انتصار عمال المحلة
انطلقت صفارة المصنع فى شركة غزل المحلة فى تمام الساعة السابعة والنصف من صباح يوم الخميس 7 ديسمبر إيذاناً ببدأ العمل كالعادة، ولكن في هذا اليوم لم يتوجه العمال إلى العمل، بل اعتبروا صفارة المصنع إعلاناً لبدأ إضرابهم الذين هددوا به يوم الاثنين السابق.
مطلب الإضراب.. الأرباح يا لصوص!
تعود بداية الإضراب إلي يوم الاثنين (4 ديسمبر) حين امتنع العمال عن صرف الأجور عندما فوجئوا بقرار رئيس مجلس الإدارة بصرف الأرباح بواقع 100 جنيه لكل عامل –تصل إلى 89 جنيه بعد خصم الرسوم- وذلك بالمخالفة لقرار رئيس مجلس الوزراء في مارس الماضي بصرف الأرباح بواقع شهرين لكل عامل كحد أدني. تذرع رئيس مجلس الإدارة بأن القرار لا يشمل شركات قطاع الأعمال ويقتصر علي شركات القطاع العام، فلم يقبل العمال هذه الحجة وأعلنوا امتناعهم عن صرف الأجور، مهددين بتصعيد الاحتجاج إلي إضراب شامل إذا لم تتم الاستجابة لمطالبهم حتي يوم الخميس.
حجم الامتناع عن صرف الأجور كان ينبئ بقوة الإضراب، حيث شمل كل العمال الذين يتجاوز عددهم الـ24 ألف عامل، ولم تحدث حالات تسرب تذكر سوي لأعضاء اللجنة النقابية التي حاولت إقناع العمال بالتراجع عن موقفهم دون جدوى. وبالفعل نفذ العمال تهديدهم، بعد انتهاء مهلة الثلاثة أيام دون تحقيق مطالبهم، وبدأ الإضراب.
ورغم أن اختيار يوم الخميس لبدأ الإضراب كان مغامرة فى حد ذاته، حيث يصعب الحفاظ على حشد العمال فى الشركة في اليوم التالي وهو الجمعة يوم العطلة، إلا أن العمال استطاعوا الحفاظ علي صلابة الموقف وتماسكه واستمرار الحشد.
بدأ الإضراب بعمال الوردية الأولي (10 آلاف عامل)، إحتشدوا كتلة واحدة في ميدان طلعت حرب المواجه لمبنى إدارة الشركة وأخذوا يرددون هتافاً موحداً دون انقطاع “الشهرين … الشهرين”، مما اضطر رئيس مجلس إدارة الشركة (محمود الجبالي) للاختفاء سريعاً، فرفع العمال “نعشاً” رمزياً كتبوا عليه “محمود الجبالي ظالم العمال”. ولم يمر وقت طويل حتي تدفق طوفان العمال الغاضبين إلى ساحة الشركة من خلال البوابة الرئيسية، كان الرجال إلي جانب النساء فى مشهد نضالي رائع، بل كانت العاملات تتقدمن الصفوف نحو ساحة الشركة ليشكلن درعاً بشرياً لزملائهن من احتمالات عنف الأمن.
وبعد ساعات من التظاهر داخل الشركة حل موعد دخول الوردية الثانية فى الثالثة عصراً، وكان الأمن قد أغلق الأبواب وقرر عدم دخول الوردية الثانية. إلا أن عمال الوردية الثانية تجمعوا خارج الشركة، وتحت ضغط العمال المضربين بالداخل وعمال الوردية الثانية بالخارج اضطر الأمن لفتح الأبواب لينضم عمال الوردية الثانية إلي زملائهم داخل الشركة ليصل حشد العمال إلى ما يقرب من 21 ألف عامل، فتعززت قوة العمال وبدأ الهتاف مرة أخرة لكن بصوت أقوى “الشهرين… الشهرين” وطاف “نعش” محمود الجبالي أرجاء الشركة، وكأنها إشارة من العمال إلى نهاية رمز الفساد في شركتهم.
كان المشهد ملحمياً بمعني الكلمة، فإلي جانب صورة الحشد الهائلة، تأتي مواقف البطولة والفداء وخاصة من النساء العاملات. فمع حلول الليل بدأ العمال في إقناع زميلاتهم بالانصراف والعودة في الصباح، لكن العاملات رفضن بشكل قاطع وصممن علي البقاء. وبعد إلحاح شديد من زملائهن إنصرف جزء منهن ثم عدن بطعام من منازلهن للعمال المعتصمين، ثم انصرف جزء آخر منهن بعد قدوم الوردية الثالثة والاطمئنان على قوة الحشد العمالي. لكن عدد كبير من العاملات لم يتركن مواقعهن داخل الاعتصام حتي وقت متأخر من الليل بعد الثانية من فجر الجمعة، عندما اطمئن العمال أن قوات الأمن لا تفكر في اقتحام الشركة.
