من واقع نقابة أطباء مصر
عن العمل النقابي والعمل السياسي.. التدخل والتداخلات

نتيجة عبث أطباء الإخوان في نقابة الأطباء لسنوات طويلة، واستخدامهم تلك النقابة كأداة لخدمة مصالح فصيلهم السياسي بشكل مباشر بما يتناقض مع مصالح الأطباء، نجد الآن شعارا شائعا يرفعه العديد من الأطباء، وهو: “لا لتسييس النقابة”، وهو شعار فرضته جرائم الإخوان في النقابة، ولكن بهذا الصدد يجب توضيح العديد من الأمور، ومنها الفرق بين التدخل السلبي للعمل السياسي في العمل النقابي والتدخل الإيجابي، والتداخلات بين الإثنين حتى لا تختلط الأوراق:
أولا: هناك تداخل كبير بين العمل النقابي والعمل السياسي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الفصل التعسفي بينهما كما يريد البعض، لأن النقابة وقتها سوف تفقد قيمتها تماما كأداة يمكن أن تُحسن ظروف العامل والعمل، وتتداخل السياسة مع العمل النقابي في نقاط كثيرة، بدءا من حق التنظيم النقابي وشكله وقواعد تمثيله للعاملين ومساحة الحريات النقابية وقوانينها التي تُقَر من السلطة التشريعية، وكلها أمور سياسية بحتة تحددها سياسات الدولة وتوجهاتها، مرورا بكون أجور العاملين تحددها قوانين الدولة وسياساتها مثل: قانون الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور، والصناديق الخاصة ووضعها وكيفية توريدها للدولة أو توزيعها في مكان العمل، وحتى توزيع ميزانية الدولة نفسها بين الوزارات والهيئات المختلفة، وهي أيضا أمور سياسية تماما.
يحاول النقابيون تحسين أحوال زملائهم وظروف عملهم من خلال النقابات بالضغط على صناع القرار في الدولة لتحسينها، وأعتقد أننا كأطباء نتذكر مبادرة الدكتور حسين زايد، عضو مجلس الشورى قبل حلِّه عن حزب الوسط في بورسعيد، لعرض كادر الفريق الطبي على مجلس الشورى وقتها، وهذا تدخل سياسي بامتياز، ولكنه تدخل إيجابي لصالح المهنة عكس ما كان يقوم به أطباء الإخوان في النقابة من تدخل سياسي سلبي في العمل النقابي، مثل كسر إضراب الأطباء أثناء وجود مرسي في الحكم حتى لا يضغط الأطباء على حكومة الإخوان من أجل تحقيق مطالبهم وتحسين ظروفهم وإصلاح منظومة الصحة، وهو ما يعد خيانة لمهنتهم وخدمة لتيارهم السياسي على حساب مصلحة زملاء مهنتهم، وهو التسييس المذموم للنقابة.
ثانيا: يجب عدم الخلط من جهة بين الدعم المذموم (بل والمرفوض) للنقابة لموقف سياسي محدد، مثلما فعلت من قَبل نقابة أطباء مصر مقر الإسكندرية من توزيع منشورات وتعليق لافتات عليها شعار النقابة ودعوة صريحة منها للتصويت بنعم للتعديلات الدستورية في استفتاء مارس 2011، وهي تعديلات دستورية لا تصب في صالح الأطباء ولا منظومة الصحة بأي حال من الأحوال، ولكن كانت الدعوة بالتصويت بنعم نابعة من كون الأطباء الذين كانوا يديرون النقابة وقتها ينتمون لتنظيم الإخوان المسلمين الذي كان يدعو الشعب للتصويت بنعم، وبين الدعم الإيجابي للقوى السياسية والأحزاب للنقابة من جهة أخرى من خلال تأييد مطالب أعضائها خاصة السياسية منها عندما تتوافق هذه المطالب مع برنامجها وأفكارها، مثلما حدث من عدة أحزاب وحركات أيدت إضراب الأطباء الذي بدأ في 1 أكتوبر 2012، والذي كانت إحدى مطالبه الثلاثة رفع ميزانية الصحة لتصل لـ 15% من الموازنة العامة للدولة، وهو ما سوف يُصلح المنظومة الصحية من خلال تحسين أحوال المستشفيات والخدمات الصحية المقدمة من خلالها وأحوال العاملين بها.
ثالثا: إذا كنا نعيب على الإخوان استخدام النقابة كأداة لخدمة فصيلهم السياسي من خلال عرقلة إضراب الأطباء المُطالب بحقوقهم وإصلاح منظومة الصحة، فهل إذا استخدم أطباء (يجمعهم معاداة الإخوان وتأييد الحكم العسكري القابع بالسلطة الآن) النقابة من أجل تهدئة حراك الأطباء، من خلال عرقلة الخطوات الاحتجاجية الهادفة لتحقيق مطالبهم الآن وتخفيف الضغط على الحكومة، أليس هذا تسييسا مذموما للنقابة حتى لو لم يكن يجمع هؤلاء الأطباء انتماء سياسي محدد من حزب أو خلافه؟!.. الإجابة بالطبع نعم، فهذا يُعَد تسييسا أيضا، وتدخل سياسي سلبي في العمل النقابي لم يضع مصلحة المهنة وأفرادها في النصاب الأول.
