حوار مع مصطفى بسيوني:
أمام اليسار الكثير ليتعلمه من الحركة العمالية
* ما تقييمك لموجة الإضرابات العمالية التي بدأت منذ شهر ديسمبر وحتى الآن؟
* موجة الاحتجاجات العمالية الأخيرة هي الأكبر منذ بداية تطبيق سياسات التكيف الهيكلى في 1991. وهذا يعنى أن تأثير الازمة التي أحاطت بالحركة العمالية منذ بداية الالتزام بتطبيق تلك السياسات قد بدأ يزول وبدأت الطبقة العاملة في التماسك مرة أخرى لتعود حركتها للصعود.
ولقد تميزت الحركة العمالية التي انطلقت في 7 ديسمبر الماضي بعدة ملامح تميزها عن الموجات السابقة. فقد كانت أهم سماتها هي أنها اتخذت من الإضراب عن العمل أداة أساسية للنضال، في حين كان السائد في السابق هو استخدام أداة الاعتصام داخل المؤسسات أو المنشأت مع الاستمرار في العمل. وتكشف عودة الإضرابات على نطاق واسع عن ميل الحركة العمالية لاستخدام ثقلها الاقتصادى في علاقة العمل، وهو ما يعنى تقدما كبيرا، حيث أنه يعكس زوال الأوهام لدى الطبقة العاملة حول ملكية الدولة وملكية الشعب وعلاقة الإنتاج بالأمن القومى.
أما السمة الاخرى لإحتجاجات الموجة الأخيرة، فقد كانت الطول النسبى لفترات الإضرابات. إذ كانت العادة أن تستغرق الاحتجاجات فترات أقصر، مثلا كإضراب السكة الحديد في 1986 الذي استمر ليوم واحد، وإضراب الحديد والصلب في 1989 الذي استمر لأقل من يوم، وهكذا. أما في الموجة الأخيرة، فإن الإضرابات كانت تمتد لفترات طويلة قد تتجاوز الشهر، وذلك مثلما حدث في احتجاج عمال مصنع مكارم، وهذا بالطبع أدى إلى استحداث آليات تنظيم ذاتى وزيادة إمكانية صعود قيادات طبيعية، وهو الأمر الذي لم تكن يتيحه قصر فترة الإضرابات سابقا.
ومن ناحية أخرى فإن من أهم ما يلفت الانتباه في تلك الموجة العمالية هو انتشارها النوعي والجغرافي. فقد بدأت الحركة في قطاع النسيج وانتقلت الى السكة الحديد والأسمنت وهيئة النقل العام، وانتشرت في عدد من المناطق التقليدية للطبقة العاملة مثل المحلة وكفر الدوار وحلوان. وبذلك تعد تلك الحركة العمالية الأوسع على المستوى الجغرافي والأطول زمنيا والأكثر كثافة، حيث شارك بها ما لا يقل عن 200 ألف عامل في جميع الإضرابات.
أما السمة التي ربما تعتبر الأكثر أهمية، فهي انتهاء أغلب الاحتجاجات بتحقيق مطالب العمال، أي بانتصار إرادة المضربين والمعتصمين. فحتى في حالة مصنع أبو زعبل للكيماويات المتخصصة، حينما حاول الأمن اقتحام المصنع، قام العمال بإجهاض المحاولة ونجحوا في تحقيق مطلبهم. وهذا يعنى اعتماد سياسة الاحتجاج لدى العمال كطريق لتحقيق الأهداف المطلبية. فالعمال الذين قد حققوا مكاسب عن طريق العمل الجماعى سوف يلجأون إلى تلك الوسيلة مرة أخرى حينما تصبح لديهم مطالب جديدة.
* هل تعتقد أن الحركة العمالية الأخيرة كان يمكنها تحقيق إنجازات أكبر مما تحقق بالفعل؟ وإذا كنت تعتقد ذلك فما هي المعوقات التي منعت ذلك؟
* علينا أن نتذكر أن السنوات الماضية لم تشهد حركة عمالية قوية. فمنذ اعتصام كفر الدوار في سبتمبر 1994، وهو حتى لم يصل إلى حد الإضراب، لم تشهد الطبقة العاملة نضالات كبرى، مثلا كإضراب 15 ألف عامل في كفر الدوار، أو 27 ألف عامل في المحلة.
