بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

رأسمالية “الهلال” و”الصليب”.. الفقراء يدفعون الثمن

طرحت المسألة القبطية نفسها مجدداً من خلال عدد من حوادث الاعتداء على ممتلكات وأرواح الأقباط في الأسابيع الماضية. وبينما يجد الأقباط أنفسهم محاصرين بين اضطهاد الدولة والرعب من البديل الإسلامي ورجعية الكنيسة، فإن الطريق الوحيد للخروج من النفق المظلم هو نجاح الحركة الاحتجاجية الحالية في جذب الأقباط إليها.

عادت قضية الأقباط لتفرض نفسها من جديد من خلال عدد من الأحداث خلال الأسابيع القليلة الماضية. وكانت البداية اعتداء على محل مجوهرات يمتلكه قبطي بالزيتون وقتل صاحبة وثلاثة عمال أقباط. تلا ذلك عملية سطو مسلح على محل مجوهرات أخر يمتلكه قبطي بالإسكندرية. ثم كانت الحادثة الأهم، اعتداء البدو على دير أبو فانا في ملوي بعد قيام الدير ببناء سور حول قطعة أرض محيطة به كان قد اشتراها ودفع ثمنها، ليقوم العشرات من البدو بمهاجمة الدير وتدمير السور وإصابة عدد من العاملين فيه وإحراق بعض محتوياته وخطف ثلاثة رهبان، تم الإفراج عنهم لاحقاً بعد تعرضهم للاعتداء. وأخيراً كان اختفاء طالبة مسيحية في أبو المطامير بالبحيرة، واتهام أسرتها لأحد الجيران المسلمين باختطافها، وقيام مظاهرة من الشباب المسيحيين احتجاجاً على اختفاء الطالبة.

وأياً كانت المزاعم بأن هذا الحادث أو ذاك جنائي، أو غير طائفي، فإن خطورة الأمر هي شعور المجتمع بأن حادث سرقة محل أو نزاع على أرض يعبر عن نزاع بين طائفتين دينيتين، وبالفعل بدأ التحزب والاقتتال على هذا الأساس. وفي كل الأحوال، فإن الأمر المؤكد هو أن القضية القبطية، تعد واحدة من أهم القضايا التي يتوقف عليها مصير الصراع الطبقي في مصر، إن لم تكن القضية الأهم على الإطلاق. وهنا قد يبدو مهماً الإشارة إلى عدد من الملاحظات.

الأقباط.. أثرياء؟

برزت أولا في بعض وسائل الإعلام ومنها بعض الصحف المستقلة تلميحات لا يمكن سوى وصفها بالخبيثة بعد حادثتي الزيتون والأسكندرية حول كون الأقباط هم الأغنياء وأصحاب الثروات. والهدف من ذلك بسيط، فبدلاً من أن يتحد فقراء المسلمين والمسيحيين ضد من يستغلونهم ويتسببون في إفقارهم بغض النظر عن انتماؤهم الديني، ينقلب المسلمين ضد الأقباط بزعم أنهم أصحاب الثروة. وبالرغم من أنه لا توجد إحصائيات معلنة حول نصيب الأقباط في الثروة، فإن تأمل الواقع يشير إلى أن هذه مقولة مغلوطة. فالأقباط ليسوا كالأقليات الصينية في بلدان مثل اندونيسيا وبعض بلدان جنوب شرق آسيا، والتي يمثل التجار الموسرين قطاعاً أساسياً بها، وهو ما كان سبباً في توجيه السهام لهذه الأقلية بزعم أنها تنهب ثروات هذه البلاد.

فالصحيح أن الأقباط يميلون تاريخياً إلى التجارة لأن باب الصعود الوظيفي مغلق أمامهم. وأدى ذلك إلى عمل فئات واسعة من الأقباط بالتجارة، لكن غالبية الأقباط، شأنهم شأن غالبية المسلمين، فقراء، يعملون لدى رجال أعمال مسيحيين، بسبب إغلاق باب الوظيفة العامة والشركات الخاصة التي يملكها مسلمون في وجههم بسبب التعصب الطائفي الذي بلغ أقصاه في عهد النظام الحالي. لهذا فإن تركيز الأقباط على التجارة، ليس كافيا لكي يدعي البعض كذبا بأن مصر مقسمة إلى مسلمين فقراء ومسيحيين أغنياء. وفي هذا السياق، فإن كون أغنى رجل في مصر هو القبطي نجيب ساويرس، لا يعني أن الأقباط يسيطرون على قطاع رجال الأعمال. فكما أن هناك ساويرس وغبور، فهناك أبو العنين ونصير وعز ومنصور ..إلخ. وفي حقيقة الأمر، فإن الطرفين يعملان في تناغم وود من أجل نهب ثروات الشعب واستغلال الفقراء مسلمين ومسيحيين. وعلى الجانب الآخر، يوجد ملايين الأقباط من الفقراء الذين لا أحد يسمع عنهم، والذين لا مصلحة لهم في الانقسام الطائفي.

