بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عمال المحلة.. تاريخ من النضال

لم يكن إضرابي عمال غزل المحلة في السابع من ديسمبر 2006 والثالث والعشرون من سبتمبر 2007 شيئاً عرضياً أو جديداً، بقدر ما شكلا مرحلة جديدة في تاريخ نضال عمال المحلة.

قبل تأسيس شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة عام 1927 كإحدى شركات بنك مصر، طاف المنادون على القرى المجاورة للمدينة يدعونهم للعمل في الشركة قائلين كما حكى فكري الخولي في روايته الرحلة: “بنك مصر عمل مصنع يغزل القطن اللي انتوا بتزرعوه و يعمل منه القماش اللي أنتم بتلبسوه، كنا زمان بنزرع القطن لياخده منا الإنجليز، إحنا النهاردة بنزرع القطن، وهانحوله إلى قماش، إحنا اللي هنزرع القطن و حنغزله و حننسجه عشان يبقي كل شيء من مصر صناعة وطنية، ابعتوا ولادكم يتعلموا صنعة و هاياخدوا أجر كويس”.

توافد الفلاحون من القرى لأجل العمل في الشركة. لكن الصورة الوردية التي حلموا بها سرعان ما تبددت في ظل قسوة ظروف العمل، حيث يقول الخولي في روايته: “إنهم لا يبحثون عن إسعادنا، بل يبحثون عن مزيد من الشقاء، ألم تسمعوا عما حدث هذا الصباح، أغلقوا الأبواب، أغلقوها في وجه العمال لأنهم لم يأتوا قبل الميعاد، و لم يكتفوا بالغلق بل ضربوا العمال بالعصي و الكرابيج إلى أن سالت الدماء من وجوههم”. وبعد عشرة أعوام من إنشاء الشركة التي كانت أهم شركات الغزل والنسيج في مصر على الإطلاق، أشار تقرير حول مساكن العمال إلى أنها: “بعيدة كل البعد عن كونها ملائمة لسكن الإنسان، بل أنها حتى غير ملائمة لإيواء الحيوان…. والأغلبية العظمى من تلك المساكن غير مزودة بمراحيض أو مياه شرب نقية أو حمامات”. ونجم عن سوء التغذية والمساكن غير الصحية انتشار الأمراض بمعدل كبير بين العمال. وفي منتصف الأربعينيات، أشار تقرير حول أوضاع العمال في الشركة إلى أن 90% من العاملات مصابات بمرض السل.

رغم معاناة العمال في السنوات الأولى من العمل بالشركة، فإنهم لم يبدأوا في مقاومة الظلم الذي يتعرضون له قبل عام 1938، وذلك نتيجة عدد من الأسباب. فمن ناحية كان هؤلاء العمال، فلاحين قادمين حديثاً من الريف، ومن ثم ليس لديهم وعي كاف حول العمل الجماعي والنقابي. ومن ناحية أخرى، استخدم أصحاب العمل شعارات “وطنية” لابتزاز العمال ومنعهم من الاعتراض على أوضاعهم البائسة. فكانت أحد الأفكار السائدة التي أثرت في وعي العمال هي أنه طالما أن الشركة مملوكة لمصريين، فلا يجوز القيام بالاحتجاجات – حتى لو كان هؤلاء المصريين يمارسون أسوأ أنواع الاستغلال. وثالثاً، كان هناك الانقسام بين المحلاويين والشرقاويين، وهو الذي فرق بين العمال على أساس إقليمي وساهم في منع وحدتهم لفترة ليست بالقصيرة.

وقع أول إضراب كبير لعمال شركة مصر للغزل والنسيج في يوليو عام 1938. وكان السبب في ذلك تطبيق نظام جديد للعمل يتألف من ثلاث ورديات كل وردية ثماني ساعات بدلاً من ورديتين، كل وردية 11 ساعة. ونظراً لأن العمال كانوا يتقاضون أجورهم على أساس نظام القطعة، كان هذا التغير إيذاناً بنقص أجورهم بدرجة ملموسة. ولذلك قام نحو 1500 عامل بالإضراب مطالبين برفع أجر القطعة حتى لا تنخفض أجورهم في ظل النظام الجديد. وكانت نتيجة الإضراب أن اعتقل الكثير من العمال، وحوكم 55 عاملاً وأدينوا، وأعربت المحكمة عن: “أسفها الشديد لهذا العمل الطائش من جانب عمال النسيج” وأشارت إلى أنهم ابتعدوا عن تأدية واجبهم تجاه شركة ساعدتهم وفتحت لهم باباً يدخلونه، وهم لازالوا جهلاء.. يجب على العمال أن يضحوا بكل مصلحة شخصية من أجل خدمة الوطن”.

