بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

نريدها ديمقراطية عقارية!

من بين الجوانب الملحمية الكثيرة لاعتصام موظفي الضرائب العقارية هناك ملمح ظهر بوضوح خلال الإعتصام ولعب دورا كبيرا في نجاحه مما جعله جدير بالمناقشة والدراسة، ذلك الملمح الخاص بطريقة إدارة وتنظيم اعتصام بهذا الحجم والاتساع لفئة من موظفي الدولة المنتشرين في جميع محافظات الجمهورية تقريبا، فعلى أبواب رئيس الوزراء الذي وصف المصريين بعدم النضج للممارسة الديمقراطية في تبريره لتمديد نظام مبارك قانون الطوارئ لثلاث سنوات قادمة، أعطى موظفو الضرائب العقارية درسا غاليا في ممارسة الديمقراطية ليس فقط لديكتاتورية مبارك وحكومته، ولكن أيضا لكل الذين لا يثقون في قدرة جماهير الكادحين على إدارة شئون حياتهم بإرادتهم الحرة المباشرة.

الحكومة العقارية الديمقراطية!

كانت البداية توحي بشيء جديد يتبلور، فمنذ الاعتصام الأول لموظفي الضرائب العقارية بالجيزة في أكتوبر الماضي اكتشف الموظفون أنه بدون إدارة جماعية تنظم حركتهم وتدفعها للأمام لا مستقبل لهذه الحركة، نظرا لخصوصية وضع الموظفين، فهم منتشرون في أماكن مختلفة بمديريات الضرائب العقارية في كل محافظات مصر، لكن على قدر التشتت الجغرافي إلا أن وحدة البؤس والفقر الذي يعانون منه جميعا خلقت فكرة النضال الجماعي من أجل انتزاع حقوقهم التي حملتها مطالبهم.

من هنا ولدت فكرة اللجنة العليا لإضراب موظفي الضرائب، فبعد اعتصام موظفي الجيزة شهدت العديد من المحافظات مظاهرات واعتصامات مشابهة تطالب بنفس المطالب، هذه الحركة خلقت قيادتها الطبيعة على مستوى كل مديرية وعلى مستوى كل محافظة، ثم جاءت الخطوة التالية، التقاء هذه القيادات للتنسيق فيما بينها، تحت شعار “حركة موحدة تساوي ضربة أقوى”.

كانت اللجنة العليا لاضراب موظفي الضرائب بمثابة “حكومة إضراب” الموظفين، حكومة تختلف بشكل كلي عن حكومة نظيف وحكومات الحزب الوطني السابقة، فأعضائها منتخبين بشكل مباشر من جمهور الموظفين، أعضائها يجتمعون لترتيب الخطوة القادمة ليعودو بعد ذلك إلى قواعدهم في أمكان العمل لعرض الخطة ومناقشتها وإقرارها أو رفضها ثم التحرك، هذه الطريقة الديمقراطية هي ما ضمنت حشد وتعبئة ما يقرب من خمسة آلاف موظف من كل محافظات مصر تقريبا للاعتصام في الاتحاد العام لنقابات عمال مصر لمدة يومين في نوفمبر الماضي، ثم حشد وتعبئة أكثر من عشرة آلاف موظف من سوهاج جنوبا وحتى العريش شمالا للاعتصام أمام مجلس الوزراء في أول ديسمبر لمدة عشرة أيام.

وتجلت المهام الديمقراطية “لحكومة الاضراب” منذ قبل اعتصام 3 ديسمبر، من ترتيب أوضاع المعيشة من مأكل وسبل المواصلات والتجمع وغيرها، فيروي قادة الموظفين كيف تم اختيار من كل محافظة قائد للموظفين ينظم انتقالهم إلى مكان الاعتصام بداية من تجميعهم من منازلهم مرورا بتوفير وسيلة المواصلات المناسبة وحتى الوصول إلى مكان الاعتصام أمام مجلس الوزراء، ثم يصبح هذا القيادة مسئول مجموعته طوال أيام الاعتصام في شتى مناحي الحياة، وكيف تطوعت الموظفات الريفيات “بخبز” العيش في البيوت بكميات كبيرة لتوفير المأكل للمعتصمين، وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة التي نفذتها قيادة الإضراب بأرقى أشكال الديمقراطية.

كان قرار استمرار الاعتصام أمام مجلس الوزراء مثالاً آخر على الديمقراطية الحقيقية، فكان من المخطط أن يتظاهر الموظفون لبعض الوقت أمام مجلس الوزراء، ثم الانتقال بعد ذلك إلى الاتحاد العام للمبيت واستكمال الاعتصام، لكن في لحظة معينة رأى القيادة أن استمرار الاعتصام أمام مجلس الوزراء ممكنا وأكثر فائدة لحيوية الموقع، وبدأت الحوارات والنقاشات حول القرار تدور بين المعتصمين لاتخاذ القرار، وبعد مداولات تم الاستقرار على الاستمرار في الموقع، رغم المخاوف من تأثيرات المبيت في الشارع خاصة إذا طال أمد الاعتصام وسط البرد وعدم توافر حمامات وغيره من سبل المعيشة.

