مأزق الوضع العمالي الراهن
إن محاولة فهم الوضع العمالي الراهن من حيث ملامحه ومأزق طبيعة النضالات وقسمات هذا النضال.. لابد وأن يسبقه فهم لطبيعة التحولات الاقتصادية والاجتماعية وآثارها المختلفة على الطبقات الاجتماعية وفي القلب منها الطبقة العاملة باعتبارها الطبقة التي لابد أن تلعب دورًا قياديًا لمجمل الطبقات، وبالتأكيد فإن الطبقة العاملة حينما تدافع عن مصالحها فإنها عن مصالح مختلف الطبقات والفئات المضطهدة.
وإذا كان النظام الرأسمالي الحاكم في مصر يعلن أن ما يتخذه من إجراءات وسياسات يعد “إصلاحًا اقتصاديًا” فإن الواقع والممارسات توضح أن طبيعة هذا الإصلاح ليست سوى توفير المناخ الملائم للاستثمار عبر إعفاء الرأسمالية ممثلة في كبار رجال الأعمال من كافة الالتزامات الاجتماعية والاقتصادية عبر سياسة الإعفاءات الجمركية والتسهيلات بالإضافة إلى خفض تكلفة الإنتاج على حساب الطبقة العاملة والاحتياجات الاجتماعية والبيئية، وتسخير المؤسسات السياسية والأمنية والإعلامية لخدمة الرأسمالية ورجال الأعمال.
وتعبر سلسلة التشريعات والإجراءات منذ الإعلان عن سياسة “تحرير الاقتصاد” قبل ثلاثين عاماً عن طبيعة هذا “الإصلاح” وتعد من أبرز هذه التشريعات قوانين استثمار رأسمال العربي والأجنبي 43 لسنة 1978، وتعديلات قانون الاستثمار، وقانون طرد الفلاحين من الأرض، وقانون العلاقة بين المالك والمستأجر في الأماكن غير السكينة، وأخيراً قانون ضريبة المبيعات والذي أثار احتجاجاً واسعاً وسط التجار.
ولا تعبر هذه الحزمة من التشريعات عن حجم الاضطهاد والاستغلال الواقع على كاهل الطبقة العاملة والفقراء وصغار الملاك إذ ليتجاوز هذا الاضطهاد كثيراً حتى القوانين التي تشنها الرأسمالية ويسبقها دائمًا، وعلى سبيل المثال فقبل سن قانون الإيجارات الزراعية وتطبيقه اتبعت العديد من الإجراءات التي ساهمت في تدهور مستوى معيشة فقراء الريف، وحتى الآن لم يصدر قانون صريح بإلغاء التعليم المجاني وتكلفة العليم الفعلية تتجاوز حتى حدود التعليم الخاص وإلى الآن لم يصدر قانون العمل الموحد ويجري تسريح المئات من العمال بشكل شبه يومي من القطاعين الخاص والعام.
وتتجاوز ظروف العمل في شروطها السيئة خاصة في القطاع الخاص حتى الشروط التي وضعها قانون العمل الموحد، لذا فإن الإطار التشريعي لا يعبر سوى جزئياً عن حجم الاضطهاد والاستغلال الواقع على الكادحين وإن كان يعبر بشكل فاضح عن طبيعة النظام، وحجم الدعم الموجه للرأسمالية.
وإذا كانت سياسة “الخصخصة” هي الأبرز إعلاميًا وتدخل ضمن حزمة السياسات السابق الإشارة إليها ولا تعتبر تحولاً من نظام اشتراكي إلى نظام رأسمالي كما تحاول دعاية الرأسمالية أن تصورها بل تعد نقلاً لملكية رأسمالية الدولة إلى رأسمالية الأفراد وذلك بطرح عددًا من شركات القطاع العام والهيئات الاقتصادية للبيع للأفراد وبالتأكيد يثار عددًا من التساؤلات سوف تؤدي بالضرورة إلى عدد من الاستخلاصات.
أول هذه الأسئلة هي هل الرأسمالية المصرية قادرة على شراء تلك الأصول؟ وأي إجراءات سوف تتبع في حالة عدم البيع الشراء؟!! وما الآثار المترتبة على تلك السياسة اقتصاديًا واجتماعيًا؟
إن الحقائق والأرقام تقول أن القطاع العام كان به 314 شركة موزعة قيمتها كالآتي:
– القيمة النقدية حتى 30 يونيو 1995 88 مليار جنيه.
– 43 هيئة اقتصادية قيمتها 210 مليار جنيه.
– بنوك القطاع العام وشركات التأمين 120 مليار جنيه.
– 83 هيئة خدمة قيمتها 85 مليار جنيه.
