بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عمال وفلاحين

قصة إضراب:

موظفو الضرائب العقارية يحكون قصة اعتصام حسين حجازي

كان إضراب عمال غزل المحلة في ديسمبر 2006 هو الشرارة الأولى لاندلاع موجة من الاحتجاجات الاقتصادية والاجتماعية لم تشهدها البلاد منذ فترة طالت لأكثر من نصف قرن. ولعل أهم ما أسفرت عنه هذه الاحتجاجات، بخلاف ما كشفت عنه من قدرة العمال على الانتصار، هو كمّ ما أثارته من تساؤلات: كيف صعدت الحركة بعد سنوات من الهبوط؟ لماذا كانت بعض القطاعات قادرة على تحقيق النصر؟ أي أساليب نضالية ساهمت في رفع وعي العمال؟ من هم قيادات التحركات؟ وكيف قاموا بالحشد؟ وكيف أداروا التفاوض؟ وكيف اتخذوا القرار؟ متى فشلوا؟ وكيف ينجحون؟ هل كان الانتصار نهاية المطاف؟ أم بداية طريق تطوير المطالب وترابط الحركة؟

نحاول في هذا التحقيق، الذي يتناول نضال موظفي الضرائب العقارية، والذي نعتبره مقدمة لسلسلة من التحقيقات تتناول موجة التحركات الاقتصادية والاجتماعية بالدراسة والتحليل، أن نتعرف على إجابات هذه الأسئلة، في محاولة لنقل الخبرة وفتح الطريق لارتباط مبني على الفهم، بين العمال والمتضامنين معهم والمؤمنين بدورهم في التغيير.

مشكلة عمرها 33 عاما

يحكي المناضل الكبير كمال أبو عيطة، أحد أهم قيادات معركة موظفي الضرائب العقارية، تاريخ مشكلتهم على النحو التالي: مصلحة الضرائب العقارية أقدم جهاز ضريبي في مصر (1883)، وهي أوسع المؤسسات الضريبية انتشارا، إذ تغطي نحو 6000 قرية ونجع، بالإضافة إلى المدن, ويأتي ذلك من خلال الإشراف الفني على أعمال سبعة وعشرين مديرية، وهو ما جعلها تتمتع تاريخيا بمكانة اجتماعية مرموقة. واستمر هذا الوضع حتى عام 1974، عندما ضُرب الجهاز في مقتل بصدور قراري وزير المالية رقم 136 و137. فبموجبهما تم نقل تبعية الجهاز المالية والإدارية للمحليات، مع الإبقاء على التبعية الفنية لوزارة المالية. وبضياع التبعية بين الجهتين تفكك الجهاز وفسد.

ونتيجة لهذه القرارات تدهور مستوانا المالي، كما ظُلمنا إداريا بعد أن أصبحت الترقيات حكرا على 500 من العاملين “في مصلحة الضرائب العقارية”، التي استمرت تبعيتها الكاملة لوزارة المالية، وحرم منها 55 ألف شخص موزعين على المحليات، أصبحت “الدرجة الأولي” هي سقف تدرجهم الوظيفي.

التحركات السابقة

* عمر مشكلة الضرائب العقارية 33 عاما، فهل مرت هذه الفترة الطويلة دون حركات احتجاجية؟

يجيب كمال أبو عيطة: بالطبع لا، كانت هناك تحركات مكتومة انعكست في البداية في تعمد الموظفون الإهمال في التحصيل طبقا لنظرية “على أد فلوسكم”. وفي خطوة تالية، منذ منتصف الثمانينات، عملنا على إنشاء تنظيم نقابي. وقد قوبل تشكيل اللجان النقابية بحرب من الإدارة وصلت لحد بلاغات للمباحث! شارك في هذه الحرب التنظيم النقابي الرسمي الذي كان لا يقبل إيداع الأوراق. وكانت القوى العاملة تعطل الإجراءات، وعندما تعييهم الحيل كانوا يقبلون اللجنة كـ”لجنة تأسيسية”. ورغم أن المعتاد أن تتحول مثل هذه اللجان تلقائيا في الدورة الانتخابية التالية إلى لجنة نقابية، إلا أن ذلك لم يكن يحدث إلا بطلوع الروح. ونتيجة لهذه الحرب الضروس لم يستطع موظفي الضرائب العقارية إلا تكوين 11 لجنة نقابية في 27 محافظة.

ويكمل مكرم لبيب، رمز آخر من رموز المعركة ورئيس اللجنة النقابية بالدقهلية: حاولنا بعد ذلك نقل الظلم الواقع علينا للتنظيم النقابي والمسئولين عبر التلغرافات والعرائض. وفي مايو 1996 نجحنا في عقد أول مؤتمر للعاملين بالضرائب العقارية بميت غمر، حضره عاملين من كل الجمهورية ودُعي إليه أعضاء مجلس الشعب والصحافة. وبعد الاجتماع اتصلنا بمعظم أعضاء مجلس الشعب. وكان نتاج هذا الجهد صدور توصية من مجلس الشعب في مايو 1997 بإعادة تبعية العاملين بالضرائب العقارية لوزارة المالية، ومساواتهم بالعاملين بديوان عام مصلحة الضرائب العقارية بالقاهرة، وإلغاء القرار الوزاري رقم 136 لسنة 1974، وأرسلت موافقة مجلس الشعب إلى مجلس الوزراء للتصديق عليها، وهو ما لم يحدث. ولكنهم حاولوا إلقاء بعض الفتات إلينا حتى نصمت، فكانوا يرسلون إلى بعض المديريات الغاضبة، كالدقهلية وبني سويف، مخصص للجهود غير العادية يفوق نسبة الـ30% المحددة في القانون. انتهزنا هذه الفرصة في الدقهلية، وكنا قد بدأنا في إجراءات تشكيل اللجنة النقابية، وسعينا لتقنين الوضع، فذهبنا للمحافظ وقلنا له أن المبلغ المرسل لنا يكفي إعطاء كل العاملين50% كجهود غير عادية، وقد كان. ولكن هذه الخطوة لم تطبق على مستوى قومي.

