بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

قراءة في احتجاجات العمال

لم يعد هناك شك أن العام 2007 يستحق لقب عام العمال، فهو العام الذي شهد منذ أيامه الأولى بداية أقوى وأوسع حركة احتجاجات عمالية خلال العقدين الماضيين، بدأت مع الإضراب الأول لعمال غزل المحلة في ديسمبر 2006 لتندلع بعد ذلك نار الإضرابات في سائر المواقع العمالية من أدنى مصر لأقصاها، طوال شهور العام حتى أيامه الأخيرة التي شهدت الاعتصامات المتكررة لـ 55 ألف من موظفي الضرائب العقارية.

لم تكن احتجاجات العمال عام 2007 وليدة الصدفة، بل هي نتيجة تراكم من التناقضات حدثت على مدار سنوات، وبالتحديد عقدين من الزمن، بعد تطبيق برنامج الخصخصة في مصر بصدور القانون رقم 203 لسنة 1991 والذي سمي بقانون قطاع الأعمال العام ودشن بصدوره وقتئذ تشكيل 17 شركة قابضة في مختلف الأنشطة بحيث يتبع كل شركة قابضة عدد من الشركات من نفس النشاط الإنتاجي، وكانت أهم عناصر القانون فصل الملكية عن الإدارة، وفصل موازنات الشركات عن الموازنة العامة للدولة مما أودى بحياة القطاع العام الذي وجد نفسه وحيدا في ظل المنافسة و اقتصاد السوق.

كان للخصخصة هدفين ريئسيين : أولهما خفض عجز ميزانية الدولة المرهقة أساسا بالديون والمثقلة بالفساد الإداري والمالي، وثانيهما تخفيض نسبة ما يحصل عليه العمال والفلاحون وباقي الشرائح الاجتماعية الأخرى ( الموظفين بعد ذلك ) من الدخل الإجمالي عن طريق تكثيف معدلات استغلالهم سواء بتخفيض الأجور أو – إذا شئت الدقة – بتجميد الأجور عند حد معين مع الاستمرار في زيادة الأسعار، أو بزيادة عدد ساعات العمل وتعقيده، ومن هنا جاءت فكرة المعاش المبكر، حيث يحق لصاحب العمل الاستغناء عن ثلثي العمالة وجعل الوظيفة التي يقوم بها ثلاثة عمال مثلا من نصيب عامل واحد.

الخصخصة في جوهرها سياسة لا تمس الهيكل البنيوي للمجتمع أو تركيبته الطبقية، بل على العكس هي تود فقط إنقاذ أرباح الرأسماليين من الانخفاض المستمر، وإعادة هيكلة الاقتصاد ودمجه في السوق العالمي لمحاولة امتصاص أكبر قدر من الفائدة وتحميل الفقراء تبعات سياسات الإفقار المستمرة .

على خلفية تجربة الخصخصة في مصر اندلعت الإحتجاجات العمالية الأخيرة كأحد أبرز التحديات أمام غول الليبرالية الجديدة وتعبيرا عن فشلها في امتصاص غضب العمال وقطاعات واسعة من الفقراء والكادحين الذين هبوا لمناهضتها.

انطلاقة المحلة

جاءت الانتخابات النقابية في نهاية عام 2006 كشاهد عيان على عجز النظام القائم عن استيعاب أكبر طبقات المجتمع، وقام النظام كعادته بقيادة أكبر عملية تزوير و جلب رجاله على رؤوس اللجان الفرعية والعامة في محاولة منه للسيطرة على الحركة العمالية، تمهيدا لاستئناف عملية الخصخصة بوتيرة أسرع في مرحلتها النهائية والأخطر، ظنا منه أن بتولي رجاله مقاليد الأمور في التنظيم النقابي سيحكم سيطرته على المارد العمالي الذي كان خروجه بهذا الاندفاع مصدرا لدهشة الجميع، لكنه كالعادة لم يدرك أنه بذلك إنما يزيد من قوة النار التي ستتمخض سريعا بغليان عجز حتى الآن في مواجهته.