رابعا: ليس معنى أن الطبيب له اتجاه أو انتماء سياسي وأيديولوجي محدد أنه سوف يستخدم النقابة ضد صالح المهنة والعاملين بها، فالطبيعي أن تكون لكل إنسان أفكار معينة يؤمن بها ويدافع عنها، بل إنه من المستحسن أن يكون الفرد جزءا من حزب أو حركة سياسية تحمل أفكاره ويعمل على تحقيقها من خلاله، ولكن التناقض يحدث عندما تتعارض مصالح الحزب أو الحركة مع مصالح المهنة، فيقع النقابي في الاختيار الصعب بين الإثنين وإلى أيهما ينحاز؟ هل يخون زملاءه الذين انتخبوه ممثلا لهم، أم يخون حزبه السياسي وأفكاره؟، ذلك التناقض الرهيب بين العملي والنظري، ولكني أجزم أن مثل هذا التناقض يمكن ألا يكون موجودا إذا كان النقابي ينتمي لحزب أو حركة أفكارها ببساطة هي الانحياز لكل الكادحين في كل المهن، أي أن اختياره الأول دائما هو نصرة عموم زملائه المسلوبة حقوقهم، وفي هذه الحالة سوف يكون مجهوده مضاعفا، لأن الأفكار التي يؤمن بها ويحارب لتحقيقها سياسيا في المجتمع ككل تسير في نفس اتجاه تحسين ظروف واقعه المهني والاجتماعي، وسوف يكون المجهود مضاعفا أكثر وأكثر إذا كان السقف الذي يطمح له الفرد من خلال العمل السياسي من إنهاء تام للظلم والاستغلال الاقتصادي يفوق بمراحل المساحة المحدودة للعمل النقابي، التي تتلخص في مجرد تحسين ظروف العمل وتقليل الاستغلال وليس إنهاءه، فالنقابات إصلاحية كما نعلم، وتهدف إلى تحسين الأجور وليس إلى إنهاء العمل المأجور، وسوف يكون المجهود أكثر تأثيرا وفاعلية عندما يعطي الانتماء الفكري والسياسي للنقابي الأدوات التي تعينه على تحليل الواقع ومواجهته بشكل أكثر فاعلية، سواء كانت هذه أدوات نظرية أو خبرات أو أفكار تنظيمية أو دعم إعلامي وسياسي.
خامسا: يجب أن تقف النقابة دائما وراء الأطباء، وأن تدافع عن حقهم في حياة كريمة، وفي العيش بكرامة وحرية دون أي امتهان لهم، ويجب أن يكون ذلك لجميع أعضائها، وليس بشكل انتقائي حسب التوجه السياسي، وهو عكس ما تقوم به النقابة العامة للأطباء حاليا التي يسيطر عليها أطباء الإخوان، فتساند فقط الأطباء والنقابيين الإخوان المحتجزين في سجون السلطة، والأزمة ليست في مساندة أطباء الإخوان فمساندتهم واجبة على النقابة، بل القصور في أنها لم تقم بنفس الدور عند احتجاز الأطباء من غير الإخوان المسلمين، مثل الزميل الطبيب أحمد الفراش عضو حركة الاشتراكيين الثوريين في المنصورة، الذي تم إحتجازه ووجهت النيابة له تهمة توزيع منشورات وتكدير الأمن العام، وغيرها من التهم التي تقمع الحريات العامة والحريات السياسية لأي فرد، ومثل هذه المواقف تكشف أن تدخل النقابة العامة للإفراج عن الأطباء المحتجزين يحدث لأنهم ينتمون لنفس التيار السياسي الذي ينتمي له أغلبية مجلس النقابة، فهو لذلك تدخل من منظور سياسي وليس من منظور نقابي وهو أمر مرفوض، وليس الأطباء الإخوان وحدهم هم من يقع في هذا الخطأ، فهناك أيضا الأطباء الذين يقفون في الجانب المؤيد لحكم العسكر، أو الجانب الذي يرفض انتقاد حكم العسكر حاليا، فهم يرفضون وقوف النقابة مع أطباء الإخوان المحتجزين فقط لأنهم إخوان.
سادسا: يجب أيضا على النقابة أن تقف في وجه السلطة السياسية والتشريعية كلما كان ذلك واجبا، وأن ترفض أية قوانين أو تشريعات أو حتى مواد دستورية من الممكن أن تضر بالمهنة أو العاملين بها، وأقرب مثال على ذلك المادة التي تتيح المحاكمات العسكرية للمدنيين والتي وافقت عليها لجنة الخمسين التي كان الدكتور خيري عبدالدايم، نقيب أطباء مصر، أحد أفرادها، ولم يعترض سيادة النقيب على هذه المادة رغم اكتواء العديد من أطباء مصر بنارها، وأشهرهم أطباء مستشفى العريش خلال الشهور الأخيرة الماضية، ومن يرددون أن هذه مادة سياسية وليس لنا شأن بها، منظورهم النقابي محدود، وهم بالتأكيد مقصرون في حق من انتخبوهم.
من خلال النقاط السابقة تتضح أهمية التفرقة بين تسييس النقابة بحيث تكون أداة لخدمة فكرة أو معاداة فكرة سياسية بعينها بما يتعارض مع صالح المهنة وعموم العاملين بها، وبين التدخل السياسي المحمود في العمل النقابي الذي يصب في صالح النقابة وأعضائها من منظور نقابي، وكذلك يتضح تداخل العمل النقابي مع السياسة، وهو تداخل مفروض بالضرورة لأن السياسة تتدخل في كل شيء في حياتنا، والنقابة هي أداة لتحسين أحوال المهنة وظروف حياة أصحابها في مواجهة أصحاب العمل وصناع القرار السياسي.