وفي 13 مارس 1999 تجمع حوالي 200 موظف من عدة محافظات أمام مجلس الشعب ونجحوا في مقابلة فتحي سرور الذي حولنا لوزير المالية. وفعلا قابل الوزير ثلاثة نيابة عن المتجمهرين، وأسفرت هذه المقابلة عن تقنين الـ50% جهود غير عادية، مع زيادة الموازنات على مستوى الجمهورية بحيث تضمن حصول الجميع على هذه النسبة. كما استثمرنا هذا النجاح وحصلنا من وزير التنمية الإدارية على 25% حافز إثابة، وكنا نحرم منه بحجة أنه لا يسري على العاملين الذين يحصلون على جهود غير عادية. وفي محاولة لحل مسألة الترقيات، استحدث وزير الإدارة المحلية درجة “كبير باحثين”، وهي درجة تتساوى مع درجة “مدير عام” دون صلاحياتها، وهو ما يطلق عليه كمال أبو عيطة تندرا “المدير التايواني”. وبعد هذا التاريخ حاولنا بشكل دائم مقابلة أي من الوزيرين أو من تولوا بعدهم مناصبهم دون جدوى. بل منعنا أيضا من الاجتماع في مقر النقابة العامة للبنوك والتأمين والأعمال المالية، فكنا نجري اجتماعاتنا في حديقة ميدان التحرير. وكان آخر تحرك قمنا به في 2006 عندما نظمنا مظاهرة بسيطة أمام وزارة المالية، ولكننا لم نتمكن من مقابلة أحد سوى مدير أمن الوزارة.

تفجير الإضراب

* يمكن وصف التحركات الاحتجاجية السابقة التي حدثت قبل 2007 بأنها كانت ذات نبرة منخفضة، فما الذي فجر الموقف؟

جاءت تفسيرات متعددة على لسان من صنعوا هذا الحدث النضالي. بعضها أرجع السبب إلى ممارسات النظام لتكريس سياسات الليبرالية الجديدة. فكمال أبو عيطة قال: في كل الدورات الانتخابية العمالية السابقة كان يحدث تزوير، ولكن التزوير كان يتم في القمة، أي على مستوى عضوية النقابة العامة والاتحاد العام للعمال. وهو ما تغير في دورة 2006-2011 بوصول التزوير للقاعدة. وهكذا تمت تصفية كل العناصر المؤثرة في الضرائب العقارية.

في هذه المرحلة كان النظام يريد تمرير قانون الوظيفة العامة الذي يحول موظفي الحكومة لعاملين بعقود مؤقتة، بالإضافة إلى إلغاء الدعم والتأمين الصحي وسرقة أموال التأمينات. ولضمان تحقيق ذلك لم يكن ليقبل أي صوت معارض مستندا لأي حصانة، حتى لو كانت حصانة واهية كعضوية اللجان النقابية.

قبل الانتخابات اتصلت النقابة العامة برؤساء اللجان النقابية وطلبوا من كل منهم تقديم 11 اسم يتم تعيينهم كلجنة نقابية بالتزكية. وافق العديد من رؤساء النقابات على هذا الاقتراح. ولكني عارضته في الجيزة، وصممت على إجراء الانتخابات. وعلى الرغم من أني كنت المشرف على الانتخابات بصفتي رئيس اللجنة النقابية، فقد رفضوا إعطائي شهادة العضوية لمنعي من الترشيح. فقمت برفع دعوى مستعجلة، فقاموا بمنحي الشهادة، وكأنهم يقولون: “ورينا هتعمل بيها إيه؟”

أستطيع أن أجزم أن عدد أفراد الأمن الذين تواجدوا يوم انتخابات اللجنة النقابية في الجيزة كان يفوق الأعداد التي تواجدت أثناء انتخاب رئيس الجمهورية. ورغم أنه كان تحت يدي 1800 ورقة اقتراع بها اسمي، إلا أن النتيجة المعلنة جاءت لتقول إني حصلت على 200 صوت، ولتضعني في المركزالـ12!

بعد الانتخابات قامت اللجنة النقابية بكامل أعضائها بالاتفاق على ترشيحي كممثل لها في النقابة العامة، حيث يحق لها ترشيح أي عضو من الجمعية العمومية لهذا المنصب. ولكن عندما ذهب رئيس اللجنة النقابية إلى النقابة العامة، قام رئيس النقابة العامة، بإجباره على كتابة ورقة أخرى اختفى منها اسمي. وكذلك، فعندما جرت انتخابات النقابة العامة، تم إسقاط مكرم لبيب. الصورية التي تمت بها الانتخابات أكدت أن التنظيم النقابي لم يعد قناة مناسبة للمطالبة أو الاعتراض. والدليل على ذلك أن 9.5 لجنة نقابية من ضمن الـ11 لجنة وقفت ضد الإضراب.

جمال الصادق (صراف في الواسطى/ بني سويف وعضو اللجنة العليا للإضراب) قال: قبل تفكك الاتحاد السوفييتي كانت الناس قريبة من بعض، ولم تكن هناك ضرائب مبيعات، وكان تحصيل الضرائب ضعيفا. لكن بعد أن تسيدت الولايات المتحدة وفرضت أسلوب الاقتصاد الحر، تغيرت المعايير: زادت الشركات وزاد معها تحصيل الضرائب، ثم استحدثت ضرائب المبيعات، وبالتالي زادت دخول العاملين في هذه المصالح، وزادت الفجوة بين هذه الدخول ودخل العاملين في الضرائب العقارية، فكان طبيعيا أن يشعروا بالظلم. أضف إلى ذلك ازدياد معدلات السرقة في البلد وتضخم الفجوة بين الطبقات.

في حين قالت علية أبو بكر (مأمور ضرائب بالواسطى): المشكلة إننا مش دولة اشتراكية. لو كنا جميعا نحصل على نفس المرتب لما اعترض أحد. لكن لا بد أن أغضب عندما أتلقى راتب يساوي 700 جنيه، وزميلي الذي حصل على نفس التقدير يحصل على 6000 جنيه.

وأشار بعضهم إلى دور الحراك السياسي وإلى الهامش الديمقراطي التي سمح به النظام. فعلى سبيل المثال قال مكرم لبيب: حركة “كفاية” أعطت الناس الأمل وبنت تراث من المقاومة، لكن للأسف ركب الإخوان الموجة. بينما قال سمير عبد المنعم رئيس مديرية الضرائب العقارية بالواسطة: لا شك أننا استفدنا من المناخ الديمقراطي.

