أن توحدها.. فحتي عوامل كوجود لغة واحدة أو دين واحد أو هوية إثنية أو عرقية واحدة أو وحدة جغرافية ثابتة لا تجعل من الممكن لهذه العناصر المكونة للمجتمع القدرة على تجاوز الإختلاف الأساسي بينها وهو التضارب في المصالح المبدئية.

(2)
إذا اتفقنا علي تضارب المصالح هذا داخل المجتمع الواحد، فإن هذا يمثل نقطة جيدة للبدء في تحليل الأوضاع الحالية ومحاولة فهمها.

مصر مجتمع – كأي مجتمع – يتكون هو الآخر من هذا العناصر المتضاربة المصالح. بدأ الوضع الحالي لأطراف المجتمع المصري في التكون بشكل واضح بعد أن أعلن السادات عن بداية عصر الإنفتاح، والبدء في تبني نظام اقتصاد السوق المفتوح، وتشجيع الإستثمارات والبدء في خصخصة القطاعات المملوكة للدولة.. هذا التوجه الجديد للاقتصاد المصري أحدث بعض التغيرات في المجتمع المصري، فبدأت طبقة رجال الأعمال في التكون مرتبطة بنظام الحكم منذ أيام السادات وتفاقم الوضع عشرات المرات في نظام مبارك.. فمع بداية التسعينيات، بدأت الدولة المصرية في الإستسلام المبالغ فيه لقروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وتبني مصر للسياسات المفروضة من هذه الهيئات والتي تمثلت في بدء تخلي الدولة المصرية عن أدوارها في العملية الإقتصادية، وبدأ خطة لخصخصة كل قطاعات وممتلكات الدولة، وفتح الباب علي مصراعيه أمام الإستثمارات، وتخفيض القيود والضرائب علي رجال الأعمال، وتخفيف شروط وقيود الإستثمار، والاستجابة لضغوط رجال الأعمال في شل دور النقابات وعدم وضع شروط مناسبة بالنسبة لظروف العمل، وشل أي تحركات عمالية ممكنة. مع استمرار الدولة المصرية في تنفيذ هذه الخطط، تبلورت أكثر وأكثر طبقة رجال الأعمال، وأصبح رجال الحكم في مصر عبارة عن رجال أعمال، أو تحت تأثير رجال الأعمال بصورة من الصور.

كان هذا هو الطرف الأول الذي تبلور في المجتمع.. لكن هذه التطورات لم تكن سببا في ظهور وتضخم طبقة رجال الأعمال فقط.. فعلي المقابل، ابتدأ ظهور وتبلور الطرف الآخر في المجتمع وهو طبقة العمال (العمال أعني بها كل من يعمل بأجر ويحصل على مقابل نظير بيعة لقوة عمله). بعد تخلي الدولة عن دورها، واستمرار عمليات الخصخصة، وجد العامل المصري نفسه أمام الماكينة الرأسمالية التي لا ترحم وجها لوجه.. لم تعد الدولة توفر له أي وظيفة أو حد أدني يعينه علي شئون الحياة، وبدأ معظم العمال المصرية في التعامل مع شروط العمل المجحفة والمرتبات الهزيلة لأصحاب الأعمال. هذه الضغوط التي لا تطاق بدأت هي الأخري في بلورة طبقة عاملة مصرية حقيقية، تنظم نفسها – ببطء لكن بكل مثابرة – للحصول على حياة أفضل.. في العشر سنوات الفائتة قامت الطبقة العاملة المصرية بإدارة صراع داخل المجتمع لإنتزاع مرتبات أعلى وظروف أفضل للعمل من طبقة رجال الأعمال ومن نظام مبارك، وربما كانت أبرز النماذج علي الإطلاق هو إضراب المحلة الشهير واعتصام موظفو الضرائب العقارية الذين كونوا أول نقابة مستقلة في تاريخ مصر الحديث.

طبعا تفاوتت هذه التحركات العمالية من حيث قوتها وتأثيرها وتطورها بين القطاعات المختلفة، لكن السمة العامة لها كانت وجود تطور مستمر – ولو طفيف – في تحركات الطبقة العاملة المصرية كطرف آخر في المجتمع.

