صعود الغضب الاجتماعي.. إلى أين؟
تشهد مصر في الآونة الأخيرة موجة جديدة من الاحتجاجات الاجتماعية المطلبية التي تتسع يوماً بعد يوم. حتي أصبح الاحتجاج أداة تستخدمها الجماهير بشكل مباشر ولم يعد مقصوراً على النخبة السياسية كما كان الحال في السنوات الماضية. كيف نقرأ هذه التطورات، لفهم أفقها وسبل تطويرها نحو بديل حقيقي للتغيير .
تعد ظاهرة الاحتجاجات الجماهيرية أهم حدث في الوقت الراهن. وهي تعد حدثاً غير مألوف وربما فريداً في نوعه. فلم نكن معتادين أن نرى بشكل يومي أناس على اختلاف مشاربهم، من موظفين، إلى بدو، إلى أزهريين، إلى سكان الأحياء الفقيرة، إلى فلاحين…إلخ يقررون مقاومة أوضاع الظلم والفقر التي فرضها عليهم النظام المصري، بحيث لم يعد لديهم ما يخشون فقدانه. تحاول السطور القادمة تأمل ظاهرة الاحتجاجات الشعبية واستطلاع آراء العديد من المهتمين بالعمل العام حول طبيعة ومستقبل هذه الظاهرة.
غضب جماهيري متصاعد
رغم أن حركة الاحتجاج الحالية تعد بمعنى ما استثنائية، من حيث اتساع نطاقها والقطاعات المشاركة بها، ونوع المطالب، إلا أنه يصعب فهم هذه الظاهرة دون النظر إلى تطورات الصراع الطبقي في مصر منذ بداية هذا العقد. فبعد حالة من الركود في الحركة العمالية والجماهيرية خلال التسعينيات، جاءت الألفية الجديدة بأزمة اقتصادية عميقة وشعور متزايد بالآثار المدمرة لسياسة التحرير الاقتصادي والخصخصة على حياة الغالبية العظمى من الجماهير. ومن هنا جاءت حركة التضامن الواسعة مع الانتفاضة الفلسطينية في نهاية عام 2000، والتي كانت إيذاناً ببدء مرحلة جديدة، وكسر حاجز الخوف الذي تعمق لدى الجماهير في ظل سياسة القمع الرهيب الذي مارسته الدولة ضد الحركة الإسلامية في التسعينيات. وكانت حركة التضامن مع الانتفاضة هي البداية التي تلتها المظاهرات المناهضة للحرب على العراق عام 2003، ثم انبثاق الحركة المطالبة بالديمقراطية مع نهاية عام 2004.
ويرى الدكتور عبد الحليم قنديل، القيادي في حركة كفاية، أن «هناك عنصرين مهمين، الأول هو أن الجمهور المصري عموما قدرته على الصبر والاحتمال واسعة، لكن أزمة الاقتصاد وسياسة التكيف الهيكلي الموزعة على جموع المصريين أدت إلى انتشار الفقر والبطالة والعنوسة. وقد اتضح للناس أن هذه الأزمة في ازدياد وأن الوعود المقطوعة غير قابلة للتحقيق. بلغة أخرى العنصر الأول هو الوصول إلى ما يمكن تسميته الحائط المسدود….أما العنصر الثاني فهو مولد ثقافة جديدة، أقصد بالمعنى الاجتماعي، أو مولد سلوك جديد كسر حالة الركود السياسي التي ظلت عليها البلاد لسنوات بدأ بكفاية وأخواتها وحركة القضاة بعد ذلك. صحيح أن هذه التحركات، سواء الوقفات الاحتجاجية أو المظاهرات والاعتصامات حوصرت بجحافل الأمن المركزي ….. لكن الإعلام لعب دورا في نشرها أو في نشر ما يمكن أن يسمى بالعدوى وخلق أساليب جديدة مختلفة لاستخلاص الحق. لذلك عندما اختفت مدافع الحركة السياسية تصاعدت موجات الاحتجاج الجماهيري».
وفي نفس السياق يرى الأستاذ عبد الغفار شكر، القيادي في حزب التجمع، أن الحركة جاءت «نتيجة للتراكم طوال السنوات الماضية نشهد تحرك فئات أوسع من الناس باتجاه التعبير عن أنفسهم ومطالبهم. أيضا، لقد شاعت ثقافة جديدة بدأ من اللجنة الشعبية لمساندة الانتفاضة ومن ثم حركة كفاية. الاحتجاجات التي نشهدها اليوم هي جزء من هذه الثقافة الجديدة وناتجة عن متابعة أجهزة الاعلام والفضائيات للاحتجاجات المختلفة».