لم يمر أكثر من شهر حتى انتقض عمال أكبر قلعة صناعية في الشرق الأوسط، عمال غزل المحلة في ديسمبر من العام الماضي، وكان إضراب المحلة منعطفا هاما في تطور الحركة العمالية نظرا لعوامل عدة أهمها حجم التحرك -27 ألف عامل- ورقي التنظيم الذي اتسم به الإضراب، والأهم المطالب التي رفعها العمال، فإلى جانب مطالب تحسين شروط عملهم وأوضاعهم المعيشية (الحافز والوجبة وما إلى ذلك)، طالب عمال المحلة بإسقاط اللجنة النقابية بالشركة وإقالة مجلس الإدارة بقيادة محمود الجبالى، وكان لهذا المطلب أثره الهام حين تبنت بعض الشركات الأخرى نفس الأمر فى قائمة مطالبها (الحناوى للدخان والمعسل، والحديد والصلب… وغيرها).

تزامن مع ذلك تحركات على نطاق أوسع، تركزت في البداية في قطاع النسيج وعادت لتمتد عدوى الاحتجاج إلى قطاعات الأسمنت ثم السكة الحديد ثم قطاع الغزل مرة أخرى بقيادة كفر الدوار والدلتا للغزل بزفتى، وبعدها المعدات التليفونية وسلسلة طويلة متلاحمة من الإضرابات والإعتصامات التي استمرت في بعض الأحوال لأكثر من 50 يوما كما في المنصورة-أسبانيا و تعدته لتصل في اعتصام عمال العربية للطوب لأكثر من 100 يوم.

سمات الحركة

لعل أهم ما يميز تلك الحركة هو طابعها “الإضرابي”، فقد تحولت الحركة من مجرد تعبير عن الاحتجاج في شكل اعتصام أو تظاهر ليثبت العمال أنهم أكثر وعيا من المتحذلقين عندما جعلوا سلاحهم في مواجهة صاحب العمل هو الإضراب و ليتمخض ذلك عن وعى خطير بطبيعة العمل وموقع العمال به والتأثير المهم المتمثل في “تخسير” الرأسمالي طالما أضربوا عن العمل، وبطبيعة الحال فإن الرأسمالي يشعر بعد ذلك بالندم عندما يكتشف أن مطالب العمال أقل من خسارته جراء الإضراب، من هنا أيضا ننتقل لسياسة “النفس الطويل”، فبعد اعتصام دام أكثر من 50 يوما لعمال المنصورة-أسبانيا استطاع العمال بعد ذلك إعادة الشركة مرة أخرى للعمل ودحض محاولة المستثمرين بإغلاق الشركة.

من جانب آخر إنطوت الحركة “الجديدة” على معطى في غاية الأهمية يتعلق بكم الكوادر الشابة التي ظهرت على ساحة النضال، مما يعطى مؤشرا بأن الحركة العمالية المصرية ستظل تخلق قيادتها الطبيعية طول الوقت، و ظهر الشباب لأول مرة منذ زمن طويل محمولين على أعناق زملائهم ليقودوا الإضرابات والإعتصامات، ظهر ذلك في المعدات التليفونية والمنصورة-أسبانيا و مطاحن جنوب القاهرة.

أيضا رضخت الدولة لأغلب مطالب العمال، وحقق عمال المحلة انتصارا معنويا كبيرا بعدما أقالت الدولة “الجبالى” رئيس مجلس إدارة الشركة والذي تسبب على حد وصف تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات في إهدار الملايين من أموال الشركة، وبشكل عام تحققت مطالب العمال في أكثر من موقع عمل كان آخره نسبة الحافز التي طالب بها عمال المطاحن، وتوقفت الدولة عن التدخل البوليسي لفض اضرابات العمال على غير عاداتها في الثمانينات والتسعينات، ولعل هذا عائد لامتداد “النطاق الجغرافي” الذي حدثت به تلك الاحتجاجات، حيث طالت كافة أنحاء الجمهورية من قنا إلى الإسكندرية ومرورا بالدلتا و القاهرة الكبرى مما يصعب من عملية قمعها ( أثناء إضراب عمال غزل المحلة اضطرت الدولة للاستعانة بقوات الأمن المركزي من ثلاث محافظات هي الدقهلية والشرقية بالإضافة لمحافظة الغربية) و يعطي بعدا عن حجم الأزمة التي يعاني منها أغلب سكان مصر في ظل سياسات الخصخصة.