(3)
الآن قامت الثورة!
كان دور العمال – أثناء الثورة – مهما وحاسما فيها.. بدأت التحركات العمالية مع بداية الثورة المصرية حين أعلن عمال السويس عن بدأ إضراب شامل حتى رحيل مبارك.. وبدأت موجة الإضراب بعدها في الإنتشار لقطاعات أخرى لتصل إلى قطاعات حيوية ومؤثرة كإضراب عمال النقل العام وإضراب عمال شركات قناة السويس في الأيام الأخيرة للثورة. كان بدأ انتشار هذه الموجة كفيلا بإيصال رسالة مفادها بأن الثورة لن تنحصر في ميدان التحرير فقط، وأن الثوار ما زالوا يملكون الكثير، وما زال باستطاعتهم خلق معارك أخري، وتوسيع دائرة الصراع. كانت هذه الرسالة التي أرسلتها الثورة المصرية من القوة والوضوح ليرحل بعدها مبارك.
استمرت الثورة المصرية بعدها في اتجاهين. الإتجاه الأول هو اتجاه تغيير الدستور ووضع أسس نظام “ديمقراطي” جديد. الإتجاه الثاني حملته الطبقة العاملة المصرية عن طريق سلسلة من الإضرابات والإعتصامات التي انتشرت انتشارا واسعا في الشهور التي تلت الثورة من أجل تحقيق عدالة اجتماعية والتخلص من رموز النظام الفائت في كافة القطاعات.

لكن ما جاء صادما ومخيفا هو القانون الذي أصدره ما كنا نظن أنها حكومة الثورة – وبتصديق من المجلس العسكري – بتجريم الاضرابات والإعتصامات والاحتجاجات العمالية. الحجة التي تم استخدامها كانت الحفاظ على مصر..

الآن نعود للنقطة الأولى.. فالحديث عن “مصلحة” مصر محض وهم، لأن مصر مكونات وأطراف مختلفة. بها رجال أعمال وبها عمال وكلا الطرفين له مصالح متضاربة! رفضت حكومة عصام شرف ومن وراءها المجلس العسكري التوجه إلي رجال الأعمال – الذين يمثلون أقلية ضئيلة للغاية، ويحملون القدر الأعظم من الثروة في مصر – ليطالبوهم في البدء في إعادة حقوق جميع العمال، والبدء في تحديد علاقة أكثر تكافئا بين أصحاب الأعمال وبين العمال. رفضت الحكومة أن تنتزع حقوق الأغلبية الفقيرة ممن نهبها طوال ثلاثين عاما من حكم مبارك.

جاء قانون تجريم الإعتصامات والإضرابات – جنبا إلى جنبا مع رفض الحكومة إلغاء مشروع فرض ضريبة الأرباح على رجال الأعمال وبداية توجهها للحصول على قروض مجحفة أخري من صندوق النقد الدولي – ليوضح إلى أي أطراف المجتمع قرر المجلس العسكري وحكومة عصام شرف أن ينحازوا..

(4)
الآن هو وقت استكمال الثورة.. واستكمال الثورة وتحقيق نجاحها يعني تحقيق العاملين الأساسيين لها وهما وضع أسس الديمقراطية وتحقيق العدالة الإجتماعية، وكلا العاملين الأساسيين لنجاح الثورة ستسهم الإحتجاجات والإضرابات العمالية في تحقيقه. هذه الإضرابات العمالية – إذا انتشرت وتم دعمها بالشكل اللائق بثورة – ستصبح الطريق الأهم لتحقيق العدالة الإجتماعية عن طريق استعادة ما تم خصخصته عن طريق الفساد – كما فعل عمال شبين الكوم – وفي فرض حد أدنى للأجور، وفي انتزاع قوانين أفضل لعلاقات العمل وشروطه. بالإضافة إلي هذا، فإن هذه الانتفاضات العمالية تشكل الوسيلة الأساسية للبدء في تشكيل النقابات القوية المستقلة والتي تشكل – جنبا إلي جنب مع الأحزاب – مكونات أي نظام سياسي قوي. كما أن هذه التحركات العمالية تساهم في تخليص كافة قطاعات الدولة من رموز الفساد التي ما زالت تحكمها من عهد مبارك.

لم يفت طريق الثورة بعد، لكن علي الثوار الآن أن ينتبهوا.. فمخططات “طرف” رجال الأعمال لجعل الثورة المصرية مقصورة على التغييرات الديمقراطية وعدم امتدادها لتحقيق عدالة اجتماعية لا تتوقف.. هذه هي مصلحتهم.. لكن مصلحة الثورة هي في تحقيق العدالة الإجتماعية والوقوف بجانب ملايين المصريين من الفقراء والمقهورين الذين اندفعوا في شوارع مصر مع بدء الثورة بعد أن فاضت بهم الحياة.. كل همومهم في الحياة أن يحصلوا علي طعام أو شراب أو مسكن يليق بهم كبشر، وأن يحصل أبناؤهم على الرعاية الصحية والتعليمية التي يستحقونها.. وكما كان علي المجلس العسكري وحكومته أن يحددوا إلى أي طرف من أطراف المجتمع سينحازون، فإن على الثوار أيضا يحددوا انحيازاتهم، واضعين جيدا في الإعتبار أن الرهان على طرف الناس – طرف الملايين من الفقراء والمحرومين هو رهان رابح على الدوام.