وفي المقابل، أكد أغلبهم على أثر الاحتجاجات العمالية التي نجحت في تحقيق مطالبها. فقال كمال أبو عيطة: جاءت التحركات العمالية، وعلى رأسها إضراب عمال المحلة، لتؤكد أن هناك طريقا آخر للحصول على الحقوق غير التوسلات، مما جعل موظفي الضرائب العقارية يستدعون خبرة عام 1999. بينما أكد مكرم لبيب على أهمية أثر إضراب مدرسي الأزهر على الموظفين. وقالت سلوى محمد (مأمور ضرائب ببني سويف): عندما شاهدنا إضراب مأمورية الجيزة في التليفزيون، شعرنا أنهم ممكن ينجحوا فتشجعنا.

وأخيرا أرجعوا تفجر غضبهم لبعض التطورات على المستوى الموقعي. فقال أبو عيطة: خلال عام 2007 تم انتداب بعض زملائنا في الضرائب العامة وضرائب المبيعات. وقد قام هؤلاء بتقديم شكاوى تطالب بتخفيض نسبة مشاركتهم في صندوق الزمالة (يخصم 10% من دخل كل العاملين لصالح هذا الصندوق). وعند بحث هذه الشكاوى تبين لنا أن السبب في اعتراضهم المفاجئ على هذه النسبة يرجع إلى أن الـ10% بالنسبة لهم تساوي دخلنا بالكامل، وطبعا شعر الجميع بظلم شديد نتيجة هذا التباين الشديد في الدخل.

وقال جمال الصادق: زاد أيضا الشعور بالظلم نتيجة لتطبيق تطوير في نظام حوافز العاملين بالضرائب لم يشمل العاملين في الضرائب العقارية. فبينما ظلت نسبة الحوافز التي يحصل عليه موظف الضرائب العقارية 50%، زادت حوافز العاملين بالضرائب العامة من 350% إلى 650% ثم 1100%.

ساعد أيضا على تسخين الموقف، أنه منذ حوالي ثلاثة سنوات تم الإعلان عن قرب صدور قرار بدمج مصالح الضرائب الثلاثة في مصلحة واحدة هي مصلحة الضرائب المصرية. وهو ما حدث فعلا مع استثناء الضرائب العقارية بحجة انتظار موافقة مجلس الشعب على قانون جديد للضرائب العقارية. ومع دخول القانون مجلس الشعب، أحس رجال الأعمال بالخطر. فمن ناحية كان التضارب بين القوانين يصب في مصلحتهم، ومن جانب آخر كان يمكن للقانون الجديد أن يكشف الامتيازات التي يحصلون عليها. وهكذا عطلوا صدور القانون لثلاثة سنوات. وفي شهر 7 الماضي انتظر الجميع صدور القانون، وهو ما لم يحدث، وفي ظني كان هذا هو السبب الرئيسي لتفجر الموقف. هذا إلى جانب تجاهل الوزير لمطالبنا. كنا نطالب داخل المنشأة، ولكن تجاهله أخرجنا للشارع.

الجيزة تقول كفاية مذلة

في 11 سبتمبر 2007 انطلقت الشرارة الأولى باعتصام موظفي مأمورية الجيزة. يحكي كمال أبو عيطة: في هذا التوقيت أطلق حمدين صباحي دعوة “خليك في البيت”، وقد وجدت في هذه الدعوة، مع التحوير، مدخل لدعوة زملائي للاحتجاج على أوضاعهم. كانت الدعوة في نظري سلبية لأنها تدعو للبقاء في البيت في يوم عطلة رسمية، والأجدر أن يأتي التحرك في يوم عمل حتى يكون له أثره الإضرابي. وعلى ذلك بدأت مناقشة فكرة أخذ أجازة عارضة جماعية نعلن بها اعتراضنا. كان في ذهني أن الموظفين متذبذبين وأن هذه الفكرة البسيطة قد تكون مناسبة لهم لأنها لن تكلفهم شيئا وليس لها تبعات أمنية. ولكن نتيجة المناقشات جاءت لتفوق كل توقعاتي. فما أن عرضت الدعوة حتى جاءت الاستجابة بعرض التوقف عن التحصيل والإضراب عن العمل، بل والاعتصام!

“مسنودا” بالغالبية العظمى من موظفي مأمورية الجيزة، طلبت حضور اجتماع اللجنة النقابية، وهو أمر ممنوع رسميا. وفي الاجتماع عرضت فكرة تنظيم اعتصام. بالطبع قوبلت الفكرة باعتراض البعض، بل أن أحدهم قام بإبلاغ أمن الدولة، إلا أن الأغلبية تبنوا الفكرة بعد أن أصبحت أمرا واقعا. بل إن اللجنة النقابية كلفتني بنقل الفكرة للمحافظات. وفي نهاية الاجتماع تم تحرير إخطارات لجهة العمل، والنقابة العامة، والقوى العاملة، بموعد إضراب الجيزة.

ورغم تهديدات الإدارة، ورغم الكردون الأمني المحكم، نجح 1000 موظف وعامل بمصلحة الضرائب العقارية في الاعتصام أمام مجمع المصالح بالجيزة. إلا أن العدد الفعلي تراوح بين 2500 و5000 متظاهر. والسبب أن مجمع المصالح يضم إلى جانب الضرائب العقارية، الأوقاف والصحة والشئون الاجتماعية وغيرها. وعلى الرغم من أن إدارة كل مصلحة قامت بغلق الدور المخصص لها على موظفيها، إلا أن بعض هؤلاء نجح في الإفلات وشارك في الاعتصام، ومن لم يستطع الإفلات كان يلقي من النوافذ بأوراق تأييد. وبعد أن استمر الاعتصام من التاسعة صباحا حتى الثامنة مساءً، وجدت أن هذا كافيا، وخاصة أننا كنا على أبواب شهر رمضان، وكنت على يقين أن حماس الناس سيكون في أضعف حالاته خلال هذا الشهر، فتم الإعلان عن تعليق الاعتصام حتى نهاية شهر رمضان.

الأقاليم ترد بنفس الصوت

ويكمل مكرم لبيب: عندما سُدت كل الأبواب في وجهنا، قررنا العمل من خارج النقابة. كنت بالصدفة ذاهبا للجيزة في 9 سبتمبر لإعطاء كمال بعض الأوراق، فوجدت مأمورية الجيزة معتصمة. وقررنا التخطيط لوقفات في المحافظات كتدريب وتجهيز لتحرك جماعي واسع. وبدأت بنفسي، فقمت بتنظيم وقفة في 24سبتمبر أمام الضرائب العقارية بالدقهلية. الأمن لم يعترضنا، ولكنه اشترط عدم ظهور الإخوان. وفي الوقفة حاول الإخوان حثي على الخروج للشارع بهدف مقابلة المحافظ. فاعترضت لأن مشكلتنا مع وزير المالية وليس المحافظ.

