بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

نظرة أخرى على الجزر في الحركة العمالية

هذه المجلة – الشرارة – بنت جزء أساسي من تراثها السياسي، على مدار السنوات الماضية، على تحليل مستوى وطبيعة الصراع الطبقي في مصر في المرحلة الراهنة. الفكرة التي طرحنها مرارًا وتكرارًا هي أن هناك جزر في الصراع الطبقي، وأن مضمونة الأساسي لا يمكن – بالطبع – في الاختفاء الكامل للنضالات العمالية، وإنما في اختلال التوازن الطبقي الصالح الطبقة الحاكمة وضد الطبقة العالمة والحركة الجماهيرية على وجه العموم. وقد انعكس هذا الوضع – كما أكدنا – على شكل ووتيرة الاحتجاجات العمالية التي تكون، في الأغلب الأعم، قصيرة ودفاعية ومشتتة وجزئية و- أحيانًا كثيرة – مهزومة.

وقد اعتمد طرحنا في هذا السياق على تصور مستمد من التراث الماركسي الكلاسيكي مفاده أن ليس هناك ارتباط حتمي بين الأزمة الاقتصادية للرأسمالية وبين تصاعد الحركة العمالية. فتروتسكي أكد في الثلاثينيات – زمن أقسى أزمة واجهتها الرأسمالية في تاريخها – أن “الآثار السياسية لأي أزمة اقتصادية تتحدد بالوضع السياسي الشامل، وبالأحداث التي تسبق وتصاحب الأزمة، خصوصًا معارك وانتصارات وهزائم الطبقة العاملة في المرحلة التي تسبق مباشرة الأزمة. فتحت مجموعة معينة من الظروف يمكن للأزمة أن تعطي دفعة هائلة للنشاط الثوري للجماهير، وتحت مجموعة مختلفة من الظروف يمكنها أن تشل تمامًا هجوم البرولتياريا”. وعلى ذلك فقد فسرنا الوضع المتناقض الذي شهده الصراع الطبقي في مصر في بداية التسعينات، وأيضًا في مراحل قبل ذلك، بأن الأزمة الاقتصادية لعبت، بسبب الظروف السياسية الأشمل، دورًا سلبيًا ضعف الحركة العمالية وشل قواها وفكك قواعدها في إطار الهجوم الشامل للبرجوازية تحت راية “الإصلاح الاقتصادي”.

ولكن اليوم هناك تطورات جديدة – نسبيًا – تحدث في الحركة العمالية؛ بالتحديد التصاعد الواضح في عدد النضالات بأشكالها المتنوعة في السنوات الثلاث الأخيرة. فالإحصاءات تقول أن عدد الاحتجاجات العمالية المسجلة زاد من حوالي 35 احتجاج في سنويًا في أعوام منتصف التسعينات – عامي 1995 و1996 – إلى حوالي ضعف هذا العدد في السنوات الأخيرة. المشاهدة العملية تقول أيضًا أن درجة الاحتدام في المعارك، وطول مدتها، قد زادا بشكل ملحوظ. فهل تدعونا هذه التطورات إلى إعادة النظر في النتائج التي كنا قد وصلنا إليها منذ سنوات؟ هل نحن في غمار عملية تحول من جزر إلى مد في الصراع الطبقي يكشف عنها التصاعد في النضالات؟ في رأينا أن التسرع بإصدار هذا النوع من الحكم سوف يكون مخالفًا للحقيقة ولطبيعة ما يحدث أمام أعيننا. ليس هذا فقط، بل إن هذا الحكم سيكشف عن إساءة فهم عميقة لطبيعة الصراع الطبقي وتحولاته في ظل البلدان الديكتاتورية.