من هنا يمكننا القول أننا طبعا نرجو أن تتصاعد الحركة العمالية أكثر بكثير من مستواها الحالي. لكن هذا لن يتحقق دون أن يكون ما نرجوه هو ذاته ما ترجوه وتقدر عليه الحركة العمالية.
* صعود الحركة لا يتمثل فقط في زيادة عدد الإضرابات، ولكن هناك مؤشرات أخرى مهمة مثل خلق أدوات تنظيمية جديدة، أو انتشار الإضرابات التضامنية، أو امتداد الحركة على مستوى قطاعات جديدة. فما هو رأيك في تطورات الحركة العمالية في الشهور الأخيرة وفقا لهذه المعايير؟
* نلاحظ أنه في السنوات الأخيرة بدأت حالة إحياء في الواقع المصري، وكانت هناك قضايا عديدة تطرح نفسها على المجتمع السياسي. وفي هذا السياق ظهرت رموز بين فئات عديدة: كالقضاة والصحفيين وحركة كفاية والإخوان المسلمين. في هذا كله كان الغائب هو القوى الاجتماعية والطبقية، وفي القلب منها الطبقة العاملة.
أحد المنجزات الكبرى للموجة الأخيرة من النضالات أن الحركة العمالية أصبحت أحد المعطيات الرئيسية التي لابد أن يتناولها أي سياسي مهتم بالسياسة المصرية. لقد انكسر التهميش الذي أبعد حركة العمال لسنوات طوال عن دائرة الضوء، وهذا من وجهة نظرنا يعني أن الموجة القادمة للحركة العمالية ربما تكون أكبر بكثير. فالاحتجاجات العمالية كانت عادة تنتهي بتحقيق انتصارات تتوقف بعدها الإضرابات. لكن هذه المرة ربما يكون ما نشهده هو التمهيد لحركة تسعى لما هو أكبر من الانتصارات الوقتية.
من ناحية أخرى، وفيما يتعلق بأشكال التنظيم، فإن الحركة العمالية استخدمت العديد من الآليات التنظيمية المختلفة عما عرفناه أو قرأنا عنه من قبل، وهي آليات تنظيمية نابعة من داخل حركة العمال وليست منقولة من الخارج. وواجبنا هو أن نسعى لمعرفة تلك الآليات ولفهمها من خلال التفاعل مع العمال أنفسهم. فعلى سبيل المثال في إضراب كفر الدوار قام أكثر من 12 ألف عامل بإضراب استمر لمدة 9 أيام داخل المصنع واستطاعوا من خلال آلياتهم التنظيمية أن يديروا الإضراب بدءا من الاعاشة ووصولا للتفاوض مع الإدارة بعد أن تخلى التنظيم النقابي الرسمي عن دوره المفترض وعارض مصالح العمال. إذن فقد أبدع العمال تنظيميا وخلقوا آليات ربما لا يكونون هم أنفسهم واعين بأنهم يستخدمونها.
* ما رأيك في سياسة الليونة وقبول المطالب التي اتبعتها الدولة مع الموجة الأخيرة من النضالات العمالية: هل هي تكتيك لتمرير التعديلات الدستورية والتوريث ولامتصاص صدمة الغلاء أم هي سياسة ثابتة جديدة؟ وهل علينا أن نتوقع أن تقوم الدولة بهجمة على الحركة العمالية حينما تجد ظروفا مناسبة أم لا؟
* الدولة جاهزة لتلك اللحظة بدون شك. فنظام مبارك له تاريخ دموى مع الحركة العمالية، وذلك منذ إطلاق الرصاص على عمال كفر الدوار في 1984 و1994 وأيضا علي عمال الحديد والصلب في 1989.
أما عن إن الدولة لم تتحرك حتى الآن لقمع الإضرابات، فهذا لا يعنى أنها أصبحت تتعامل مع العمال بشكل أفضل، وإنما يعنى تغير المعطيات على المستويين المصرى والدولى. وبالرغم من ذلك فإن علينا أن نشير أن النظام لم يتوقف عن التعامل بوحشية مع الحركة العمالية. فقد حدثت محاولة لاقتحام مصنع أبو زعبل للكيماويات المتخصصة، ولكنها انتهت بفشل الأمن بعد تصدى العمال له.