ويتلقف جمال الصادق طرف الخيط ويقول: عرفت باعتصام مأمورية الجيزة من زميل لي في العياط. ثم تشاورت مع زملائي بهدف تنظيم تحرك في محافظتنا. وقد كان، فنظمنا وقفة احتجاجية في 30 أكتوبر أمام مأمورية الضرائب العقارية. طبعا كان لابد من توفير انتقالات للموظفين من المراكز المختلفة. ولأن الحركة كانت مازالت غير مركزية، فقد جمعنا مبلغا من بعضنا البعض، ولكنه لم يكن كافيا. اللجنة النقابية حبت تركب الموجة، فساعدت في التمويل، خاصة بعد أن تأكدت أن الموضوع جد، وخافت أن تخرج السيطرة عن يدها. ولهذا كتبت الورقة التي تم توزيعها في الوقفة، ولو اطلعتم عليها ستجدونها مكتوبة بالطريقة المهادنة بتاعة النقابيين. وأثناء الوقفة بدأ أعضاء اللجنة النقابية في الهتاف للوزير ولإسماعيل عبد الرسول رئيس المصلحة. فخرجت أنا من وسط الناس وقلت أننا لم نتفق على ذلك، بل اتفقنا على التهديد بوقف التحصيل. فالتفوا حولي وأخذوني على مكتب المدير العام، تمهيدا لتسليمي لأمن الدولة كمحرض. إلا أن هذه الخطة فشلت. فقد ثار المشاركون في الوقفة الاحتجاجية وهددوا بأنهم هيبهدلوا الدنيا إذا أصابني أي مكروه. وهكذا اختفى النقابيون الخونة من المشهد بالتدريج.

وبعد ذلك توالت الوقفات في المحافظات: البحيرة، المنوفية، دمياط، الغربية. وفي أسوان قام الموظفين بتسليم القسائم (عدة الشغل) للإدارة، في إشارة لإضرابهم عن العمل. وهكذا انتقلت عدوى الاحتجاج لكل مديريات الضرائب العقارية.

الحشد

قال أبو عيطة: لم تكن فترة تعليق الإضراب فترة توقف ولكن فترة تنسيق. ساعد على تسهيل المهمة أننا لم نبدأ من الصفر، ولكن بنينا على تراث قديم. فمنذ بدأنا في إنشاء اللجان النقابية ونحن معتادون على عقد اجتماع شهري لأعضاء اللجان. فاتصلت بمن أعلم عنه أنه مستمر على عهده في الدفاع عن مصالح زمايله، واتصلت بخصوم النقابيين الذين باعوا القضية، وبمن رشح نفسه في الانتخابات الأخيرة وتم شطبه أو تجاوزه أو تزوير الانتخابات ضده. وكنت أسأل بعض معارفي في المحافظات عن شخص “جدع” في الضرائب العقارية واتصل به. ومن جانبها قامت العناصر النشطة فور نشر الصحف المستقلة لأخبار اعتصام مأمورية الجيزة بالاتصال بهذه الصحف والحصول على رقم تليفوني. وهكذا تمت آلاف الاتصالات.

ويكمل جمال الصادق الصورة، فيشرح طريقة التنسيق في المحافظات قائلا: خلال فترة المهلة كان هناك نوعان من التنسيق. ففي داخل المحافظات بدأت المأموريات تتصل بالعناصر النشطة في محافظتها. وفي نفس الوقت توافدت هذه العناصر إلى القاهرة لعقد اجتماعات، كان أولها في نقابة الصحفيين. تبادلنا أرقام التليفونات واتفقنا على أن يتحرك كل منا في محافظته بهدف تنظيم تحرك جماعي بعد المهلة.

ويعود أبو عيطة ليقول: لم يقف التنظيم النقابي هو الآخر ساكنا. فقد أخذ يبث إشاعات ضد الاعتصام، وبيانات تدعوا لعدم الاستجابة لـ”محترفي الفتن والبلبلة”، ومن جانبه بدأ الأمن في الاستدعاءات، التي تركزت في منطقة الصعيد حيث القبضة الأمنية حديدية. كما تم نقل بعض الموظفين. هذا بالطبع كان له تأثير، ولكن في نفس الوقت كان له رد فعل مضاد، حيث زادت هذه الممارسات من تصميم الناس على المقاومة.

لم الشمل

يتابع أبو عيطة: وفي 21 أكتوبر تحولت 300 مأمورية ضرائب و100 إدارة في كل أنحاء مصر إلى ثكنات عسكرية يحيط بها أفراد أمن من كل شكل لمنع الموظفين من الخروج والمشاركة في الاعتصام في القاهرة. وعلى الرغم من ذلك، وفي تمام التاسعة صباحا، كان أمام وزارة المالية 7000 موظف من موظفي الضرائب العقارية، جاء معظمهم في أتوبيسات من محافظات القليوبية والمنوفية والجيزة والمنيا وبني سويف والفيوم.

كان الوزير خارج مصر، فقابل ممثلي المعتصمين ممتاز السعيد مستشار وزير المالية ومدير المكتب الفني، الذي أكد أنه لا يملك اتخاذ قرار، ودعانا للهدوء وانتظار رجوع الوزير. المفارقة أنه حاول إقناعنا بأن الموضوع في يد رئيس الوزراء وليس وزير المالية.

عند خروج المفاوضين كان هتاف كريمة علوي “هنوردها خالية” بلهجتها الإقليمية يرج السماء. في ظل هذا الحماس رفض المعتصمون الرحيل وقرروا الذهاب إلى رئاسة الوزراء في مسيرة مسافتها 24 كم من العباسية إلى القصر العيني. حاول الأمن إقناع المعتصمين بركوب حافلات، إلا أنهم رفضوا ركوبها. أثناء المسيرة كان الأمن يغلق إشارات المرور حتى وصلنا إلى مجلس الوزراء، وهناك لم نجد من يقابلنا إلا موظف متواضع في مكتب الشكاوى. استشاط المعتصمون غضبا نتيجة الاستهتار الذي قوبلوا به، وأرادوا الاستمرار في اعتصامهم. ولكني وجدت أنهم كانوا في شدة الإرهاق نتيجة للمسيرة، فأقنعتهم بتعليق الإضراب حتى 3 ديسمبر، على أن نعلن في هذا التاريخ اعتصاما مفتوحا في مبنى الاتحاد العام للعمال حتى الاستجابة لمطالبنا. ولم يكن اختيار المكان له أي دلالة نقابية، ولكن لأن هذا المبنى ببساطة معمول من عرقنا.

