بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

انتهى درس غزل المحلة.. يا حركة التغيير

لم يكن قد مضى على نهاية الانتخابات النقابية سوى أسابيع قليلة، بكل ما أظهرته من فساد الهيكل النقابي واستبداد النظام الحاكم الذي سعي بكل وسائل التزوير والقهر للسيطرة على تنظيمات العمال دون رد فعل عمالي ذات شأن، حتى استقيظت مدينة المحلة الكبرى ومصر كلها يوم الخميس 7 ديسمبر على صرخة عمالية هائلة أطلقها عمال شركة غزل المحلة. فقد أعلن مايقرب من الـ27 ألف عامل الإضراب والاعتصام بمقر الشركة حتى تجاب مطالبهم، واستمر الإضراب لمدة أربعة أيام بتنظيم وتصميم رائعين حتى انتصرت إرادة العمال وتمت الاستجابة لمطالبهم.

طرح هذا المشهد مرة أخرى للأذهان، وبقوة، التفكير فى العلاقة المفقودة بين الطبقة العاملة وحركة التغيير السياسية فى مصر، خاصة وأن الإضراب خلى من وجود أي قوى سياسية علي الإطلاق، بل وغاب حتى أي تضامن سياسي. ربما يعكس ذلك بوضوح الاتجاه الذي تسير فيه حركة التغيير فى مصر منذ انطلاقها في العاميين الماضيين.

حركة التغيير والأزمة

على مدار خمس سنوات عاشت فيها مصر مرحلة جديدة من الحراك السياسى على أنقاض الموات والركود فى الحركة السياسية والوطنية الذى اتسمت به حقبة التسعينات، كان السؤال التحدي أمام الحركة الوليدة –والصغيرة- أي الطرق نسلك لتحقيق الهدف؟ كيف نسقط الطاغية ونقيم الديمقراطية والحرية لجماهير هذا الشعب؟ ثم تشعبت التساؤلات بين تيارات الحركة ونشاطئها: هل نحن بصدد تغيير نظام مبارك الديكتاتوري وإقامة ديمقراطية برلمانية دون المساس بقواعد الرأسمالية التى هى أساس الاستغلال والاستبداد؟ وهذا بالتالي يستدعي التساؤل حول: أي قوى اجتماعية يمكنها القيام بهذه المهمة التاريخية؟ كان واضحاً منذ البداية أن الاتجاه الغالب داخل حركة التغيير الوليدة –نتيجة ضعف وتشتت اليسار داخل الحركة- يرى أن مصر فى هذه المرحلة فى طور التغيير السياسي الذي يبدأ بتغيير نظام مبارك الفاسد المستبد لإقامة ديمقراطية برلمانية. ظهر ذلك جلياً في تكتيات وسلوك حركة التغيير فى العاميين الماضيين. ورغم أن هذه الحركة لم تكف عن ترديد شعارات “التغيير بالجماهير”، إلا أن المفارقة الكبري أنها لم تتخذ أي خطوات تذكر للارتباط والبناء داخل صفوف هذه الجماهير عن طريق النزول إليها وتبني مطالبها البسيطة الحياتية، التى هي فى الحقيقة الترجمة الفعلية لكل جرائم هذا النظام الذي نريد تغييره. لم يُكسب هذا التفكير الحركة سوى ضعف على ضعفها وعزلة واستمرار لنخبويتها ومن ثم انكماش –بدلاً من توسع- حجمها ونفوذها.

كلنا شاركنا في مظاهرات ومسيرات حركة كفاية والحملة الشعبية من أجل التغيير وغيرهما من الفاعليات التى انبثقت عنها الأرض بكثافة فى العاميين الآخيرين. جميعها كانت ترفع شعارات التغيير، ومظاهراتها لم تتجاوز فى ذروة الأحداث الألفين أو الثلاثة آلاف ناشط، جابوا أنحاء وسط البلد في مشهد جديد لم تتعود عليه أجيال الشباب التى عاشت عمرها تحت وطأة ديكتاتورية مبارك. ورغم أن هذه الحالة خلقت خطوة إيجابية على طريق التغيير، إلا أنها تعاني الآن من الإحباط الشديد نتيجة الضعف والتشتت الذي انعكس فى فعاليات الحركة والتى أصبحت لا تتجاوز فى أقصي تقدير بضعة عشرات.

