بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عمال المحلة بين إضرابين

الهتافات والمطالب والمفاوضات والقيادة والتضامن .. كل شيء يقول أن قفزة تمت في وعي عمال المحلة.

المكان شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، الحدث إضراب عن العمل واعتصام بالشركة، الفاعل 24 ألف عامل، الزمان، ما بين 7 ديسمبر 2006 و23 سبتمبر 2007، ورغم قصر الفترة ما بين التاريخين إلا أن اختلافات واضحة تجلت بين الحدثين تخبرنا عن الخطوات التي قفزتها الحركة العمالية في تلك الشهور العشرة.

في البدء كانت العاملات

الطريقة التي بدأ بها الإضرابان تشير إلى تغير واضح، ففي الأول انتهت الوردية المسائية من عملها في صباح السابع من ديسمبر ثم جاءت الوردية الصباحية لتستلم عملها، ورغم أن الإضراب كان مقررا منذ أيام وسبقه امتناع عن “قبض الأجر” والمكافأة المحددة بثلاثة أيام، إلا أن الإضراب لم يبدأ فورا وبدا تواجد العمال ضعيفا في البداية وبدأت عاملات مصنع الملابس الجاهزة بالدخول إلى ميدان طلعت حرب بالشركة وكن أول من أعلن عن بدء الإضراب مرددين هتاف “الرجالة فين.. الستات أهم” لجذب العمال للمشاركة في الإضراب، فتدفق العمال إلى الميدان ليبدأ الإضراب.

هذا التردد من قبل العمال في بدء الإضراب لم يتكرر في سبتمبر 2007، فموعد الإضراب الذي أعلن قبل 23 سبتمبر بعشرة أيام والمطالب المتفق عليها مسبقاً وحدا صفوف العمال، ومع صباح الثالث والعشرين من سبتمبر بدأت الوردية المسائية في الإضراب قبل انتهاء موعد عملها وخرجت إلى ميدان طلعت حرب لتستقبل الوردية الصباحية التي تدفق عمالها إلى الميدان المواجه لمبنى الإدارة وبدأ الإضراب دفعة واحدة. كان لانتصار إضراب ديسمبر الذي لم يمر عليه عشرة أشهر أبلغ الأثر في محو تردد العمال وتوحيد صفوفهم، فكانت الشعارات التي رفعها العمال في الإضراب الأول تدور كلها حول مطلب “الشهرين” وردد العمال هتاف واحد طوال أيام الإضراب ” الشهرين .. الشهرين”، أما إضراب سبتمبر فقد عكست هتافاته مستوى أعلى من الوعي، فقد ردد العمال هتافات لم تخل من الحس السياسي ضد الفساد والسرقة “عايزين حكومة حرة .. العيشة بقت مرة”، ” واحد إتنين .. حسني مبارك فين”، ” ثورة ثورة حتى النصر .. ضد نظام حرامية مصر”، “ولا نقابة ولا غيره.. إحنا حنجيب حقنا من عينه”. بلا شك، عبرت هذه الهتافات عن وعي أكبر لدى عمال غزل المحلة بعلاقة وارتباط قضيتهم بمجمل ما يحدث حولهم.

في ديسمبر لم يأخذ تهديد العمال بالجدية الكافية لا من جانب الحكومة ولا وسائل الإعلام ولا القوى المهتمة بالحركة العمالية، فانقطاع الإضرابات العمالية الكبرى على مدار العشر سنوات الماضية جعل الكثيرين يتخيلون أن الحركة العمالية انتهت إلى الأبد، لذا لم يشهد إضراب ديسمبر حالة التضامن الواسعة التي شهدها إضراب سبتمبر، أما الإضراب الأخير فقد أخذ منذ اللحظة الأولى على محمل الجد، حيث أبدت القوى السياسية المختلفة ووسائل الإعلام تضامنا أكبر وتفاعلا أوسع مع أحداث الإضراب.