ويكمل لبيب: فوجئنا بعد هذه الوقفة بصدور منشور من وزير المالية يخصص فيه 78 مليون جنيه – هي مجمل مطالبتنا – لديوان الوزارة ومكتبه. كان هذا مؤشرا للمعيار المزدوج الذي يتعامل به الوزير. أحسسنا أن مجهودنا يذهب لغيرنا ليس فقط في التحصيل، ولكن في الإضراب أيضا. ولقد استغلينا هذا المنشور أحسن استغلال: وزعناه على الصحافة والجمعيات الحقوقية والنقابات وكل ضابط كنا نراه في الشارع. وهذا خلق تعاطفا شديدا من جانب المجتمع والأمن مع قضيتنا.

حاولنا في البداية المتابعة مع مدير مكتب الوزير، وذهب وفد لمقابلته في 11 نوفمبر. ولكن الأمن منعنا من الدخول، وقال لنا أن الوزير ومدير مكتبه ليس عندهم وقت لمقابلتنا لانشغالهم مع صندوق النقد الدولي.

وكان لهذا التصرف أثر سلبي على لجنة التفاوض التي اجتمعت سريعا وقررت الرد. فبدلا من موعد 3 ديسمبر المقرر سابقا، قررنا تنظيم اعتصام مفتوح في مقر الاتحاد العام بتاريخ 13 نوفمبر.

درس الاتحاد

ويحكي كمال: في هذا التاريخ قام رئيس الاتحاد بقفل كل القاعات والمسجد، بحيث لم يبق لأكثر من ألف معتصم سوى الرصيف والسلم الرخامي. وطلب مقابلة وفد للتفاوض وطلب منا مهلة أسبوعين لعرض مطالبنا على وزير المالية، فرفضنا.

ومع ثاني يوم للاعتصام ظهر في المشهد رجال اللجان النقابية العملاء، وبدأوا في بث روح محبطة في المعتصمين، أتت ثمارها على الليل إذ لم يبق ليبيت في مقر الاعتصام سوى 60 شخصا.

الغريب أن التدخل الوحيد الذي قامت به وزيرة القوى العاملة في قضيتنا، هو الاتصال بزميلتنا ميرفت قاسم أثناء الاعتصام ونصيحتها بالانسحاب هي وبقية النساء “مش أصول تقعد النساء إلى جوار الرجال”.

ويكمل جمال: زادت الكثافة الأمنية. ولمحاربة مشاعر الخوف التي بدأت تنتشر بدأ مكرم في ترديد أناشيد حماسية، وجلس يغني “يا مصر عودي زي زمان”. كمال ومكرم رأوا أن نفض الاعتصام قبل أن يجبرنا الأمن على ذلك. أنا بكيت، والمخ الصعيدي ركب، وقلت اللي عاوز يروح يروح واللي عاوز يقعد معايا يتفضل أنا مش همشي ولو على جثتي.

وعن فض الاعتصام قال مكرم: في هذا الوقت كرر علينا مجاور عرضه عن طريق نائبه عبد الرحمن خير قائلا: “خلوني راجل، ما تبقوش قاعدين في بيتي، ومش عارف أخرجكم وتبقوا عاوزني أتفاوض باسمكم”.. فقال كمال لم اعترض على الفض، عبد الناصر قبل الهدنة ليس حبا في أمريكا وإسرائيل، ولكن ليتمكن من بناء حائط الصواريخ، وهذه ستكون خطتنا. وبذلك تم تعليق الاعتصام حتى 3 ديسمبر.

وتمت صياغة مذكرة تدل على الفروق المالية بين العاملين بالمحافظات والعاملين بديوان عام المصلحة وسلمناها لرئيس الاتحاد ليعرضها على الوزير، وطبعا لم نحصل على رد، وعرفنا إننا مسنودين على حيطة مايلة، فقررنا الاستمرار في معركتنا.

شارع حسين حجازي لك حبي واعتزازي

هكذا كان كمال أبو عيطة يحيى سكان شارع حسين حجازي الذي استضاف الاعتصام البطولي لموظفي الضرائب العقارية لعشرة أيام كاملة. ولكن للحكاية بداية، والبداية يحكيها الصادق فيقول: القلم الذي أخذناه في الاتحاد، علمنا أن القوة في الكثرة، ولذلك صممنا على العمل على تجميع أكبر عدد. كان كمال يتحرك بشرعية قيادته التاريخية، ومكرم يتحرك بشرعية عضويته النقابية، أما أنا فكنت بدون أي شرعية استند عليها أثناء عملية الحشد، ولذلك لجأت لجمع توقيعات زملائي على تفويض منهم بتمثيلهم.

وفي التاسعة صباحا كانت الأتوبيسات قد أحضرت آلاف العاملين إلى مقر رئاسة الوزراء. كانت الفكرة أن نتجمع هناك ثم نتوجه إلى مقر الاتحاد العام للاعتصام. ولكن مع انتصاف النهار وجدنا أنه من الأفضل استكمال الاعتصام في نفس المكان، فشارع حسين حجازي في وسط البلد والناس شايفانا والأمن أقل. وقد كان!

أثناء الاعتصام حدث خلاف بين القيادات بعد ما قابلنا الوزير في 9 ديسمبر (كان حاضرا اللقاء لواء من رئاسة الجمهورية ومقدم من أمن الدولة). عرض الوزير علينا مكافأة على عيد الأضحى، مع الوعد بالمساواة مع المصلحة على ثلاث مراحل تكون آخرها بعد صدور القانون الجديد. عن نفسي اقتنعت بكلامه، فقد كانت وقفتنا قد أدت لتسريع دخول القانون إلى مجلس الشعب بعد أن ظل مركونا لسنوات في درج زكريا عزمي. كما أدى اعتصامنا إلى فضح الريس في إسبانيا. وها نحن بعد سنوات من الإهمال استطعنا إجبار وزير أن يتنازل وأن يجلس مع موظفين، وهي خطوة كنت أرى أهمية تثمينها. مكرم اتفق معي، لكن كمال بحسه السياسي لم يثق في كلام الوزير، وقال نرجع للناس باعتبارهم أصحاب القرار، فرفضوا الفض.