نضالات المهنيين والعمال
لم يكن خفوت الحركة المطالبة بالديمقراطية مع نهاية عام 2005، إيذانا ببداية مرحلة جديدة من الركود. بل تولدت آفاق جديدة لنوع مختلف من النضالات، بدأ بالقضاة في منتصف 2006 ثم امتد ليشمل العديد من النقابات المهنية. فأصبحنا نجد فئة مثل المدرسين، التي كانت من أكثر الفئات مسالمة، يقومون بتحركات واسعة ودءوبة للمطالبة بكادر خاص، ثم جاءت احتجاجات الصحفيين على قانون الحبس في قضايا النشر ثم رفض الصيادلة للحملة الحكومية ضدهم في ظل السعي للقضاء على الصيدليات الصغيرة لصالح سلاسل الصيدليات الدولية. ونشطت في الوقت نفسه أعداداً من المهندسين المطالبين برفع الحراسة المفروضة على نقابتهم منذ أكثر من عشرة أعوام.
غير أن الحدث الذي كان مفاجئاً وملهماً بالنسبة للكثيرين هو الإضرابات العمالية مع نهاية 2006 وبداية العام الحالي، وعلى رأسها إضراب عمال المحلة الذي شارك فيه أكثر من 20 ألف عامل. فقد كان حجم الإضراب ونجاح العمال المضربين في تحقيق مكاسب، واتخاذ الدولة توجهاً مهادناً إلى حد كبير بفعل معركتها المصيرية مع الإخوان، مشجعاً لسلسلة من الإضرابات المختلفة من حيث العدد والحجم عما كان عليه الوضع في الإعوام السابقة.
ويشير الدكتور محمد السيد السعيد، رئيس تحرير صحيفة البديل، إلى العلاقة بين موجة الاحتجاجات الأخيرة وبين الإضرابات العمالية، فيوضح أنه «كان هناك سبب مباشر بدرجة وهو أوضاع التسوية المالية في عدد كبير من شركات القطاع العام وبالتحديد فيما يخص توزيع الأرباح والأجور. كان هذا هو السبب الرئيسي لتشجيع موجة الإضراب المطلبي لأول مرة منذ وقت طويل. أيضا هناك شعور بأن الناس أصبح لديهم للمرة الأولى إحساس بأن في تحركهم قدرة على الانتصار فالدولة لم تعد الشبح الرهيب الذي لا يمكن قهره وهذا الاحساس تم استلهامه من الحركة السياسية في الفترة الماضية».
حركة غير مسبوقة
فجر أهالي قرية برج البرلس في محافظة كفر الشيخ «ثورة العطشانين» عندما أغلقوا الطريق الساحلي الدولي المحاذي للبحر الاحمر وعرقلوا حركة السير وأضرموا النيران في إطارات السيارات، لإجبار المسئولين على الاستماع لمطالبهم. وفتحت هذه الحركة الباب أمام العشرات من التحركات الاحتجاجية على الحالة غير الآدمية التي صبر عليها الناس سنوات طويلة. فما لبثت أن امتدت احتجاجات العطشانين إلى الدقهلية والقاهرة والأسكندرية، ثم اتسعت أشكال أخرى من الاحتجاح أكثر تنوعاً، حيث تظاهر أهالي قلعة الكبش مطالبين بحق السكن، واعتصمت عشرات من النساء أمام مبنى وزارة التموين (سابقاً) احتجاجاً على إغلاق عدد من المخابز، واقتحم الآلاف أحد المخابز في السادسة صباحاً للحصول على الخبز قبل أن تتسلمه «مافيا الخبز»، وتظاهر أهالي عزبة خير الله احتجاجاً على عدم توفر الصرف الصحي إلذي يؤدي إلى تلوث مياه الشرب، وتظاهر الأهالي في القاهرة والمنصورة والجيزة وسيوة ضد التعذيب في أقسام البوليس، وتظاهر البدو وقطعوا الطرق احتجاجاً على الممارسات الأمنية.. إلخ.
وتتميز الحركة الحالية بعدة سمات. فهي أولاً حركات مطلبية في المقام الأول، أي لا ترفع مطالب سياسية، ويرى الدكتور عمرو الشوبكي، الخبير بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، أن ذلك يرتبط «بغياب تكوينات سياسية قادرة على استيعاب الناس». ويؤكد الكاتب علاء الأسواني على عجز الأحزاب السياسية قائلا: «أن كافة الأحزاب السياسية المسموح بها جزء من النظام، حيث حددت نفسها في دور الكومبارس بالمسرحية، بالتالي امكانيات حركتها أو رغبتها في الحركة قليلة جدا».
