مصانع الاستثمار في بورسعيد وعمال التراحيل الجدد

“عمال التراحيل”.. أول تعبير يتبادر إلى ذهني عندما أرى هذا الطابور الطويل من السيارات العتيقة الطراز المعبئة بالبشر متكدسة على مدخل بورسعيد من الساعة السابعة وحتى الثامنة صباحاً. هذا المشهد أراه يومياً في طريقي إلى المصنع الذي أعمل به بجنوب بورسعيد، وعندما أصل إليه أجد عدداً آخر من السيارات متكدسة أمام بوابات المصنع ينزل منها العشرات من هؤلاء القادمين يومياً من مدنهم وقراهم بحثاً عن لقمة عيش.
فى البداية يجب الإشارة إلى أن بورسعيد بها تجمعان للمناطق الصناعية تحت مسمى مناطق حرة للاستثمار: التجمع الأول في مدخل المدينة، والآخر بجنوب بورسعيد للمناطق الحرة الخاصة. يعمل بتلك المناطق الخاضعة لقانون الاستثمار عشرات الآلاف من العمالة المنتظمة، فضلاً عن الآلاف الأخرى من عمال اليومية الغير مقيدين تحت أي مسمى تأميني أو وظيفي يضمن لهم ما دون الحد الأدنى من حقوقهم. لدى هؤلاء العمال أكوام من المشاكل، ولكن هؤلاء المرحلون هم الأكثر تضرراً لأنهم يعرضون حياتهم للموت بشكل يومي على طرق غير صالحة ويتحملون عناء السفر يومياً من محافظاتهم إلى بورسعيد، مما يضاعف من المجهود الذي يبذلوه.
يمثل هؤلاء المرحلون حوالي 70% من حجم العمالة في بورسعيد، بينما هناك ما يقرب من 20% من أبناء المدينة و10% عمالة أجنبية. ولكن لماذا كل هؤلاء القادمين من المحافظات المجاورة؟ ألا يوجد بالمحافظة مايكفي؟ لماذا يضطر هؤلاء للسفر يومياً للعمل؟ ولماذا تفضلهم إدارت المصانع على أبناء المدينة؟
أسئلة وأجوبة
كان هذا يرجع منذ البداية إلى وقت إصدار الرئيس السابق أنور السادات قرار إنشاء المنطقة الحرة، وما تبعه من اجتذاب الكثير من أبناء المحافظة والمحافظات المجاورة للعمل بالتجارة، كوسيلة ناجحة في تلك الأيام للقفز بين الطبقات والتطلع للثراء السريع. لذا كان لأبناء المدن الفقيرة على ضفاف بحيرة المنزلة (والذين يعانون من الفقر والبطالة) السبق فيما بعد في العمل في تلك المصانع وقت انشاءها. ولكن منذ أن حدثت محاولة اغتيال مبارك المزعومة (حادثة أبو العربي الشهيرة) وقرار إلغاء المنطقة الحرة كعقوبة جماعية على أبناء المدينة جراء تجرؤهم على رمز النظام، وما تبع ذلك من قمع للحركة الاحتجاجية التي تبعت ذلك القرار، والكساد التجاري المتزايد في السنوات الأخيرة، صارت مصانع الاستثمار هي الملجأ الوحيد لمن أصبحت التجارة صعبة عليهم، ولكل الخريجين الجدد من أبناء بورسعيد.
واستغلت إدارات الشركات والمصانع تلك الحاجة أسوأ استغلال، حيث استخدمت طوابير البطالة في الضغط على العمال بمبدأ “اللي مش عاجبه، ألف غيره ييجوا في ساعة”، ونشر الفرقة بين العمال حيث تروج بين أبناء المحافظات الأخرى مقولات مثل “انتم هنا عشان البورسعيدية عوالة مش بتوع شغل، انتم رجالة وهما لأ”، وبين البورسعيدية “الفلاحين جايين ياخدوا أكل عيشكوا”، كل ذلك لضرب التكتلات وسط العمال. ولكن الاستفادة القصوى من وجود هذه النوعية من العمال تبرز وقت اتخاذ خطوة احتجاجية من العمال كاعتصام أو إضراب داخل إحدى هذه المصانع. فعلى سبيل المثال إبان أزمة مصانع سبأ (إحدى الشركات العاملة في الملابس الجاهزة بالمنطقة الاستثمارية) منعت الشركة الأتوبيسات القادمة من مدن المطرية والمنزلة (ومنها غالبية العمال) من القدوم إلى بورسعيد، فأصبح الموجود في الاعتصام عدد ضعيف، مما سهل كسر الإضراب الذي انتهى بمجزرة بين العمال تمثلت في فصل 9 عمال وحظر 44 آخرين من العمل داخل بورسعيد.