ويكمل مكرم: منذ بداية الاعتصام تلافينا أخطائنا السابقة، ومن أهمها تناقص الأعداد. فكان يأتي عدد من كل محافظة ويستمر في الاعتصام لمدة يومين، ثم تأتي سيارة لتعود بهم إلى منازلهم وفي الوقت نفسه تحضر أشخاص آخرين ومؤن. ولكن بعد لقاء الوزير قررنا الحشد فاستدعينا زملائنا من المحافظات، وقلنا لمن لا يستطيع الحضور أن يعتصم بمأموريته. وبدأت أصوات الطبول تتعالى معلنة غضبنا.

وفي منتصف ليلة 12 ديسمبر اتصل بنا لواءات الرياسة الذين كانوا يرعون التفاوض وقالوا: الوزير وافق على القرار. استقبلنا الوزير في مقر معهد المحصلين والصيارفة الكائن بحلمية الزيتون وهو يقول “أهلا بكم في بيتكم”، في إشارة إلى ضمنا لوزارة المالية. وقال انه أصدر قرارا بمساواتنا بزملائنا في مصلحة الضرائب العقارية بالقاهرة اعتبارا من أول يناير المقبل. وكذلك صرف شهرين مكافأة على عيد الأضحى المبارك لجميع العاملين بالمصلحة والمديريات والمأموريات علي مستوي الجمهورية. واتفقنا على وضع الخطوط العريضة بين عيدي الأضحى والميلاد. وفي 23 ديسمبر قابلناه مباشرة لوضع الخطوط العريضة لطريقة الضم. فحصلنا على 50% جهود غير عادية و200% مكافئة تشجيعية. وهو ما اعتبره، جزء مهم، ولكن يظل مجرد جزء من مطالبنا.

لقطات من الإضراب

كانت المشاركة الواسعة لمئات السيدات في اعتصام العقارية، واحدة من أبرز مظاهر المعركة. بعضهن شاركن في الاعتصام نفسه، فبتن على الرصيف لعشرة أيام متوالية. ومن المشاهد المألوفة في الاعتصام حضور الأزواج بالأطفال إلى شارع حسين حجازي حتى تتمكن الأمهات من مساعدة أبنائهن في أداء واجباتهم المدرسية. كما انخرطت كثير منهن في تفعيل لجان الإعاشة، وبرزت من بينهن قيادات نسائية نشطة ممن شاركن في قيادة الاعتصام وقيادة الهتافات. وأجمع المعتصمون أنهم لم يهتموا أبدا بمسألة “ست وراجل”، كلهم كانوا واحد في مواجهة الظلم. كمال أبو عيطة قال: كانت نسبة مشاركة السيدات في الإضراب هي نسبة مشاركتهم في العمل وتزيد، وأعتقد أن الدور الفعال للمرأة يعود إلى إنها أكثر من يعاني من زيادات الأسعار، وهي المسئولة عن تدبير احتياجات البيت. وقال لبيب: الستات في الدقهلية كانوا القادة الحقيقيين للإضراب، حضر منهم من حضر إلى القاهرة، ومن لم تستطع الحضور كانت تحرض على الاشتراك في الاعتصام.

ولكن هذا لا ينفي أن بعض المعتصمين أجابوا عند سؤالهم عن أهمية مشاركة المرأة: “كانوا بيأكلونا ويشربونا ويعملوا لنا شاي وقهوة”!! الأهم أن كثير من السيدات لم يستطعن الاشتراك في الاعتصام رغم رغبتهن الشديدة في ذلك. لم يستطعن المشاركة لأنهن منعن من قبل الأهل أو رؤساء العمل، أو لأن مسألة البيات في الشارع كانت غير واردة أصلا بالنسبة لهن. بعض اللاتي يسكن في القاهرة الكبرى والمحافظات القريبة كن يحضرن إلى مقر الاعتصام في الصباح ثم يرجعن إلى بيتهن قبل وصول الزوج والأولاد.

ظهر الأمن خلال هذا الاعتصام بصور تبدو متناقضة. فأحيانا بدا متعاطفا “كان الضباط يقولون لنا بما أنكم وقفتم هذه الوقفة فاعملوا على أخذ حقكم بالكامل”، وكثيرا بدا محايدا وناصحا “المسألة لما تطول تصبح عادة وينتهي مفعولها”. لكن مع تطور الموقف وتصعيده كان الأمن يتدخل ويكشف عن وجه القمعي، فيهدد بالعصا الغليظة والاعتقال “نحن متعاطفين مع مطالبكم، لكننا موظفين، لو طلب منهم تصفية الاعتصام سننفذ الأمر”. لكن الانطباع العام عند غالبية المعتصمين، أن الأمن أفضل من التنظيم النقابي العميل، فهم وسطاء التفاوض ومن يقومون برعايته!!

ورغم الطابع الفئوي للاعتصام فقد شاهدنا بعض اللافتات تؤكد وحدة الهلال والصليب، كما جرى ترديد شعارات تحمل المعنى نفسه. وعلى المستوى العملي تجسدت هذه الوحدة في العلاقة الحميمة بين المعتصمين مسلمين وأقباطا.

لكن إذا نظرنا بعمق للصورة فلن نجدها بهذا القدر من الرومانسية. فأحد قياديي الإضراب في الأقاليم قال أن في بلدهم لا يبيع المسلم أرضا لقبطي خوفا من أن يبني عليها كنيسة. قالها وكأنها بديهية!

وعندما سؤال مكرم لبيب عن مشاكل قد يكون تعرض لها بسبب ديانته قال: لم أشعر بأي فرق إلا بعد مقابلة الوزير. كان المعتصمون قبلها يهتفون ويقولون: “أبو عيطة.. أبو لبيب.. كلمة حق مش هتغيب”، “كلمة قالها أبو عيطة وأبو لبيب.. مش هنمشي جنب الحيط”، “أبو عيطة.. أبو لبيب تحيا الهلال مع الصليب”. بعد القرار وعندما ذهبنا إلى نقابة الصحفيين، تم حذف “أبو لبيب” ومعه الصليب. وحتى ساعتها عندما أصر محمد عبد القدوس على سؤالي عن اللقاء مع الوزير، قلت أني أشعر بأني في مأزق وبأني أشعر لأول مرة أني مفاوض مسيحي مع وزير مسيحي.