وقد يرجع تغير تفاعل الدولة مع الاحتجاجات العمالية إلى أن المطالب العمالية هي حد أدنى. فمثلا في حالة عمال كفر الدوار، فإن صرف مكافأة شهرين لعمال أجورهم لا تتجاوز الـ250 جنيه لا يعد مطلبا كبيرا.
* هل تعتقد أن المناضلين المهتمين بالشأن العمالي مثل اليسار واللجان الجبهوية العمالية قد تفاعلوا بشكل كافي مع الحركة العمالية الأخيرة؟ وما هي المصاعب التي واجهتهم؟
* كان صعود الحركة العمالية مؤخرا مباغتا ولم يتوقعه أحد. ولكننا لا نستطيع تجاهل جهود عدد لا بأس به من المناضلين. فمثلا اللجنة التنسيقية العمالية بذلت مجهودات جيدة في التفاعل مع الحركة العمالية.
ولكن ما يميز الحركة العمالية الأخيرة هو أنها مستقلة عن أى تيار سياسي. فهي لم تتأثر بأى فصيل، وهذا لا يعد تقصيرا من القوى السياسية وإنما أحد أهم مميزات الحركة.
وقد عانى المناضلون الذين تفاعلوا مع الشأن العمالي من العديد من الصعوبات، بداية من نقص التفاعل بالسرعة الكافية وصولا الى القلة النسبية وعدم القدرة على التفاعل بالكفاءة المطلوبة، وهذا يعد ناتجا بشكل أساسى عن وضعية القوى السياسية ذاتها، بالإضافة إلى الصعوبات الأمنية.
ومن تلك المصاعب أننى عندما ذهبت لعمال كفر الدوار مرتين قام الأمن بمنعى من الدخول إلى المصنع، وذلك رغم أننى صحفي، إلا أنه لم يكن مسموحا إلا بتواجد الصحف القومية. فكيف إذن للعديد من المناضلين الذين لا يملكون حتى مشروعية الصحفي في دخول المصانع أن يقوموا بالتفاعل بشكل مؤثر مع الأحداث؟
* في إضرابات سابقة مثل إضراب الحديد والصلب 1989 تم تشكيل لجان تضامن. فهل المهتمون بالشأن العمالي لم يهتموا بتكوين مثل تلك الكيانات التضامنية؟
* أغلب لجان التضامن بالثمانينات كانت تنشأ بعد نهاية الاحتجاجات. وذلك لأن الاحتجاجات كانت تُفض بالقوة ويتم القبض على أعداد كبيرة من العمال. وكانت مهمة لجان التضامن في هذا السياق هي الدفاع الإعلامي والقانوني والإعاشة، سواء للعمال المعتقلين أو لأسرهم. إذن فلا يمكن قياس مدى تطور تكوين تلك اللجان التضامنية لأننا لم نمر بظروف شبيهة من فض للإضرابات بالقوة. ولكن أعتقد أن حالة الحراك في المجتمع المصري أصبحت أوسع وأصبح هناك كم أكبر من الذين من الممكن أن يشاركوا في مثل هذه الأشكال التضامنية.
* ما هو في رأيك الأفق الذي يمكن أن تصل إليه الحركة العمالية في ظل ظروف تزايد معدلات الإفقار وإعادة اكتشاف النضال الجماعي واستمرارية الحركة السياسية بدءا من التضامن مع الانتفاضة وحتى حركة التغيير وحركة القضاة؟
* كشفت الحركة العمالية الأخيرة عن عاملين أساسين: أولا الفراغ النقابي الكبير، وهو ما يتمثل مثلا في أن أحد رموز التنظيم النقابي (حسين مجاور) صرح في حوار أن عمال الأسمنت قد أصابهم الجشع، أي أنه يعادي العمال بشكل مباشر، بالرغم من أن الحركة الأخيرة كانت في أمس الحاجة لتنظيم نقابي يلعب دورا في تطوير وعيها وتنظيم صفوفها.
العامل الثاني، والأكثر أهمية، هو اكتشاف العمال لقدرتهم على انتزاع مطالبهم بالنضال الجماعي. واعتقد أنه في الفترة القادمة سوف تظهر مطالب جديدة للعمال سيسعون لتحقيقها خاصة في ظل تدهور مستوى الأجور والتراجع المستمر لشروط العمل.