جانب آخر من ملحمية الإضراب تبدت في مظاهرات الطلبة خارج أسوار الشركة، من تلاميذ الإبتدائي والإعدادي والثانوي وأغلبهم من أبناء العمال المعتصمين.
صمود وانتصار!
كان يوم الجمعة هو الأصعب فى الإضراب، حيث أخذ عدد المعتصمين داخل الشركة في الانخفاض حتى وصل إلي ما يقرب من الـ7 آلاف عامل في النهار. في نفس الوقت كانت رسائل المساومة تصل إلي الشركة، والتي بدأت بعرض يمنح العمال 21 يوم بدلاً من 100 جنيه، ثم ارتفع العرض ليجمع بين الـ 21 يوم والـ 100 جنيه بالإضافة إلي 5% من الأساسي. ظلت المفاوضات جارية حتي مساء الجمعة، وعندما حل المساء كان عدد العمال قد انخفض إلي أقل من ألفين، وقد بدي علي قوات الأمن المرابطة خارج الشركة أنها تقوم بتحركات مريبة. وفي منتصف الليل بدأ الأمن يصدر تهديدات، بدا عليها الجدية، بالاقتحام إذا لم يفض العمال اعتصامهم ويتركوا الشركة، ثم انقطعت الكهرباء عن الشركة للإيحاء بجدية التهديد. ولكن كان قرار العمال مواصلة النضال معلنين رفضهم أي تهديد وأنهم مستمرون في اعتصامهم، حتي يحصلوا على مطالبهم، مهما كانت العواقب.
في هذه الأثناء كانت مكبرات صوت، محمولة على سيارات تطوف أرجاء مدينة المحلة والبلدات المحيطة بها، قد بدأت تعلن للعمال أن الشركة بدأت أجازة من يوم السبت 9 ديسمبر حتي لا يتوجه العمال إلي العمل في الصباح وينضموا لزملائهم المعتصمين. لكن في الصباح أضيف مشهد جديد إلي الملحمة البطولية للعمال، الذين لم يثنيهم عن النضال التهديدات أو المساومات. فمع الساعات الأولي من صباح السبت تدفق طوفان العمال قاصدين مقر الشركة، حاول الأمن منعهم بكل الطرق دون جدوي، وانضموا إلي زملائهم المعتصمين، لتمتلأ الساحة مرة أخرى ويتكرر مشهد يوم الخميس. وارتفعت الهتافات تزلزل مقر الشركة والمحلة كلها وتلقي الرعب والفزع فى قلوب الإدارة وحتي الأمن، وعادت موازيين القوى في صالح العمال مرة أخرى، حيث بدا الإضراب قوياً ومتماسكاً ويحوز تأييد الأغلبية العظمي من العمال.
استمرت مظاهرة العمال –أكثر من 20 ألف عامل- يوم السبت حتي حضر إلي الشركة عزت دراج نائب المحلة بمجلس الشعب (حزب وطني) وحاول إقناع العمال بالإكتفاء بالـ 21 يوم والـ 100 جنيه، قائلاً إن الرئيس مبارك يحب العمال ويفكر فيهم دائماً وأنه “كفاية الـ 21 يوم”، فقوبل بعاصفة من الهتاف من العمال “كفاية انت… كفاية مبارك… كفاية جمال”، ثم أجبروه علي الخروج من الشركة.
استمر الوضع في السخونة حتي مساء السبت حين حضر رئيس القطاع المالي للشركة فى الحادية عشر مساء بمنشور رسمي يقضي بصرف 21 يوم من الأرباح يوم الإثنين علي أن يصرف العمال شهر ونصف في يناير القادم، وتم تعليق المنشور فى جميع أنحاء المصنع، وتأكد اتنصار العمال فعلت الهتافات احتفالاً بالنصر معلنة الفوز بالمعركة. هكذا انتهي الإضراب وعاد العمال إلى عملهم ولكن أكثر قوة.
المعركة مازالت مستمرة
ورغم انتهاء الإضراب لم ينه العمال نضالهم ضد الفساد والاستغلال. فقد كان العمال قد بدأوا مع بداية الإضراب حملة للإطاحة باللجنة النقابية التى اختفى جميع أعضائها طوال الأحداث. وعندما ظهروا كان من خلال بيان مشترك مع وزارة القوى العاملة ووزارة الاستثمار واتحاد العمال والنقابة العامة للغزل والنسيج يُدين حركة العمال ويطالبهم بالقبول بما تعرضه الإدارة من حلول. أشعل البيان حالة من السخط الشديد من العمال على النقابة، خاصة وأن ذلك حدث بعد انتخابات نقابية مزورة فُرض فيها مرشحي الإدارة بعد منع المرشحين ومندوبيهم من حضور عملية فرز الأصوات وفوجيء العمال بنتيجة غير متوقعة. لذلك أعد العمال مذكرة لسحب الثقة من النقابة وبدأوا جمع التوقيعات عليها أثناء الإضراب حتي وصل عدد الموقعين عليها حتي الآن أكثر من ثلاثة آلاف عامل، ولازالت الحملة مستمرة بعد انتهاء الإضراب، والتي ينوي العمال بها تأسيس نقابة حرة مستقلة عن التنظيم النقابي الرسمي الذي وقف ضد العمال في حركتهم.