وبعد ذلك بسنوات، وتحديداً في سبتمبر 1947، نظم عمال شركة مصر للغزل والنسيج إضراباً ضخماً احتجاجاً على لائحة الجزاءات الجديدة التي أقرتها الشركة. وخلال تلك الفترة، كانت قد تبددت الأوهام حول ضرورة انصياع العمال لأصحاب العمل في الشركات المملوكة للمصريين، كما تضاءلت حدة الانقسام بين الشرقاويين والمحلاويين، لصالح قيم التآزر والعمل الجماعي من أجل تحقيق المصالح المشتركة للعمال. ولذلك فقد قامت مظاهرة عفوية ضد لائحة الجزاءات الجديدة التي تضمنت فرض غرامات جديدة على العمال الذين يرتكبون مخالفات، وعندما وصل مسئولو الأمن بالشركة أطلق أحدهم النار، فرد العمال رداً عنيفاً بإتلاف بعض ممتلكات الشركة، التي قامت بإغلاق أبوابها لعدة أيام. وهنا أعلن العمال عن مطالبهم بحل النقابة لأنها موالية للإدارة، وانتخاب قيادات جديدة للنقابة وإلغاء لائحة الجزاءات ووقف فصل العمال. وكان أن ردت الحكومة باستخدام القمع حيث حاصرت الدبابات المصنع وتم إخراج العمال منه بالقوة. ورغم فشل الإضراب في تحقيق مطلب انتخاب نقابة جديدة مستقلة عن الإدارة، فقد كان نقطة تحول رئيسية في تطور الحركة العمالية لأن الشركة كانت آنذاك أكبر تجمع للرأسمالية الصناعية في مصر.

كانت شركة مصر للغزل والنسيج من أوائل الشركات التي أممها عبد الناصر عام 1960، وأصبحت الشركة في السنوات التالية أهم شركات الغزل في الشرق الأوسط. وخلال العهد الناصري حدث تطور كبير لأحوال العمال، حيث تم زيادة الأجور وتوفير الرعاية الصحية والمواصلات والسماح بعطلات سنوية أطول، وإقرار نظام المعاشات وعقد العمل الأبدي. وفي المقابل جرى تأميم الحركة العمالية عن طريق منع الإضراب وسيطرة الاتحاد الاشتراكي على النقابات العمالية.

تأثرت أحوال العمال مع بدء تطبيق سياسة الانفتاح، وترك الحرية لقوى السوق، حيث أصبح الارتفاع المتزايد للأسعار سبباً في التدهور المستمر في أحوال العمال. الأمر الذي كان سبباً في إضراب 30 ألف عامل من شركة غزل المحلة عام 1975 احتجاجاً على انخفاض الأجور مقارنة بالأسعار. وحوصرت الشركة بقوات الأمن، الأمر الذي دفع العمال إلى الخروج والتظاهر في شوارع المحلة ليلتحم معهم الجماهير، هاتفين “بنبيع البدلة ليه .. كيلو اللحمة بقي بجنيه”. وأسفر الإضراب عن رفع مستوى الأجور من 9 جنيهات يومياً إلى 15 جنيها لكل عمال شركات القطاع العام الصناعي في مصر.

وفي عام 1986 قام العمال بإضراب مطالبين بإضافة “أيام الجمعة” إلي المرتب. وأغلقت الشركة لأسبوع وأصبحت مظاهرات العمال في شوارع المحلة سلوكاً يومياً، إلى أن نجح الأمن في القبض على قيادات العمال. لكن عاملات المحلة رفضن العودة إلى العمل حتى يتم الإفراج عن زملائهن، رافعين شعار “الإفراج قبل الإنتاج”. واضطرت الحكومة إلى التفاوض مع القيادات العمالية داخل السجن، وانتهت المفاوضات بالتوقيع على عريضة تقضي بإضافة جمعتين إلى المرتب طوال عام 1986. ومن ناحية أخرى، لم تقتصر تحركات عمال شركة مصر للغزل والنسيج على القضايا المطلبية. فمن شركة مصر للغزل والنسيج خرجت أول مظاهرة للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.

و في عام 1988، بعد أقل من نصف ساعة من إعلان حسني مبارك عبر شاشات التليفزيون إلغاء “منحة المدارس” التي تمنح للعمال، توقفت جميع الماكينات داخل شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة، واعتصم العمال داخل الشركة لمدة يومين، بعدها خرجوا في مظاهرة ضخمة حملوا فيها نعشا للرئيس مبارك وطافوا به أرجاء المدينة. وأصدر مدير أمن الغربية أوامره بالتصدي بكل قوة إلى المتظاهرين. وبالفعل تم اعتقال عدد من القيادات العمالية، وحال اعتصام العمال بمباني الشركة دون قيام الأمن بعملية تنكيل واسعة.

هذا التاريخ الطويل من النضال والكفاح لعمال المحلة وتأثيره على الحركة العمالية المصرية، تواصل بعد إضراب السابع من ديسمبر 2006 وما نتج عنه من صحوة عمالية كبرى، ثم إضراب 23 سبتمبر الماضي الذي من المتوقع أن تمتد آثاره لبقية المواقع العمالية، كل ذلك يعني أن المحلة كانت ومازالت قاطرة الحركة العمالية.