– الشركات المشتركة 110 مليار جنيه.
– القيمة الإجمالية الدفترية 613 مليار جنيه.
– القيمة السوقية لشركات قطاع الأعمال العام بعد خصم الديون 160 مليار جنيه.
هذا بالإضافة إلى تقديرات البنك الدولي والخاص بقناة السويس والشركة العامة للبترول 187 مليار جينة.
إن قراءة هذه الأرقام لأي محلل اقتصادي تؤكد أن الرأسمالية ليست فقط غير قادرة على شراء القطاع العام ولكنها أيضًا ترى بشدة عدم جدوى ذلك، فما الذي يدفع رجل أعمال لدفع هذه المبالغ الطائلة في وحدات إنتاجية تفتقد للتقنية الحديثة ومكبلة بهيكل بيروقراطي ومحملة من وجهة نظر الرأسمالية بأجور العمال الضخمة فضلاً عن امتلاك هؤلاء العمال لتراث نضالي لا يستهان به، في جين إنه يستطيع تحقيق أرباح أكثر بنفس الأموال في المدن الجديدة مستفيدًا من الإعفاءات والتيسيرات والأهم من ظروف العمل في القطاع الخاص. خاصة وأن الاسم التجاري لشركات القطاع العام ليس منافسًا قويًا في السوق بعد فتح الأسواق للاستيراد، وهنا يظهر الدور الحقيقي لدولة رجال الأعمال فالدولة لم تقم أبدًا بدور البائع لوحدات القطاع العام الذي يطرح الشركات للبيع بسعر يعبر عن قيمتها، ولا حتى الوسيط المحايد بين الخزانة ورجال الأعمال ولكن ظهرت كممثل مباشر لمصالح رجال الأعمال أولاً بتهيئة الشركات لرجال الأعمال بوقف التعيينات من نهاية الثمانينات ثم بالمعاش المبكر، ثم بخس هذه الشركات لأقصى درجة ممكنة، إن عملية الخصخصة لم تكن عملية إصلاح للاقتصاد أو مجرد ملكية وفقًا للقواعد الاقتصادية ولكنها كانت عملية سياسية هدفت إلى تمكين رجال الأعمال (الرأسمالية) من السيطرة على القوى الإنتاجية وإزاحة المدراء والبيروقراطية التي لم تستطع التكيف مع الوضع الجديد، عبرت عن ذلك المتغيرات التالية في الحكومة من عاطف صدقي إلى الجنزوري إلى عاطف عبيد، أي من البيروقراطي إلى رجل التخطيط إلى التاجر والفريسة المفترضة بالطبع هي الطبقة العاملة التي عليها أن تخضع لشروط الواقع الجديد وتتنازل عن كل مكاسبها وحقوقها لدعم هيمنة رجال الأعمال سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأبرز الأمثلة على ذلك:
1- باعت الحكومة شركة المراجل البخارية للرأسمالية الصهيوني روبرت مادي بمبلغ 17 مليون دولار.
حسب تقييم كتب استشاري أمريكي “بكتل” فبينما قدرت قيمة الأرض 31 فدان على النيل مباشرة أمام المعادي بمبلغ 400 مليون جنية ومخزون راكد قيمته 100 مليون جنية كما قامت الشركة بإجبار 200 عامل على الاستقالة ووضع لائحة جزاءات تبيح فصل العمال لأتفه الأسباب. “ملحوظة: لقد تم تطبيق قانون العمل قبل أن يصدر”.
2- شركة بيبسي كولا كانت تملك 8 مصانع 18 خط إنتاج وأسطول من السيارات للتوزيع ويبلغ سعر الأرض في مصنع واحد تابع للشركة في شارع الهرم ما يزيد على بيع الشركة كلها (الأهرام 5/2/1999).
ورغم أن البيع قد تم بمبلغ 153 مليون جنية أستقطع المالك 11 مليون جنية من مرتبات العمال منذ عام 1994 بدعوى تمليكهم 10 % من أسهم الشركة إلا أن العمال لم يحصلوا على أي عائد من أرباح الشركة كذلك تم الاستغناء عن عدد كبير من العمال.
إن هذه التحولات الاقتصادية والتي تهدف بدرجة كبيرة إلى الاندماج بالاقتصاد العالمي عبر دعم هيمنة الرأسمالية وإنشاء سوق حرة للعمل قد اتسمت بعدد من القسمات نلخصها فيما يلي:-
1- تكثيف استغلال العمال: فالرأسمالية المتخلفة المأزومة لا تجد لها ميزة تنافسية في السوق العالمي سوى قدرتها على تخفيض أجور العمال وزيادة ساعات العمل وإلغاء الكثير من المزايا والحقوق للعمال في محاولة للوصول بتكلفة المنتج للتكلفة العالمية.