ومنذ بداية اعتصام العشرة أيام أمام مجلس الوزراء تجلت أروع دروس الديمقراطية الحقيقية التي رسمها الموظفون على بعد أمتار قليلة من برلمان الحزب الوطني ومقر حكومته، لم يكن من السهولة تمييز القادة عن زملاءهم في حالات الهدوء التي لا يوجد فيها هتافات أو تفاوض مع مندوبي الاتحاد أو الحكومة، فالكل يجلس ويأكل وينام على الرصيف سويا، يمكنك فقط التعرف على أحد القادة عندما يرفعه زملاؤه ممسكا بالميكروفون لإذاعة بيان بآخر أخبار الاعتصام، أو إذاعة عرض جاء به أحد ممثلي الحكومة أو الاتحاد العام طالبا من أقرانه الاستماع جيدا للتصويت على العرض بالرفض أو الإيجاب، ليستمع الجميع في إنصات حتى ينتهي البيان، ثم تبدأ المناقشات حول ما جاء فيه ويتم اتخاذ القرار بشكل جماعي بالتصويت، ثم تنشره إذاعة الاعتصام، والإذاعة هنا كانت الهتافات التي يرددها الموظفون ليعلنوا موقفهم من العرض الحكومي “مش ماشيين إلا بقرار… مهما طال الانتظار… مش حنفك الإعتصام… حنوردها خالية”، هذه الهتافات التي أعلنت قرار المعتصمين برفض عرض وزير المالية الذي قدمه لممثلى الموظفين أثناء جلسة التفاوض، والذي يشترط فض الاعتصام قبل الحديث في أي حلول.

كانت ديمقراطية الاعتصام عاملا بالغ الأهمية في انتصار الموظفين وحصولهم على مطالبهم، فقدت جعلت الحكومة ممثلة في وزير المالية ترى في ممثلي الموظفين قوة حقيقية، قوة تستطيع تنسيق وتنظيم ليس فقط بضعة مئات من الموظفين، لكن قوة تستطيع تنظيم وتحريك 55 ألف موظف يديرون قطاعا حيويا بالنسبة للدولة، لم يكن أمام الجكومة سوى الاستجابة لمطالب المعتصمين.

حكومة الحركة!

لم تكن تجربة الديمقراطية للضرائب العقارية حالة فردية وسط موجة الاحتجاجات الاجتماعية التي ضربت خلال عام 2007، فقد شهدت معظم هذه التحركات في العام الماضي أمثلة مشابهة، قد تقترب أو تبتعد عن رقي تنظيم حركة الضرائب، لكن الثابت أن الحركات الاحتجاجية العفوية التي شهدتها مصر خلال الفترة الماضية استطاعت أن تدير شئونها بديمقراطيتها الخاصة، تلك الديمقراطية التي كانت عامل أساسي من عوامل نجاح هذه الحركات في الاستمرار والانتصار.

ربما يكون المثال الأبرز في هذا السياق تجربة عمال المحلة -27 ألف عامل- الذين استطاعوا في أقل من عام تنفيذ إضرابين ناجحين، كانا نموذجا واقعيا لإمكانات ديمقراطية عمالية قوية، فعمال المحلة كانوا أول من كسروا في حركتهم وهم التمثيل الشرعي الذي يدعيه التنظيم النقابي الرسمي، وأعلنوا على الملأ رغبتهم في سحب الثقة من لجنتهم النقابية، وتقدم عددا كبيرا منهم بالفعل باستقالات من التنظيم النقابي، وأصبح الممثل الوحيد للعمال داخل المصنع وخارجه هم قيادات الاضراب الذين فوضهم العمال للحديث باسمهم، الحكومة نفسها والتنظيم النقابي اعترفوا بهذه الحقيقة بالتفاوض مع ممثلي العمال دون اللجنة النقابية الرسمية.

الأهم من ذلك أن عمال المحلة أعطوا نموذجا رائعا على جوهر الديمقراطية خلال إضرابهم الثاني في سبتمبر 2007، فكان واضحا في الإضراب الثاني تغيرا ملحوظا في تركيبة القيادة العمالية التي أفرزها الإضراب الأول في ديسمبر 2006، فبين ديسمبر 2006 وسبتمبر 2007 جرت في نهر المحلة مياه كثيرة وتعرض العمال –وبالطبع قياداتهم- لاختبارات كثيرة وصعبة، حتى جاء إضراب سبتمبر ليحمل نتائج هذه الاختبارات، وكان أحد أهم هذه الاختبارات مدى قدرة العمال على رقابة قياداتهم وضمان تنفيذهم لارادتهم ومصالحهم الصرفة، وكانت النتائج مذهلة، فقد وضح للجميع في الإضراب الثاني للمحلة صعود وجوه جديدة وشابة لقيادة الاضراب، وانزواء أو تراجع عناصر أخرى لعبت أدوارا قيادية في الاضراب الأول، لم يكن ذلك محض صدفة، وإنما كان قائما على عملية فرز قام بها العمال لتصعيد من يرونه يمثلهم فعلا وتهميش من يرونه يتواطأ ضد مصالحهم.

إن النموذج الديمقراطي الوليد الذي قدمه موظفو الضرائب وعمال المحلة وغيرهم في إدارة معاركهم هو النموذج الذي نريده لحكم مصر، نريد حكومة ينتخبها ويكون رئيسها ووزرائها من عمال المحلة وكفر الدوار وشبين الكوم وحلوان وموظفي الضرائب العقارية والتموين والتأمينات وغيرهم من كادحي مصر، حكومة تعمل ما تقره الجماهير وتوافق عليه، حكومة يمكن مسائلتها وتغييرها بارادة الجماهير.

إن نواة هذه الحكومة موجودة أمامنا في المحلة والأسمنت والضرائب والمطاحن وغيرها، تحتاج فقط إلي مزيد من الجهد للم الشمل، إلي تطوير أشكال تنظيمية تجمع بين هؤلاء جميعا، ليصبحوا قطباً أقوى قادر على طرح نموذج ديمقراطي بديل لديكتاتورية مبارك.