لا مجال للمجادلة حول الوقائع. فعلاً عدد النضالات ودرجة حدتها وطول مدتها يتزايدون. وتفسير هذا، وقد طرحناه في الشرارة في مناسبات عديدة، يقوم على فهم التطور في سياسة الدولة وفي الوضع الاقتصادي في السنوات الأخيرة. وأول نقطة ينبغي ذكرها في هذا السياق هي أن الانطلاقة الحقيقية لسياسة الخصخصة كانت في عام 1996. فمع الاكتمال النسبي لمرحلة التثبيت في سياسة الإصلاح الاقتصادي، وعلى خلفية انتشاء الحكومة بالنجاحات المالية التي تحققت، وتحت ضغط البرجوازية والمؤسسات الاقتصادية الدولية، قررت الدولة الإسراع بالخصخصة. وعلى ذلك تم، من ناحية أولى، بيع أو تأجير أو تصفية عدد من الشركات في قطاع الأعمال العام. ومن ناحية أخرى تسارعت خطوات إعادة هيكلة باقي الشركات تمهيدًا للبيع.

الخصخصة بجوانبها المختلفة هي التي أدت إلى ارتفاع وتيرة النضالات العمالية، وهي أيضًا التي أحدثت تحولاً في مزاج قطاع هام من عمال القطاع العام. فبعد أن كان هناك ميل – غالبًا مصدره اليأس من أي بديل آخر – لتصديق دعاية الدولة أن الخصخصة هي الحل، وأنها ستؤدي لرفع مستوى معيشة العمال، بدأ العمال تحت وطأة التجربة القاسية، يدركون حقيقة الخصخصة وصلتها بالإطار العام لسياسة الدولة. وتعددت، على هذا الأساس، الاحتجاجات العمالية في المصانع المخصخصة حديثًا، واكتسب بعضها طابعًا منظمًا بسبب الدور الذي لعبته فيها اللجان النقابية تحت الضغط من أسفل. أما باقي مصانع القطاع العام، فقد أدت تجارب الآخرين، أو “رأس الذئب الطائر”، إلى زيادة نسبية في الرفض – أو على الأقل الحذر – تجاه سياسات إعادة الهيكلة.

من ناحية أخرى، وعلى جبهة القطاع الخاص، فقد كان للكساد دورًا كبيرًا في دفع العمالية. الركيزة الأولى والأهم للحركة في القطاع الخاص تأتي من المصانع المتقدمة ذات العمالة الأكثر مهارة وتعليمًا والأعلى أجرًا (المتحدة الكيماويات، جنرال موتورز، نستلة). في هذه المصانع كانت النضالات منظمة، وطويلة النفس، و- في بعض الأحيان – ناجحة.

إذن فلو جمعنا عناصر الصورة في كل واحد لفهمنا أن التصاعد في النضالات هو رد فعل دفاعي على اشتداد الهجوم من جانب البرجوازية والدولة. رد فعل يعكس، بدون شك، تفاقم مخزون الغضب ضد المظاهر المختلفة لسياسة الدولة والرأسماليين، ولكنه لم يصل إلى حد القدرة على إيقاف المبادرة الهجومية التي بدأتها الطبقة الحاكمة منذ سنوات، أي إلى حد تغيير ميزان الصراع الطبقي لصالح الحركة العمالية. والسؤال المحوري هنا هو هل في مقدورنا أن نعتبر هذا التصاعد الدفاعي مقدمة لهجوم – لمد من أسفل، خاصة وأن سحب الأزمة الاقتصادية التي تجمعت في الأفق تؤدي بشكل مباشر الآن إلى التأثير سلبًا على مستويات معيشة الجماهير؟