2- تعاظم الاستبداد السياسي: ومن المؤكد أن تلك السياسات تستدعي سحق أي مقاومة لها من جانب الطبقة العاملة والفقراء الذين لن يباركوا بالطبع العصف بمستويات معيشتهم لذلك فالوجه السياسي لهذا الاتجاه الاقتصادي (والذي يسمى الليبرالية) ليس سوى الديكتاتورية التي نراها أمامنا كل لحظة، فإجراءات تحرير الاقتصاد تحتاج بشدة إلى قانون الطوارئ ومحاصرة الأحزاب وتدجينها وقمع الصحف وتعيد إصدارها وفض الإضرابات والاعتصامات بقوات الأمن إلى آخر مظاهر الاستبداد السياسي فالدولة الرأسمالية تبدأ هجومها على الكادحين بمحاولة سلبهم قدرتهم على الدفاع.
ولكي يضمن النظام الرأسمالي الحاكم في مصر تنفيذ تلك الروشتة من السياسات لجأ إلى عدد من الإجراءات كمحاولة لتفتيت مقاومة العمال منها تأسيس اتحاد الملاك المساهمين، وتعديل قانون النقابات العمالية 35 لسنة 1976 لتكريس هيمنة القيادات النقابية الصفراء على التنظيم النقابي القائم لأطول فترة ممكنة.
المعاش المبكر:
تقر دراسة أمريكية عن التجربة المصرية قدمت إلى مؤتمر للبنوك الأمريكية في منتصف عام 1989 أن الخصخصة بالنسبة لكثير من صانعي القرار والمثقفين وقادة العمال والعاملين في دول العام الثالث تعني سيادة الرأسمالية الاحتكارية والعودة إلى عهد الاستعمار “لذا كان هناك ضرورة إلى أن يلقي للعاملين بجزء محدود من الملكية لتقليل مقاومتهم السياسية لعملية الخصخصة” كما أن الفكرة التي كانت وراء مشروع المعاش المبكر هي، من وجهة نظر الرأسمالية، “أن العمال يشكلون عبئًَا على تكلفة الإنتاج والضرورة تقتضي التخلص من جزء من تلك العمالة.. وهي عمالة قضت في الخدمة عمراً طويلاً وعاصرت نضالات عمالية وذات خبره.. وبالرغم من أن المعاش المبكر يشكل كارثة بكل المقاييس لأصحابه من زاوية وللمجتمع من زاوية أخرى بزيادة جيش البطالة، فحجم التعويضات الهزيلة التي حصل عليها العمال تبخرت بفعل تلبية احتياجات لم تكن أجورهم تستطيع تحقيقها.. بل إن وهم الحصول على عمل بعد الخروج على المعاش المبكر لم يتحقق.
والسؤال الأكثر أهمية في نضالنا هذا هو دور المقاومة العمالية؟ وما قسمات وملامح المقاومة وحجمها؟ وما هو الوضع الراهن؟
بالتأكيد أن نضالات العمال لم ولن تتوقف ولكنها تأخذ أشكال مختلفة حسب ظروف وملابسات الصراع الطبقي ويتمحور نضال العمال في القطاع العام منذ منتصف الثمانينات وحتى الآن حول الدفاع عن الأجور المتغيرة “الحوافز – البدلات المزايا العينية” التي تعرضت لهجوم شرس من إدارات الشركات كما إنها تأخذ في أغلب الأحوال طابعًا عفويًا وتتم في غيبة التنظيم النقابي بل وفي الأغلب فإن التنظيم النقابي غالبًا ما يقف في مواجهة الاحتجاجات العمالية.
أما نضالات عمال القطاع الخاص فإنها تتمحور حول “إغلاق المصانع – تأخر صرف الأجور – زيادة ساعات العمل”. ولقد شهد النصف الثاني من العام الماضي ما يقرب من 66 احتجاجًا. منهم 9 إضرابات 7 اعتصامات 10 مظاهرات نفذها عمال القطاع الخاص. كما شهد القطاع العام ما يقرب من 26 احتجاجًا (6 إضرابات 10 مظاهرات 10 اعتصامات). هذا بخلاف الشكاوي التي تصل إلى وزارة القوى العاملة والتي بلغت في النصف الثاني من عام 2000 ما يقرب من 6 آلاف شكوى. كما شهد نفس العام دخول قطاعات جديدة إلى دائرة الاحتجاج كسائقي السرفيس وتجار الموبيليات بكفر صقر. كما أن هناك ظاهرة لا يجب إغفالها وهو تعثر ما يزيد عن 800 منشأة في المدن الجديدة هذا بخلاف حالات الإفلاس والإغلاق لمصانع النسيج في شبرا الخيمة والمحلة وتشريد عمالها.
