الترسانة البحرية ووهم المعاش المبكر
شركة الترسانة البحرية بالإسكندرية، اسم ربما يبدو معروفا للمهتمين بالتاريخ المصري الحديث، وللمهتمين بالحركة السياسية المصرية في سبعينات القرن العشرين. ففي يوم 18 يناير عندما انتفضت الجماهير بسبب قرارات السادات الخاصة بالدعم، كان أول من تحرك في مدينة الإسكندرية هم عمال الترسانة البحرية، إيمانا منهم أنهم بصناعتهم لقطع الأسطول المصري يحمون مصر من العدو الخارجي، ولكن بأنفسهم سيحمون الشعب من العدو الداخلي والسياسات المضطهدة للفقراء والكادحين.
تلك كانت الصورة في السبعينات، ولكن ماذا حدث بعد أكثر من 32 سنة من نضال عمال الترسانة.
وهم المعاش المبكر
حوالي 3600 عامل من عمال الترسانة البحرية – منذ عام 1996 – قاموا بتسوية معاشهم قبل السن القانونية للإحالة على المعاش، بسبب الوعود أن كل فرد سيحصل على مبلغ سيساعده على الحياة وسيؤمن لهم معيشة كريمة.
تقدم العمال باستقالاتهم، و هم يشعرون أنهم أمنوا لأنفسهم ولأبنائهم حياة كريمة، لكنهم فوجئوا أن الشركة القابضة لم تضمّ العلاوات المقررة، ولم تحتسب المقابل النقدي لبدل طبيعة العمل، منسوبا إلى أجورهم الأساسية بعد زيادة هذه العلاوات المضمومة منذ 1 نوفمبر 1992، وليس هذا فحسب بل لم تعطهم سوى عُشر حقوقهم المادية. وتبقى لهم 20 مليون جنيه لدى الشركة القابضة للنقل البري والبحري التي كانت تتبعها شركة الترسانة البحرية، قبل أن تنتقل لتكون تحت الإدارة المباشرة لوزارة الدفاع، مما يعني أن ينطبق على عمالها وصف العاملين بالمنشآت العسكرية، ويكونوا تابعين من الناحية القانونية إلى المحاكم العسكرية، مما يعني قمع مؤكد لأي شخص يفكر في التحرك في ذلك المصنع، الذي شهد تحركات قوية جدا في السبعينات.
القانون هو الحل:
قرر العمال المحالون على المعاش أن يتجهوا إلى القضاء حتى يأخذوا حقوقهم، وبالفعل صدر لهم حُكم من هيئة التحكيم رقم 3 لسنة 2001 عمال كُلي، من محكمة استئناف الإسكندرية، بأحقيتهم في ضمّ العلاوات المقررة، واحتساب المقابل النقدي لبدل طبيعة العمل، منسوبا إلى أجورهم الأساسية بعد زيادة هذه العلاوات المضمومة منذ 1 نوفمبر 1992، ورفضت محكمة استئناف الإسكندرية كذلك في 1 نوفمبر 2004 دعوى الاستشكال المقدمة من الشركة لوقف تنفيذ الحكم.
ثم نالوا حكم من محكمة النقض – أعلى هيئة قضائية مصرية – بأحقيتهم في نيل بقية مستحقاتهم التي تصل إلى 20 مليون جنيه، لكن اللواء محمد يوسف، رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للنقل البري والبحري تعلل أولا بأنه لا يوجد أموال تكفي لسداد مستحقات العمال، على الرغم من اشتمال العقد بين الشركة القابضة ووزارة الدفاع على بند لمستحقات العمال يصل إلى 26 مليون جنية، ثم بعد صدور حكم محكمة النقض تعلل بعدم وجود كشوف حصر لأسماء المستحقين للمعاش.
70 وقفة، وماذا بعد:
على الرغم من أن العمال انتهجوا الطريق القانوني كأساس لتحركهم، إلا أنهم قاموا بعمل وقفات احتجاجية وصلت إلى 70 وقفة أمام الشركة القابضة للنقل البري والبحري في شارع فؤاد، وديوان عام محافظة الإسكندرية، وأمام شركة الترسانة البحرية نفسها. وتشكلت وفود لمقابلة رئيس مجلس الإدارة اللواء محمد يوسف الذي كان كل مرة يستقبلهم استقبالا سيئا ويستعين بالأمن.
رغم الوقفات الاحتجاجية الـ70 للعمال المحالين على المعاش، إلا أنه هناك أخطاء عديدة قللت من فرص نجاحهم، منها أن عدد من كان يحضر الوقفات لم يكن يتخطى الـ200 فرد رغم أن عدد المتضررين حوالي 3600، ودون وجود خطة لتحركاتهم أو برنامج تصعيدي لضمان نيل مستحقاتهم التي أيدها القضاء، والتزامهم الدائم بأوامر رجال الأمن، التي دائما تطالبهم بإنهاء الوقفات، وأيضا عدم وجود تنسيق بين هؤلاء وزملائهم العاملين داخل الشركة، الذين إذا تضامنوا معهم سيشكلون قوة ضغط كبيرة.
إن ما يحدث لعمال الترسانة البحرية هو عبرة وعظة لكل العمال الذين يفكرون في فكرة المعاش المبكر، فعلى الرغم من أن الحياة صعبة والتكاليف غالية، إلا أن فكرة أخذ حفنة من آلاف لحل المشاكل هي فكرة غير صحيحة، فالأموال تتبخر في أشهر معدودة، هذا إذا تم الحصول عليها من الأساس.
إن ما يحمي العمال هو بقاؤهم في مصانعهم خلف آلاتهم، التي يستطيعون من خلالها أن يحسنوا حياتهم، فهم يستطيعون أن يُضربوا مما سيجعل الدولة تحقق جميع طلباتهم، كما يستطيعون عبر تنظيم أنفسهم في نقابات مستقلة أن يخلقوا حركة أوسع من محيط مصنعهم بانضمام عمال آخرين بالتضامن معهم مما سيعجل بتحقيق مطالبهم.