في اعتقادي أن هذين العاملين سيلعبان دورا مركزيا في تحديد مستقبل الحركة العمالية.
* وماذا عن العلاقة بالحراك السياسي؟ هل هناك علاقة بين صعود حركة التغيير (بغض النظر عن هبوطها لاحقا) والتطورات التي حدثت على ساحة النضالات الاجتماعية والحركة العمالية؟
* بالتأكيد هناك تأثر غير مباشر قد تكون خلقته التغطية الإعلامية للحركة السياسية. ولكن في الطبيعة السياسية للحركة العمالية المصرية لابد من التمييز بين المطالب والمطالبة. فالمطالب اقتصادية، أما المطالبة فسياسية.
فإذا تظاهر بعض السياسين للمطالبة بحق الإضراب سنعتبر أنهم يناضلون من أجل مطلب سياسى. أما إذا مارس 10 آلاف عامل حق الإضراب بشكل مباشر وصنعوا خرقا مهما في قانون الطوارئ ومارسوا أحد أرقى أشكال الممارسة الديمقراطية، فهذا ما نطلق عليه طريقة المطالبة.
وفي الصعود الأخير للحركة العمالية كانت أغلب المطالب اقتصادية. لكن لا يمكن بالطبع أن نفصل عنها تماما الجانب السياسى والتأثير السياسي. فاستخدام الفعل الجماعى كوسيلة لانتزاع المطالب وممارسة حق الإضراب وبروز الديموقراطية الداخلية أثناء الإضراب بدون اللجوء إلى تنظيم نقابي، وعلاوة على كل ذلك الانتصار وانتزاع المطالب.. كل هذا له تأثيره على الأوضاع السياسية في المجتمع بأسره، ويدل على بدايات وإمكانيات تسيس لدى الحركة العمالية. والحقيقة أننا إذا قمنا بمقارنة حال كل القوى السياسية في مصر بحال الحركة العمالية سنجد أن الحركة العمالية هي الأرقى على المستوى السياسي.
* نعلم أن النشطاء العماليين موجودون في أكثر من لجنة وشكل جبهوى.. فما مدى تأثير ذلك على وحدة الفعل داخل الحركة العمالية؟ وهل هناك إمكانية لتوحيد كل تلك الجبهات؟
* في الشهور الأخيرة كان التقارب هو الغالب بين كل تلك الأشكال والجبهات. فالتفاعل المباشر مع الإضرابات كان يفرض على الجميع التعاون. فكانت الأولوية للحركة وليس للجبهات، وكان ذلك مظهرا شديد الإيجابية. أما عن مستقبل التفاعل بين تلك الجبهات فهو رهن تفاعل كل تلك الأشكال مع الاحتجاجات العمالية. فلو توصلت عدة أطراف إلى إجابة مشتركة، فسوف يؤدى ذلك بالطبع إلى التقارب. ولكن الأزمة الحقيقية تنشأ حين تطغى مصالح جهة أو شخص ما على مصالح الحركة العمالية.
* في السنوات الأخيرة ظهرت فكرة النقابات البديلة. وفي ظل الموجة العمالية الصاعدة تزايد الحديث حول تنفيذ تلك الفكرة. ويبدو أن ذلك جاء كرد فعل مباشر للفراغ النقابي. فهل تشكيل كيان بديل يعد فكرة ممكنة ومنطلقة من الواقع أم أنها محض تصورات نخبوية؟
* هذا “الحديث” لم يتقدم عن ذى قبل. فالمحاولة الجادة الوحيدة التي تمت كانت لعمال المحلة في سحب الثقة من اللجنة النقابية وتقديم استقالة جماعية منها والتهديد بتشكيل نقابة مستقلة عن التنظيم الرسمى، وإن لم يظهر لذلك امتداد فيما بعد.
الحقيقة إن ملء الفراغ النقابي هو مهمة الحركة العمالية نفسها. فحتى الآن لم تظهر بذور حقيقية لوجود تنظيمات نقابية مستقلة، وإن كانت بعض البذور التنظيمية قد ظهرت كما أشرنا من قبل. أنا لا أملك تصورا حول هذا الأمر وإن كنت اعتقد أنه احتياج ملح. ولكني لا اعتقد في نفس الوقت أنه سيفيد الحركة العمالية في شيء بناء هياكل من خارج حركتها وتجربتها.. المطلوب هو الانطلاق مما أنتجته الحركة العمالية بالفعل.