وفي كل الأحوال، لا شك أن المستفيد الأول من شيوع هذه المزاعم حول ثراء الأقباط، هو النظام الحاكم الذي ينتعش بتصاعد الانقسام الطائفي والعداء ضد الإقباط، طالما لم يبلغ هذا العداء حدوداً يمكن أن تهدد استقراره. فبالنسبة لهذا النظام، ليس هناك أفضل من أن يتحول الأقباط إلى كبش فداء يستوعب الغضب الذي يشعر به ملايين الفقراء من المسلمين في ظل ارتفاع الأسعار وانعدام الخدمات وقمع الأجهزة الأمنية.

بين الدولة والإخوان والكنيسة

الملاحظة الثانية ليست جديدة، بل هي سمة لحركة الأقباط منذ بداية القرن الحالي، وهي التظاهر داخل الكنائس للتعبير عن الغضب تجاه التمييز الذي يتعرضون له. ويطرح هذا الوضع العديد من الأسئلة، أولها مدى مشاركة الأقباط في الحياة العامة. مع بداية حركة التغيير الديمقراطي، برزت رموز قبطية في قيادة هذه الحركة مثل جورج إسحق وأمين إسكندر، كما بدأت أعداد من الشباب القبطي في الخروج من العزلة والمشاركة في الحركة. غير أن تراجع حركة كفاية في مقابل تصاعد دور الإخوان المسلمين أدى إلى انقسام الحركة بين جناح علماني ضعيف، وآخر إسلامي ذي نفوذ قوي بين المصريين. وكانت النتيجة أن ضاعت فرصة مهمة لانخراط الأقباط في المجتمع وعادوا إلى أحضان الرجعية ممثلة في الكنيسة. ويرتبط ذلك بدوره بالوضع الحرج الذي يجد الأقباط أنفسهم فيه. فمن جهه هناك الدولة التي تمارس أشكالاً واسعة من الاضطهاد ضدهم، سواء بالحرمان من تولى الوظائف القيادية، أو وضع العراقيل أمام بناء دور العبادة، أو بتشجيع الخطاب الإعلامي الطائفي والأفكار المتعصبة، والتغاضي عن معاقبة مرتكبي جرائم العنف ضد الأقباط كلما كان ذلك ممكنا. ولكن على الجانب الآخر، يعد الإسلاميون فصيل المعارضة الأساسي للنظام ومن ثم يصبحون هم البديل الأقوى حال سقوطه. وبالأمس القريب، أثناء قوة الجماعات الإسلامية، كانت أرواح وممتلكات الأقباط هدفاً اساسياً لهذه الجماعات. واليوم، لا يتردد الإخوان في إظهار موقفهم الرجعي من الأقباط كلما حانت الفرصة لذلك. وهنا يجد الأقباط أنفسهم بين شقي الرحى. فإما النظام الذي يتعرضون في ظله لعديد من أشكال الاضطهاد، وإما الإخوان الذين يرى المسيحيون أنهم يمثلون تهديداً لوجودهم ذاته.

وأما فيما يتعلق باليسار، الذي كان من المفترض أن يجد فيه منبراً للدفاع عن حقوقهم، فقد انهارت مصداقيته وفقد التأثير تماماً، عندما اختار أن يقف في صف الدولة في مواجهة الإسلاميين. وفي ضوء هذا الضعف، لم يكن مطروحاً أن يستطيع اليسار كسب ثقة أي فئة ومن بينها الأقباط.