يبقي بعد ذلك السؤال الأهم وهو ما هو مأزق “الوضع العمالي” الراهن؟. وما هو واجبنا النضالي والمهمات المطروحة أمامنا للبناء على أرض الواقع؟
أن الوضع العمالي الراهن يعاني فراغًا تنظيميًا فالنقابات بوضعها الراهن لم تعد تعبر عن الهموم ومصالح الطبقة العاملة بل هي تقف وبشكل عدائي في مواجهة الاحتجاجات العمالية وتعمل بأوامر من الحكومة وتوجيهاتها.. ولذلك فإن الدعوة إلى التعددية النقابية باعتبارها أحد قسمات الحريات النقابية لم تعد ترفًا نظريًا تتداوله مجالس المثقفين بل يجب أن يتحول من مرحلة الشعار إلى مرحلة النضال على أرض الواقع، واعتبار ذلك عملية نضالية وتاريخية، قد تمتد طويلاً ولذلك فإن الانتخابات النقابية العمالية القادمة سوف تكون فرصه مواتية للتأكيد على شعار “تحرير النقابات من القيادات النقابية الصفراء”.. كما أن معركة قانون العمل الموحد هي أيضًا فرصة مواتية لشن أوسع حملة ضد القانون الكارثة وذلك بحشد وتعبئة وتنظيم الطبقة العاملة في مواجهة ضد القانون لهذا فإن الوضع الراهن يفرض علينا واجبًا نضاليًا عبر مهمات محدودة تتلخص في الآتي:
أولاً: الارتقاء بالوعي النقابي والسياسي للطبقة العاملة وذلك بخلق أدوات دعاية تستند إلى العلاقة المباشرة بجماهير العمال في المصانع من خلال انتشار ظاهرة النشرات المصنعية والنشرات العامة في المناطق العمالية.
ثانيًا: خلق ركائز تنظيمية في المصانع “لجان العمال – لجان المسئولون النقابيين” وكذلك ركائز تنظيمية في المناطق العمالية باعتبارها أشكال انتقالية ووسيطة للتنظيم لأنه بدون هذه الأشكال سوف تظل نضالات العمال مجزأة وأسيرة النزعة الاقتصادية.
ثالثًا: الالتحام بمعارك الطبقة العاملة ومحاولة تطويرها دون الاكتفاء بالإشادة بهذه النضالات، وتقديم كافة أشكال المساعدة لها ومحاولة تثبيت أدوات وآليات النضال التي تبرز خلال المعارك العمالية والاستمرار بها مثل البيانات واللجان والنشرات وصناديق التضامن، فما تخلقه الطبقة العاملة من أدوات للنضال خلال معاركها هو المكسب الحقيقي، والأبقى من النضال وهو الطريق إلى تطوير الحركة العمالية.
يبقى أن نقول إنه منذ بداية مشروع الخصخصة لم تتوقف الطبقة العاملة عن المقاومة وأغلب الشركات التي تم بيعها صعد عمالها من نضالهم في وجه الظروف الجديدة مثل المراجل والماكو وبيبسي كولا وأسمنت بني سويف وقنالكترون الخ. وبالفعل عانت هذه المقاومة العمالية الجسورة من القمع البوليسي من ناحية ومن ناحية أخرى عانت من طبيعتها العفوية. ولكن أهم ما افتقدت إليه الحركة العمالية رغم زخمها في تلك الفترة هو القلب المظم الذي يستطيع أن ينظم عفوية الحركة وينتقل بها إلى مرحلة أرقى في الصراع الطبقي وهنا يظهر النقص الأفدح في الحركة العمالية. فالتنظيم النقابي مدجن وخاضع للدولة والأحزاب أسوأ حالاً من النقابات، والصحف مقيدة والحركة السياسية ككل لا ترقى أبدًا لأن تشكل القلب المنظم للنضال الجماهيري، والعمالي بالطبع، لذا فإن أهم دور ينبغي القيام به الحركة الجماهيرية والعمالية هو انتزاع ذلك القلب المنظم (وليس افتعاله أو إقحامه على الحركة).
إن الحركة العمالية تعزز في كل معركة من معاركها بوادر تنظيمها الذاتي وهو ما ينبغي التمسك به وتطويره وصقله بالخبرات والوعي ودعمه بأدوات النضال، حتى يمكن تطوير قلب منظم للحركة من داخلها يستطيع أن يقودها من العفوية إلى التنظيم المصنعي إلى الصراع الطبقي.