* هناك أيضا “حديث” حول مؤتمر عمال مصر. وقد تم إصدار نشرة للتعبير عن تيار يتبنى هذه الفكرة. فهل تعتقد أن هذا التوجه يعبر عن ارتباط حقيقى بالحركة أم أنه تصور من خارج الحركة وغير مفيد لها؟
* أنا لا استطيع المصادرة على أى محاولة. وأتمنى لأصحاب هذا التوجه النجاح في تنفيذ طرحهم. لكن التجربة لم تتبلور بالدرجة التي تمكننا من تقييمها. لكن أنا بالتأكيد أتمنى لها التقدم وتكوين قواعد عمالية. فإن كانت لم تحقق ذلك بعد، فهذا لا يعني أنها محاولة ينقصها الإخلاص، وإنما ما ينقصها هو الارتباط الفعلي بالاحتجاجات العمالية وملء الفراغ النقابي الملح مثلا في المناطق الصناعية الجديدة التي تخلو من التنظيم النقابي سواء الرسمي أو المستقل.
فكرة “اتحاد العمال الحر”، التي طرحها بعض النشطاء وتلقفتها الصحافة، كانت عبارة عن تصور لم يؤد إلى أي شيء. لكن فكرة “مؤتمر عمال مصر” هي فكرة أكثر أصالة والداعين لها أكثر إخلاصا بكثير للحركة العمالية.
* هل تؤيد الفكرة القائلة إن أحد مشاكل اليسار هي خلق أشكال وهمية والادعاء أنها ذات تأثير حاسم في حين أن أثرها الفعلي يكون زيادة عزلة وتهميش اليسار؟
* بالتأكيد وضع شعار عريض لكيان صغير لن يفيد الحركة العمالية. ولكن بالمثل التحول من الدفاع عن الحركة العمالية للهجوم على مثل ذلك الكيان لن يفيدها أيضا. فلنشتبك ونرى. ولتأخذ تلك المحاولة مداها، ونتمنى أن تنجح، وأن تأخد كل الكيانات التي سوف تظهر فيما بعد مداها وتنجح، وأن يسبق كل ذلك نجاح الحركة العمالية التي سوف تقود كل تلك المحاولات والتفاعلات للنجاح.
* في الفترة الأخيرة أصدر “التحالف الاشتراكى” ورقة سياسية حول الحركة العمالية. وهناك لجنة عمالية داخل “التحالف” أصدرت هذه الورقة وبيانات أخرى. فهل هناك تأثير، ومستقبل، لتلك اللجنة؟
* تاريخيا ارتبط حال اليسار بحال الحركة العمالية. صعود الحركة العمالية كان دائما ما ينعكس في انتعاش اليسار. وهذا أمر صحي كان لابد لليسار أن يبني عليه ويتمسك به. لكن للأسف نحن نرى أن هذه المرة الصلة ضعفت بين حال العمال وحال اليسار. هذه هي أضعف مرة تأثرت فيها قوى اليسار عموما بانتعاش الحركة العمالية. وهذا يشمل الكل وليس فقط التحالف الاشتراكي. وهذا يعد بمثابة جرس إنذار لليسار لأن ضعف الثقة بين حركة العمال واليسار مردوده السلبي الأول يعود على اليسار لا على الحركة العمالية.
* إذا كانت حالة اليسار في الموجة الأخيرة تمثل إنذارا له، فما هي في رأيك السياسات التي ينبغي عليه اتباعها للتعامل مع هذا الظرف الهام لإحياء صلته بالحركة العمالية ولاستعادة تماسكه الداخلي؟
* تقدم الحركة العمالية العديد من الأمثلة لليسار. خذ عندك مثلا تجاوز الطائفية والاضطهاد والديمقراطية الداخلية أثناء الاحتجاجات العمالية. فعلى سبيل المثال في نهاية مايو قام عمال مصنع الوطنية لصناعة الصلب بإضراب. ومن المعروف عن هذا المصنع أن نسبة من عماله مسيحيون، وكان هناك دائما وضع طائفي تغذيه الإدارة بالمصنع. ولكن جاء الإضراب ليوحد العمال مسيحيين ومسلمين. و هذا يعنى أن الحركة العمالية هي وحدها القادرة على تجاوز كل الأوضاع الرجعية في المجتمع. مثل آخر يمكن أن نقدمه فيما يتعلق بتجاوز التمييز ضد المرأة، حينما حينما لعبت العاملات دورا قياديا في العديد من الاحتجاجات مثل المطاحن وغزل المحلة والمنصورة ـ أسبانيا.