نقلة في المطالب

نظرة سريعة على الإضرابين تبين حجم الفرق في الوعي بين إضراب ديسمبر وإضراب سبتمبر، مطالب إضراب ديسمبر كانت مقتصرة في مطلب واحد “الشهرين”، طالب العمال في إضراب ديسمبر بصرف شهرين أرباح حسب قرار رئيس الوزراء الذي حاولت إدارة الشركة إنكاره وتمسك به العمال، قيمة الشهرين بالنسبة للعامل كانت 40 جنيه في المتوسط، وهو مبلغا متواضعا بالمقارنة بإضراب 3 أيام، ولكن النتيجة كانت أكبر بكثير من الشهرين، النتيجة هي إضراب سبتمبر، فبعد الثقة التي نالها العمال في ديسمبر عادوا إلى الإضراب مرة أخرى في سبتمبر وأعلنوا مطالب جديدة كانت الأرباح من ضمنها (130 يوم كحد أدنى)، ولكن لم يتوقف العمال عند طلب مبلغ لتلبية احتياجات عيد الفطر، فقد جاءت قائمة مطالب العمال في سبتمبر كمحاولة جديدة لتغيير وضع العمال، حيث طالب العمال بربط الحافز بالأجر الأساسي ووجبة وقائية عينية أو بدل مساوي لها، وربط بدل طبيعة العمل بالأجر الأساسي وتحسين المواصلات والعلاج، وهذه القائمة من المطالب كانت مؤشرا على التحول الذي جرى في وعي العمال من المطالبة بمكسب آني وفوري إلى المطالبة بتعديلات جوهرية على الأجر المتغير تؤدي إلى تحسين عام في الأجور.

دروس ديسمبر وإضراب سبتمبر

رغم أن إضراب ديسمبر بدأ بعدد ضخم من العمال امتلأ بهم ميدان طلعت حرب حتى الساعات المتأخرة من الليل إلا أن العدد بدأ في التناقص، ففي اليوم التالي للإضراب الجمعة كانت أعداد العمال نهارا ما يقرب من 5 آلاف عامل ثم أخذ العدد في التناقص حتى أصبح عدة عشرات مساءً، ومع ذلك فقد أبدى هذا العدد القليل بسالة منقطعة النظير في مواجهة تهديدات الأمن جعلته يصمد حتى اليوم التالي، حيث عاد العمال إلى الشركة بكثافة مرة أخرى، الأمر الذي استوعبه العمال جيدا في إضراب سبتمبر حيث حرصوا على وجود عدد كبير جدا في الشركة طوال الوقت، فلم يقل العدد في أي لحظة عن 5 آلاف عامل بالرغم من ظروف الصيام، لذا كانت مواجهة العمال للتهديدات الأمنية أكثر تماسكا، وكان أبلغ تعبير عن ذلك المطلب الذي أضافه العمال على مطالبهم في أعقاب القبض على خمسة من قيادات الإضراب والذي تمثل في شعار “الإفراج قبل الإنتاج” وظلوا يرددونه حتى تم بالفعل الإفراج عن زملاءهم، كما عبر عن تماسك العمال أيضاً نجاحهم في إجبار الأمن على فتح بوابات الشركة في اليوم الرابع من الإضراب بعد محاولة إغلاقها، كل هذا الإصرار والتحدي كان ينطلق مع دقات الطبول المدوية التي يطلقها العمال بلا انقطاع للتعبير عن استمرار الإضراب.

درس آخر تعلمه عمال المحلة من إضراب ديسمبر، فالقيادة التي لعبت الدور الأساسي في هذا الإضراب كانت إلى حد بعيد من القيادات التقليدية المحدودة العدد، أما في إضراب سبتمبر فقد لعب عدد واسع من العمال، سواء من الشباب أو القيادات القديمة، أدوارا بارزة وقيادية، ويبدو أن هذا الاتساع كان سببه في المرتبة الأولى الثقة التي اكتسبها العمال من إضراب ديسمبر، وضح ذلك عندما طلب وفدا من العمال للتفاوض فتقدم 30 عامل ليشكلوا وفد يمثل العمال.

كانت المفاوضات درساً جديداً في نضج وعي عمال المحلة، حيث بدا واضحاً وجود العمال بشكل مباشر كطرف في عملية التفاوض مع وفد الحكومة المشكل من حسين مجاور، رئيس الإتحاد العام للنقابات، ومحسن الجيلاني، رئيس الشركة القابضة للغزل والنسيج وآخرين، وكان قرار إنهاء الإضراب بناء على الاتفاق الذي وافق عليه العمال نابعاً من إرادتهم وليس مفروضاً عليهم، يصبح ذلك ذو دلالة بالغة خاصة في ظل غياب أي عضو من اللجنة النقابية الرسمية، وهو ما يعني رضوخ من الدولة ومن التنظيم النقابي لإرادة العمال الذين سحبوا الثقة من هذه اللجنة بعد ديسمبر الماضي.

من ديسمبر 2006 وحتى سبتمبر 2007 لا يبدو وقتاً طويلاً لكنه كان بالغ الأهمية، حيث اكتشفت الحركة العمالية عبر عمال غزل المحلة إمكانياتها وقدراتها في إحراز انتصارات وانتزاع حقوقها المنهوبة وربما في إحداث تغيير كبير في مصر كلها.