والحق أن قضية “مسلمون في مواجهة أقباط” موجودة في مسام المجتمع في إطار أكبر وأوسع من إضراب الضرائب العقارية. مكرم لبيب أشار إلى هذا عندما تحدث عن الأسلمة التي تعيشها الدقهلية. لكن ما فعله الإضراب هو أنه أبرز أهمية وضرورة الترابط بين المسلمين والمسيحيين في المعركة ضد الظلم الاقتصادي. ما فعله ليس أنه أنهى المسألة، بل أنه أوضح أهمية حلها في إطار نضالي.

القيادة والتنظيم

كان وجود كمال أبو عيطة بحسه السياسي، ومكرم لبيب كنقابي حر، إلى جانب أشخاص تحركوا بضغط من المشكلة نفسها في مواجهة فساد النقابة لكسر سلبية وخوف زملائهم، أمرا جوهريا للانتصار في المعركة.

التدقيق في قيادات هذا الإضراب، قد يجعلنا نعيد النظر في الفكرة السائدة بأن كل من يقودون التحركات الجماهيرية الأخيرة، مجرد قيادات طبيعية، تحكمهم مطالبهم الفئوية دون خلفية سياسة. فكمال أبو عيطة غني عن التعريف. ومكرم لبيب كان نشطا في الحركة الطلابية في السبعينات وهو عضو مؤسس في حزب الكرامة ومعروف بقربه من التجمع لمساندته لرأفت سيف مرشح التجمع في دائرته. وجمال الصادق كان عضوا في منظمة الشباب. وهناك أعضاء في حزب التجمع مثل جمال عويضة عضو اللجنة المركزية للدقهلية، وصلاح عبد السلام، وهناك ناصريين ويساريين وإخوان. وفي مأمورية الواسطى ببني سويف ذكرت علية أبو بكر أنها حفيدة يوسف صديق وابنة أخت عبد القادر شهيب، وأنها مارست السياسة في شبابها، حتى أنها التحقت بالحزب الوطني، ولكنها استقالت لما اتضح لها عدائه لمصالح الجماهير.

نظم قيادات العقارية أنفسهم تحت اسم “اللجنة العليا للإضراب”. وعن تكوين هذه اللجنة وآلية اتخاذ القرار يقول كمال أبو عيطة: كنا نسأل عن أفضل العناصر في كل موقع. وأنشأنا ما أطلقنا عليه “تنظيم الغفر”. يعني كل مكان يطلع في الاعتصامات “غفير” يغفر زمايله، يكون حارسهم، يحصي من حضر وبالتالي يبلغ عن أي مكروه يصيب أحدهم. المسمى مستمد من تراث موظفي الضرائب العقارية. فمن المعروف أن الواحد من هؤلاء يسير بمرافقة غفير لحراسته في القرى ومع عسكري في القاهرة. وهكذا تم اختيار بضع مئات من “الغفراء”، راعينا أيضا في الاختيار التناقضات الثانوية مثل المرأة والرجل، المسلم والمسيحي والتنوع الوظيفي، فكان من بينهم الصيارفة والكتابيين ومأموري الضرائب والعمال. مجموعة الغفراء في كل محافظة قامت باختيار “شيخ غفر”، ومن هؤلاء تكونت اللجنة العليا للإضراب، التي تراوح عدد أعضائها بين 12 عضوا في البداية وصلوا الآن إلى 33 عضوا.

طالما كنا في طور الإعداد كانت اللجنة تقوم بالنقاش ووضع الخطط واتخاذ القرارات، وكذلك كانت تقوم بمهمة التفاوض. ولكن ما أن نكون بين الناس في وسط الاعتصام يصبحون هم أصحاب القرار. نخرج من التفاوض نطرح عليهم الفكرة ثم يكونون هم أصحاب القرار، بالتصويت. ليس هذا مهما فقط كتعبير عن الديمقراطية، ولكن عندما يخرج القرار من الناس تكون مستعدة لتنفيذه، وكسر القاعدة العريضة شديد الصعوبة بالنسبة للخصوم. ولكن إذا كانت القيادات بمفردها هي صاحبة القرار، يصبح من السهل كسرها أو تشويهها أو شراءها. الرجوع للناس كان أيضا يحل مشاكل تذبذب القيادة.

وعن دور “اللجنة العليا للإضراب” بعد تحقق الهدف المباشر للإضراب، قال كمال أبو عيطة: أمام هذه اللجنة في الحاضر والمستقبل عدة مهام: أولها مواجهة الإشاعات المضادة التي تنشرها الحكومة وعملاؤها، وتفيد بأننا لم نحصل على أي مكسب، وبأنه تم التنكيل بقيادات الاعتصام. والتفاوض من أجل وضع قواعد منصفة لصرف نسبة الـ250% الإضافية التي حصلنا عليها نتيجة للإضراب، خاصة وأن القواعد التي وضعتها المصلحة تحرم عمليا 90% من العاملين في الضرائب العقارية من هذه الحقوق، نتيجة لربطها بتقرير قياس الأداء والحصيلة. ثم النضال من أجل مساواتنا ببقية المصالح الإيرادية مثل مصلحة الضرائب العامة وضريبة المبيعات.

الخطوة الثانية هي الانتقال من المطالب الجزئية الخاصة بالمهنة، إلى العمل على مواجهة سياسات الحكومة الموجهة ضد موظفي الحكومة، كالبحث في أوضاع التأمين الصحي والتأمينات الاجتماعية ومواجهة قانون الوظيفة العامة وغيرها. ثم الانتقال إلى مطالب جموع العاملين بأجر في مصر؛ كضبط الأسعار وخوض معركة الحد الأدنى للأجور.

آمل في استجابة عموم موظفي العقارية لتطوير المطالب، خاصة وأنهم الآن أكثر حيوية بعد أن ذاقوا ثمرة نضالهم. وأرى الواقع يتحرك في هذا الاتجاه، ففي مؤتمر الأجور والأسعار الذي عقد في نقابة الصحفيين كانت غالبية الحضور من الضرائب العقارية. كما أنى أسمع الآن مبادرات تخرج من وسطهم تتجاوز المعارك المطلبية.

أما جمال الصادق فيطرح رؤية متشائمة: الدولة لن ترتكب نفس الخطأ مرتين، ولن تسمح أبدا باعتصام جديد، وستعمل بكل قوة على منع أي محاولة في هذا الاتجاه، ولقمعه بالقوة إذا لزم الأمر. ومن ناحية أخرى لن نستطيع تجميع الناس من جديد.