نعم بالطبع يمكننا ذلك، ولكن شريطه أن نفهم ما هي بالضبط المتطلبات السياسية الشاملة للتحول من جزر إلى مد في المجتمعات الرأسمالية التي تحكمها نظم ديكتاتورية. ما نريد أن نقوله هنا أنه في نظام ديكتاتوري قمعي لا يمكن للحركة العمالية أن تتحول إلى وضع المد (ونعني بالمد هنا ليس فقط زيادة عدد النضالات، وإنما التحول – في أوساط الحركة العمالية – من الدفاع إلى الهجوم المنظم المتواصل بما يعنيه هذا من ولادة حركة عمالية مستقلة وقوية نسبيًا) إلا من خلال معركة سياسية شاملة تهز نظام الحكم القائم وتغير من شروط المعادلة السياسية في عمومها. في الدول التي تسود فيها درجة واضحة من الديمقراطية البرجوازية – كإنجلترا أو فرنسا أو حتى اندونيسيا اليوم – هناك إمكانية – بسبب الانفصال الكبير بين الاقتصاد والسياسة، أي بسبب وجود فرصة للإصلاح بدون تغييرات سياسية – لأن تنشط النقابات وتظهر حركة عمالية قاعدية وتتصاعد إلى مستوى كبير المعارك الهجومية المنتصرة، وذلك بدون أي تغيير يذكر في نظام الحكم. أما في الدول التي تحكم البرجوازية فيها بالديكتاتورية السافرة – ومصر من ضمنها – فلا يمكننا أن نتخيل أن تنشأ نقابات مستقلة وقوية إلا في إطار تحد مباشر لنظام الحكم. هنا العلاقة بين الاقتصاد والسياسة أوضح وأعمق إلى الدرجة التي لا يكون فيها ممكنًا أن يتصاعد بشكل نوعي النضال الاقتصادي بدون أن يقترن هذا بمعركة سياسية متوجهة إلى قلب النظام نفسه.

إن دلالة هذا بالنسبة للتحول من جزر إلى مد في مصر واضحة: لا يمكن لأي تصاعد هجومي في الحركة العمالية أن يكون أكثر من نقطة ذروة عابرة تنكسر سريعًا تحت وطأة القمع، إلا إذا اقترن بنضال سياسي يهدف – ويؤدي – إلى تغيير نظام الحكم. بصياغة أخرى يمكننا أن نتوقع، إلا إذا اتصفنا بدرجة عالية من السذاجة، تحول سلس ومتواصل من الجزر إلى المد على جبهة المعارك الاقتصادية الصرف. أي تحول نوعي – ونؤكد نوعي وليس مجرد كمي – في الحركة العمالية إما أن يواجه بالقمع، أو أن يفرض شروطًا سياسية جديدة أكثر ديمقراطية.

يؤكد تصورنا هذا مجمل تاريخ الحركة العمالية في الدول الديكتاتورية والشمولية. فلم تبرز نقابات مستقلة أو حركة عمالية ذات شأن في روسيا، إندونيسيا، كوريا، وغيرهم من الدول كثير، إلا مع انهيار النظم الحاكمة في أي من هذه البلدان، سواء من خلال معركة جماهيرية، أو من خلال أزمة في صفوف الطبقة الحاكمة. وحتى في مصر، فإن التصاعد في الحركة العمالية في مرحلة السبعينات – على ضآلة تأثيره ديمقراطي محدود ومؤقت أملته الصراع الطبقة في تلك المرحلة.

إن القضية التي نطرحها هنا لها، في تقديرنا، أهمية إستراتيجية بالنسبة للثوريين في مصر اليوم. فالتقلبات الحادثة والممكنة في مستوى النضالات وعددها وتوزيعها، على أهميتها وتأثيرها على توجهات وأساليب النضال، لا ينبغي أن تعمينا عن حقيقة أساسية تحدد توجهنا وحركتنا: وهي أن الانتقال إلى مستوى أعلى وهجومي ومنظم من النضالات الاقتصادية لا يمكن أن يحدث تدريجيًا وفي إطار سلمي في مصر. السياسة لدينا هنا، أكثر من أي مكان آخر، مسألة حياة أو موت حتى في الإطار الإصلاحي المحدود. وذلك لأن برجوازيتنا لن تمنح إصلاحات ذات شأن سواء على صعيد الاقتصاد أو على صعيد السياسية (أي على صعيد المطالب الديمقراطية) إلا من خلال معركة تسقط – أو على الأقل تهتز بقوة – فيها العروش.