توابع زلزال المحلة
لم تتوقف توابع انتصار إضراب عمال غزل المحلة داخل حدود الشركة وفقط، بل هناك مؤشرات كثيرة تنذر باحتمال انتشار عدوي الإضراب في مواقع أخري. فأثناء الإضراب أعلن عمال شركة مصر حلوان الامتناع عن صرف الأجور ورفعوا نفس مطلب عمال المحلة، المدهش أنهم قد حصلوا علي مطلبهم بالفعل بعد انتصار المحلة. كذلك أعلن عمال شركة النصر للصباغة والتجهيز أنهم لن يقبلوا بأقل مما حصل عليه عمال غزل المحلة. كما تسود الآن حالة من التوتر بين العمال في شركة الغزل بكفر الدوار تجعل الموقف قابل للتصاعد، والبقية تأتي.
وعلى مستوي صناعة النسيج في مصر، فالتوقيت الذي اندلعت فيه حركة عمال غزل المحلة لا يقل أهمية عن حركتهم. فعلى مدار العقدين الماضيين واجهت صناعة الغزل والنسيج فى مصر أزمة طاحنة انعكست سلباً على الحركة العمالية في أهم معاقلها في المحلة الكبرى وكفر الدوار وشبرا الخيمة وحلوان، مما دفع الكثير بالقول بانتهاء دور العمال النضالي. وربما تكون نتائج الانتخابات النقابية الأخيرة قد عززت هذه المقولات، حيث انتهي الأمر بعد مذابح الاستبعاد والتزوير، التي أجرتها الحكومة والأمن، إلي تنظيم نقابي حكومي مائة فى المائة. ولكن دوت صرخة عمال المحلة وجاءت حركتهم القوية صفعة على وجه أعداء الطبقة العاملة، وإشارة لكل المناضلين من أجل الحرية والتغيير… هنا أرض المعركة… ناضلوا هنا.
العمال ومعركة التغيير
لقد خلق انتصار عمال غزل المحلة حالة معنوية مرتفعة ودفع الوعي العمالي بالشركة للأمام، بالإضافة طبعاً للحصول على المكسب الرئيسي وهو الأرباح، لكن تأثير انتصار الإضراب يكتسب أبعاداً أخري أبعد من حدود الشركة نفسها. فمنذ اعتصام عمال غزل كفر الدوار عام 1994 لم تشهد مصر احتجاجاً عمالياً ضخماً يشارك فيه أكثر من عشرة آلاف عامل.
وعلي الرغم من وقوع احتجاجات عمالية كثيرة في هذه الفترة إلا أنها كانت في مواقع لم يتجاوز عدد عمالها عدة مئات أو آلاف محدودة علي الأكثر. ويعد هذا الإضراب هو الأول من نوعه منذ موجة إضرابات الثمانينيات، كما أن إضراب غزل المحلة هو أول حركة عمالية ضخمة منذ انطلاق حركة التغيير فى السنوات الثلاث الماضية. وكأن الطبقة العاملة تقول للجميع فى هذا الوقت بالذات نحن قادرون علي المشاركة والتأثير، نحن مناضلون وطليعيون من أجل الديمقراطية والحرية. لكن نضال الطبقة العاملة الديمقراطي يختلف كلياً عما نراه في نضال حركات التغيير السياسي، فالطبقة العاملة لا تطالب بالديمقراطية في تظاهرة علي سلالم نقابة الصحفيين أو شوارع وسط البلد، وإنما تفرضها فرضاً في نضالها العملي كأمر واقع. فإذا كان حق الإضراب هو أحد الحقوق الديمقراطية بل أهمها، فإن عمال المحلة لم يطالبوا به بل استخدموه –رغم قيود القانون- فى انتزاع حقوقهم المسلوبة. بمعني آخر استطاع عمال المحلة فرض ديمقراطيتهم الخاصة في التحرك والتفاوض الجماعي لانتزاع مطالبهم، مقدمين لكل القوى السياسية –التي اختفت تماماً من حركتهم- درساً هاماً في الديمقراطية والحرية بل والنظام والنضال أيضاً.