من ناحية أخرى شجع نجاح وكفاءة “اللجنة العليا للإضراب” بعض قياديي العقارية على الدعوة إلى تشكيل نقابة مستقلة يمكن أن تكون نواة ينطلق منها جموع العاملين بأجر في مصر لتشكيل نقاباتهم المستقلة. قال كمال أبو عيطة: وفقا للتعريف فإن النقابة هي التي تقوم بالدفاع عن العاملين وتعمل من أجل تحسين شروط العمل. العاملون في الضرائب العقارية خاضوا التجربة مع النقابات “الرسمية” لسنوات وعرفوا أنها لا تقف في صفهم. أثناء المعركة الأخيرة قامت اللجنة العليا للإضراب بالدور الحقيقي للنقابة، أي أنها أصبحت في عيون موظفي الضرائب العقارية النقابة “الحقيقية” التي تمثلهم. وهي فكرة يمكن أن تتكرر في مواقع أخرى ويمكن أن تصبح نواه لاتحاد مستقل. أنا غير مقتنع بالحاجة لتجميع اشتراكات. ويكفينا الاكتتاب، كما فعلنا من قبل، عند الحاجة.

جمال الصادق كان أكثر حماسا للفكرة وبدأ بالفعل خطوات تنفيذها حيث قال: لا بد أن ينصب تفكيرنا الآن على إقامة نادي للضرائب العقارية نجهض به النقابة العميلة ويكون بمثابة نقابة بديلة. كل ما علينا إيجاد مقر وأن نشهره في الشئون الاجتماعية. ولقد بدأت فعلا في التحرك في محافظة بني سويف.

أما النقابي المخضرم مكرم لبيب فقد بدا أكثر تحفظا: هي فكرة من حيث المبدأ صحيحة، ولكن لا يجب أن تؤخذ باستخفاف. فمن ناحية لن يسمح النظام بتنفيذها إلا بالدم، لأنه يعلم جيدا أن نجاح هذه الخطوة من قبل الضرائب العقارية، سيجعلها تتكرر في أماكن أخرى، وهو ما يعني نهاية هيمنة الاتحاد “الرسمي”، أي الأداة التي يسيطر بها على الحركة العمالية.

من ناحية أخرى عملية تجميع الموظفين عملية شديدة الصعوبة، فهم منتشرين في أرجاء الجمهورية، على عكس العمال الذين يعملون تحت سقف واحد. وهم ليسوا فقط متناثرين، ولكن أفكارهم أيضا متباينة. وطالما حصلوا على مصلحتهم المباشرة سيكون من الصعب إقناعهم بالتحرك من أجل مطلب أعلى. ولكن هذا ليس معناه إن الفكرة مستحيلة، كل ما في الأمر أنها تحتاج لنظام وعمل من نار، بعد ذلك لو وجدنا أن غالبية الناس موافقة على هذا المطلب، نحارب من أجله، ساعتها سترتفع إمكانيات تحققه. المهم أن لا نسعى وراء مطلب أعلى من الناس. لا نستعجلهم لكن دون أن نتركهم. فإذا كانوا الآن مرتاحين بعد تحقيق مطلبهم، لا بد وأن الأسعار ستكويهم غدا، وبالتالي سيرتفع سقف مطالبهم. أنا لا أريد أن أتمخض وألد فأرا. يعني أعلن النقابة – أو النادي أو الجمعية فالاسم غير مهم – بثلاثة آلاف عضو. لما لا أقوم بعمل جاد لحشد وتنظيم الموظفين، فأعلنها بـ60% من العاملين؟

كلام في السياسة

…: الضرائب العقارية من الممكن أن تكون نواة الثورة في مصر. ففي ظل انفلات الأسعار وتدني الأجور، تنفجر الآن الاحتجاجات الاقتصادية والاجتماعية في كل مكان، ولكن لا بد لهذه التحركات الجماهيرية من قيادة تتولى تنظيمها. ولكنها أيضا في حاجة لقوة تحميها من بطش الجهاز الأمني القادر على طحنها في أي وقت.

الشعور بالظلم أصبح الآن طاغيا.. البلد لازم تتغير.. لازم تتصلح.. فإلى متى سنصبر على مجموعة “النهيبة” في السلطة؟ ولكن السؤال الأهم هو: من هي القوة القادرة على القيام بتغيير يكون في صالح الجماهير؟ هل هو الوريث؟ رجال الأعمال؟ الجيش؟ الإخوان المسلمون بتطرفهم؟ المثقفون الذين لا حول لهم ولا قوة؟ المفكرون؟ لا أعلم فأنا تائه..

….: نحن نعيش في دولة بوليسية عسكرية. في الأغلب ستعمل في الفترة القادمة على قمع الاحتجاجات. لكن الناس أصبحت في الشارع. والتغيير قادم قادم. الشاطر هو من يكسب الشارع، وكل أملي أن يقوم بذلك من يسعى لمصلحة الجماهير وليس من يهدف إلى إقامة دولة دينية.

….: البلد بلدهم وإحنا راضيين بكل اللي يعملوه.. طول عمري خايفة .. حركة التغيير خوفتني أكثر.. خفت لما عرفت إنهم ضربوا الصحفيات وقلعوهم هدومهم.

….: السياسة لها ناسها.. وهي الناس اللي تحركت وصلت لإيه؟

….: الوضع لا يمكن يستمر. الحكومة لازم كلها تتغير.. المهم ميشيلوش أحمد ويجيبوا الحاج أحمد.. لكن الناس ديه هيطلع منها حد نضيف إزاي؟.. دول عاملين زي المماليك؟

….: وضع البلد لا يمكن السكوت عليه.. الساكت عن الحق شيطان أخرس.. الناس بتموت نفسها علشان رغيف العيش.. أنا بسأل نفسي هو الناس ديه ما بتتحركش ليه؟

….: إحنا تحركنا على مطالب اقتصادية.. والاقتصاد سياسة.. الإخوان حاسين بنبض الناس، لولا الحكومة كانت الناس كلها مشيت وراء الإخوان.

… كلمات كتلك، ومشاهد المحتجين وهم في غضبهم أمام الشركات، أو مبنى الاتحاد العام، أو أمام مجلس الشعب، أو الهيئات الحكومية، وقدرتهم في النهاية على تحقيق مطالبهم، تبين كيف يمكن أن يصنع الغضب التغيير!