أما السبب الأخطر، فهو أنه طالما أن معظم العمال ليسوا من نفس المدينة فذلك يضمن ضعف التضامن الشعبي مع أي احتجاجات قد تحدث. فتجربة المحلة تظل كابوساً لدى الطبقة الحاكمة في مصر، فهم لا يريدونها أن تتكرر في مكان آخر، فالمحلة أغلب عمالها من نفس المدينة، وعندما يحدث احتجاج تجد التعاطف والتضامن مع الاحتجاج في كل المدينة، وتجلى هذا في أبريل 2008، كما ظهر واضحاً كذلك في بورسعيد في إضرابي مصنع الضفائر الكهربية ومصنع هنكل برسيل، واللذان يعتمدان على عمال من أبناء المدينة بشكل شبه كامل، مما كان له أثر كبير في خلق حالة من التعاطف في بورسعيد مع العمال أثناء هذين الإضرابين، وأيضاً عاملاً قوياً في الضغط على أصحاب الشركات والمسئولين الحكوميين.
ظروف عمل صعبة.. واستغلال رأسمالي بشع
المخاطر التي يتعرض لها هؤلاء المرحلون كثيرة؛ فوسائل النقل عبارة عن سيارات رخيصة لا تصلح لنقل البهائم، تسير على طرق غير معبدة ينتج عنها حوادث شبه يومية لهؤلاء العمال. كما أن الإرهاق الزائد هو شعار حياة هؤلاء المرحلون، حيث أنك تخرج من بيتك بعد الفجر في السادسة صباحاً تقريباً، وتصل مقر عملك في الثامنة، وينتهي العمل في الرابعة مساءاً، وتصل إلى منزلك مرة أخرى في حوالي السادسة مساءاً، أي ساعات العمل 12ساعة: 8 ساعات عمل فعلي و4 ساعات مواصلات.
لماذا يتحملون كل هذا العناء؟ الكتلة الرئيسية من هؤلاء العمال من مدن وقرى الدقهلية التي تبعد عن المنصورة ساعتين (المطرية والمنزلة والقرى المجاورة)، حيث نسبة الفقر تتخطى الـ80% وفرص العمل شبه معدومة، والبديل بالنسبة لهؤلاء هو العمل في مهنة الصيد حيث المخاطرة مضاعفة ونسب الأمان معدومة.
هؤلاء العمال لا يستطيعون تحمل تبعات إضراب مكسور؛ فكل يوم يُخصم يقابله يومان من الجوع في الشهر التالي، أو التأخر في انتهاء المعاناة لفتاة تعمل كي تجمع مصاريف زواجها لتحقيق حلمها في الهروب من معاناة العمل وفقر البيت.
هؤلاء العمال يعانون أبشع أنواع الاستغلال الرأسمالي، فبعد أن تنتهي رحلة العذاب في الطريق إلى المصنع تبدأ رحلة عذاب من نوع آخر؛ فمتو سط الأجر الأساسي من 150 إلى 300 جنيه، وبعد إضافة الحوافز والبدلات يصبح الأجر الفعلي للعامل الجديد ما بين 550 إلى 750 جنيه شهرياً، وهو ما لا يكفي طفلاً رضيعاً حفاظات فقط لمدة 15 يوم، وليس لإعالة أسرة كاملة. فيصبح العامل أو العاملة على مجبرين على تحمل مشقة العمل الإضافي، والعمل أيام الجمعة والعطلات الرسمية من أجل المزيد من الفتات الذي يلقيه لهم صاحب العمل نهاية الشهر، في حين أنه في بعض المصانع يصل سعر القطعة الواحدة إلى 400 دولار.
هذا طبعاً بخلاف قانون العمل المجحف وقانون الاستثمار الأكثر إجحافاً لحقوق العمال الذي يتيح لصاحب العمل فصل العامل، ولا يتيح للعامل حق ترك العمل إلا بعد تقديم استقالة مكتوبة قبلها بما لا يقل عن 60 يوماً، ولا يكفل للعامل أي حقوق بعد فصله، فأقصى أماني العامل بعد الفصل هو الحصول على تعويض شهرين عن كل سنة ذهبت من عمره في السخرة والعمل لصالح ذلك الرأسمالي.
عمال المناطق الحرة للاستثمار في بورسعيد هم من أكثر العمال معاناة في مصر.. فلم تصل الثورة إليهم، والنهضة بالنسبة لهم لا تعني إلا المزيد من قيود العبودية على رقابهم.