عمال المحلة في مقدمة المشهد

في مقابل هذا المشهد وبين يوم وليلة كان هناك ما يقرب من 27 ألف عامل فى غزل المحلة يتظاهرون ويعتصمون ويضربون عن العمل من أجل مطالبهم، وينتصرون في تنظيم وتماسك رائعين ربما يعجز عنهما الكثيرون من عتاة الساسة فى مصر. إن المقارنة بين هذين المشهدين من قبل أي من الحالمين بالتغيير فى هذا البلد تستدعي على الفور تساؤلات على جانب كبير من الأهمية، من وجهة نظرنا: هل سعت حركة التغيير يوماً لكسب قوة هذا المارد العمالي؟ هل يمكن أن نتصور الوضع بالنسبة لحركة التغيير من زاوية موازيين القوة مع الدولة والنظام إذا كان الـ 27 ألف عامل فى غزل المحلة يرفعون شعارات التغيير السياسي إلي جانب مطالبهم، كما فعلوا ذلك عدة مرات؟ وإذا علمنا أن هناك -بالإضافة إلى عمال المحلة- ملايين العمال فى ربوع مصر المختلفة يتحركون كل يوم بوتيرة متصاعدة ضد سياسات الاستغلال والاضطهاد التى يصنعها هذا النظام، ليس فقط فى مصانعهم ولكن أيضاً فى أحيائهم السكنية ومدارس أبنائهم وأقسام الشرطة وفى طوابير الخبز ….إلخ، فهل يمكن أن نتصور كيف سيكون الحال إذا تبنى هؤلاء شعار إسقاط الديكتاتورية من أجل إسقاط همومهم؟ هل سيستطيع هذا النظام أن يستمر طويلاً؟ هل يمكن أن نتصور الوضع إذا تبنى هؤلاء شعار “لا للتوريث”، في حال استيقظنا فى الصباح على الخبر السعيد بوفاة مبارك والخبر المشئوم بتولى جمال الحكم؟ هل يمكن أن يمر التوريث بسلام، في هذه الحالة؟

إذا كانت الإجابة على هذه التساؤلات كاشفة لدور العمال، فعلى حركة التغيير أن تسأل نفسها السؤال الأهم: ماذا فعلت من أجل ارتباطها بحركة الجماهير بشكل عام والعمال بشكل خاص. ولعل أقرب الأمثلة على تجاهل حركة التغيير للعمال هو الانتخابات النقابية الأخيرة؟ فرغم الادعاءات الكثيرة بالدفاع عن الديمقراطية ضد الفساد والطغيان، فقد أجريت انتخابات النقابات العمالية وانتهت بكل ماشابها من تزوير وانتهاكات ومذابح للمعارضة دون اهتمام يذكر من حركة التغيير، حتى من هؤلاء الذين يدعون الاهتمام بالشأن العمالي؟ وكأن الديموقراطية مرتبطة بصناديق الانتخابات الرئاسية ومجلس الشعب فقط دون الانتخابات العمالية. فهل يمكن للعمال وغيرهم من الفقراء والمهمشين الارتباط بحركة التغيير وسط هذا التجاهل التام؟ وهل يمكن أن يكون لحركة التغيير أي مستقبل في ظل غياب القوة الوحيدة التي يمكنها تحقيق الهدف وهو إسقاط الديكتاتورية؟

هذه التساؤلات تستحق وقفة جادة من حركة التغيير ومناضليها لإعادة حسابات المعركة، والسعي بكل قوة لامتلاك قوتها الحقيقية التي تكمن فى كتلة الجماهير الكادحة وفى القلب منها الطبقة العاملة. وإذا اعترفنا سوياً أن المأزق الحقيقي لحركة التغيير هو استمرار نخبويتها وفشلها حتي الآن في التحول إلي حركة جماهيرية، فنحن نثق تماماً بأن المخرج الوحيد لهذا المأزق يكمن بشكل أساسي فى السعي الآن وفوراً لمد الجسور مع الجماهير فى مواقعها وتنظيمها وربط حركتها ببعضها البعض. ليس من خلال بيانات التعاطف معها ولكن عن طريق تبني همومها وقضاياها والنضال معهم عليها، وبذل محاولات صبورة وطويلة النفس لربط ما هو مطلبي واقتصادي بما هو سياسي وعام.