وكان لهذا الوضع العديد من النتائج الكارثية على وضع الأقباط. فمن ناحية هناك ضعف المشاركة في الحياة العامة. وثانيا، يعكس هذا الضعف روحاً محافظة، ترى أنه رغم كل سلبيات مبارك، فإنه أهون شراً من الإخوان. والأخطر من ذلك هو العلاقة مع أمريكا، التي تقوم بدورها بالمناورة عبر استخدام الورقة القبطية في الضغط على النظام حينما تريد ذلك، وهو ما يظهرها –كذباً—في موقع المدافع عن الأقباط. وخطورة هذا الوضع أنه يهدد بحدوث انقسام عميق في الموقف من القضايا الوطنية، خاصة وأن حركات المقاومة في المنطقة العربية، في فلسطين ولبنان والعراق هي حركات إسلامية يتبنى الكثير منها مواقفاً رجعية ضد المسيحيين – وإن كان حزب الله حالة استثنائية في هذا السياق.

وفي ظل هذا الوضع، لابد من ملاذ. وهنا يأتي الدور المهيمن للكنيسة التي تصاعد نفوذها على الأقباط في عصر مبارك ليصل إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث. ولعل الشكل الأكثر فجاجة لهيمنة الكنيسة هو دعوتها للأقباط لانتخاب مبارك في انتخابات عام 2005. وفي واقع الأمر، فإن الكنيسة هي المستفيد الرئيسي بعد النظام، من الوضع الراهن، حيث تجد ملايين الأقباط رهن إشارتها ، ويتسع نفوذها بفعل التبرعات التي يقدمها أغنياء الأقباط في الداخل وأقباط المهجر. وفي نفس الوقت تقدم خدمة للنظام الحاكم عبر السيطرة على غضب الأقباط، والسعي لعدم تحويل هذا الغضب إلى فعل سياسي.

غير أن الصورة لا تقتصر على ذلك، فبالرغم من كل هذه المخاطر، يوجد جانب إيجابي مهم، هو أن الأقباط قد خرجوا أخيرا من القمقم. فبين حركة المهجر وحركة الكنائس وحركة الأقباط العلمانيين.. وبين المظاهرات الكنسية المتكررة –التي عادت عام 2000 بعد عقود من الانقطاع— بين هذا وذاك بدأ الأقباط يطرحون قضيتهم ويناضلون من أجلها بشكل أوسع من أي درجة خلال الثلاثين عاما الماضية.

الأقباط والحركة الاحتجاجية

وأخيراً، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن تطوير الحركة الاحتجاجية للأقباط بعيداً عن الرجعية وفي اتجاه الالتحام مع الحركة الاجتماعية الواسعة التي تجتاح مصر. تبدو هنا أهمية نجاح الحركات الاحتجاجية في جذب الأقباط إلى الحياة العامة. وكان نموذج إضراب موظفي الضرائب العقارية هو الصورة الأكثر إشراقاً. ذلك أن المسيحيين، الذين يشكلون قسماً كبيراً من موظفي الضرائب العقارية –ومنهم رئيس النقابة مكرم لبيب— وقفوا جبناً إلى جنب مع المسلمين احتجاجاً على الظلم الذي يتعرضون له منذ عقود. وكان انتصار هذا الإضراب ملمهاً لكثير من الموظفين في القطاعات الأخرى للقيام باحتجاجات مثيلة. وبيّن هذا الانتصار أن نجاح المقهورين مسلمين ومسيحيين هو في وحدتهم في مقاومة الظلم. لكن كيف يمكن تعميم تجربة الضرائب العقارية كنموذج ملهم لوحدة النضال بين المسلمين والمسيحيين؟

إن الخطوة الأولى من أجل إقناع الأقباط من عمال وفلاحين وموظفين، وكافة من يتعرضون للظلم والتمييز، بالمشاركة الفعالة في قضايا المجتمع، هي تبنى الحركات الاجتماعية وقوى التغيير الجذري لقضية الأقباط. لأن ذلك من شأنه يشعرهم بأن هناك قوى مخلصة حقيقة تدافع عن مصالحهم، وأن قضية الأقباط لا تتجزأ عن قضايا المجتمع، والأهم من ذلك أن هناك طريقاً آخر، بعيداً عن الدولة والكنيسة، يمكن أذا ساروا فيه جنباً إلى جنب مع المسلمين أن يضعوا نهاية للقهر الذي يتعرضون له معاً.