المطلوب من اليسار أن يتعلم كيف تستطيع الحركة العمالية أن تتجاوز مشاكلها الداخلية، وكيف تنحى أمراض العصبية والطائفية والتمييز جانبا، وكيف تصنع ديموقراطيتها، وكيف تتصاعد في مطالبها. إذا كان اليسار يريد أن يتفاعل مع الحركة العمالية، فلابد له أن يعرف أن أمامه الكثير ليتعلمه منها.
* ألا تعتقد أن بعض هذا الكلام يعد تأليها للحركة العمالية.. فالعمال يخطئون وأحيانا يسيرون وراء شعارات رجعية.. فما رأيك؟
* أنا أرى أن الحركة العمالية في الوضع الطبقي الحالي هي أفضل الحركات النضالية. فالحركات التي تظاهرت لكي تسقط مبارك لم تسقطه. وهذا ليس عيب تلك الحركات. فهناك شعارات كبيرة رفعها عدد قليل من الناس و لم يستطيعوا تحقيقها. ولكن على الجانب الآخر هناك قطاعات أوسع تبنت شعارات صغيرة. فالطبقة العاملة تفتقد لتنظيمها النقابي، ناهيك عن السياسى، وقد انحصرت كل مطالبها في المطالب الاقتصادية. و بذلك فإنها في ظل الوضع الاجتماعى والسياسى الراهن هي الأفضل. فعند المقارنة بين اليسار والحركة العمالية لابد أن ترجح كفتها ولابد لليسار أن يتعلم منها.
* يبدو أن الحالة الآن على الجبهة العمالية تقترب من وضعية الهدوء. ففي رأيك هل نحن في انتظار صعود جديد قادم؟ وما هو شكله؟ وما الذي يمكننا أن نتوقعه بصدد علاقته بالموجة السابقة؟
* رؤيتك التي تطرحها في هذا السؤال تكشف عن قراءات خاطئة للواقع. فأولا أنت تقول أن الوضع الآن يتسم بالهدوء، وهذا أمر يفترض أنه الطبيعي أن تظل الحركة تتصاعد بلا توقف أو نهاية. وثانيا الإيحاء بأن الحركة تتراجع يعطي الانطباع بأن هناك هزيمة أو انتكاسة. الحقيقة أن ما يحدث هو دورة طبيعية للحركة. لابد ألا ننسى أن الإضراب ليس فعلا دائما، هو فعل احتجاجي لتنفيذ مطلب ما، إما ينفذ أو لا ينفذ.
إن المشهد الذي نعيشه هو اكتمال موجة للحركة العمالية. حيث قام مئات الآلاف من العمال، في كثير من القطاعات والمناطق، بالاعتصام والإضراب للحصول على مطالب، وقد حصلوا على معظمها بالفعل، مما دفع الأمور في اتجاه الهدوء البادي.. هذا إذن أثر من آثار الانتصار. والدلالة أن اكتمال الدورة الحالية بالانتصار يعني أن الدورة التالية سوف تأتي قريبا. فالدورة الحالية كانت مطالبها جزئية مثل الأرباح والعلاوات. ولكنها لم تحل أزمة الإفقار الذي يعاني منه العمال بشكل كلي. وهذا يعني أن هناك مطالب أخرى سوف تُطرح.
من ناحية أخرى، فإن الانتصارات الحالية قد خلقت ثقة أكبر في الفعل الجماعي والاحتجاج العمالي. وهذا يعنى، مرة أخرى، أن هناك موجة قادمة أكبر. واعتقد أن تلك الجولة ستحقق انتصارات جديدة ربما أهم مما تم حتى الآن. فلقد قويت الحركة وبقى أن تسد الفراغ النقابي الذي تعانيه، وأن يكون لها تنظيمها الحر المستقل.