أما السمة الثانية هي التنوع الهائل للجماعات المشاركة في هذه الاحتجاجات. وهنا يشير المهندس كمال خليل، مدير مركز الدراسات الاشتراكية، إلى أن «الحركات الجماهيرية التي نشهدها طوال التسعة شهور الماضية هي تحركات اجتماعية. فإلى جوار اضرابات العمال …التي كان آخرها الأيام الماضية حينما أضرب 1400 عامل على رصيف رقم 8 في محطة مصر .. فإن الاحتجاجات شملت فئات من خارج صفوف الطبقة العاملة مثل إضراب 25 ألف مدرس أزهري في خمس محافظات من أجل الكادر وإضرابات الموظفين في وزارة الأوقاف».
آفاق ومحاذير
لعل أهم ما أظهرته التحركات الجماهيرية الأخيرة أن الجماهير سارت خطوات غير مسبوقة منذ فترة طويلة في طريق كسر حاجز الخوف وقررت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن أصبحت الأوضاع لا تُحتمل. لكن ما نراه اليوم هو حركة عشوائية رغم كل الحماس والاتساع الذي تتسم به الحركة. ومن ثم فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو حول مستقبل هذه الحركة. فهل يمكن أن تتطور الحركة في اتجاه يجلعها قادرة على أن تحدث تغييراً ذو شأن، أم إنها ستكون مجرد لحظة صعود – لن تكون الأخيرة بالتأكيد— لن تلبث أن تتراجع. يحذر الأسواني من أن: «هذه الاحتجاجات في مفترق طرق. فالاحتجاجات ليست شاملة وهي تحدث بلا وعي بالحل المطلوب وهذا أمر خطير قد ينقلب إلى فوضى. لابد أن يصبح لدى هؤلاء المحتجون وعي أبعد وأجندة ما لتغيير حقيقي في البلد كله».
ويعتقد قنديل في إمكانية تطور الحركة: «أن الموجة ستزداد وتتسع لسبب بسيط وهو أن بعض الاحتجاجات قوبلت من النظام بتلبية المطالب. لكن من المؤكد أن الحكم سيعجز عن تلبية هذه المطالب فالموازنة العامة لا تتحمل وغير قادرة على تلبيتها…. إمكانية تطور هذه الموجة يرتبط بالتطور من المطالب الجزئية إلى المطالب العامة وهذا وارد حدوثه في شكل هبة عامة أو انفجار اجتماعي».
ويبدي الشوبكي قدراً أقل من التفاؤل إزاء مستقبل هذه التحركات: «الاحتجاجات حتى هذه اللحظة عشوائية وتركز على جوانب إصلاحية، وهذا ليس عيبا، وتعتمد على التفاوض من أجل تحسين ظروف العمل خارج كافة التنظيمات السياسية سواء اليسار أو الاخوان. وبالتالي، يمكنها أن تعمل على فرز قيادات سياسية جديدة في المستقبل تختلف عن وتتجاوز الوجوه السياسية القديمة… لكن حتى هذه اللحظة هي غير قادرة على التحول إلى غضب شعبي منظم أو عصيان مدني عام».
ويرى السعيد أن مسألة تحول الاحتجاجات العشوائية إلى حركة سياسية هو: «مشوار طويل لأن الحافز الرئيسي هو نضال مطلبي اقتصادي مباشر. بالطبع، في أحوال كثيرة تخطت الأطر المطلبية …. وأيضا، ظهر الرفض للأطر النقابية الصفراء. كل ذلك يشجع على مفهوم الاضراب في مواجهة الدولة وهي نقاط من الممكن أن تقود بدرجة إلى الحضور السياسي للطبقة العاملة، لكن في رأيي هذا التصور مبكر جدا نظرا لوضع البلد العام وبؤس الناس والنظام البوليسي والافتقار إلى كوادر مدربة على تحويل الاضراب الاقتصادي إلى إضراب سياسي».
ويعتقد خليل أن الحركة قد تنشأ عنها ظاهرة جديدة تتعلق باستقلال العمل النقابي والتنظيمي فيشير إلى أن «الحركة اليوم تحدث خارج نطاق الأحزاب والقوى السياسية بقياداتها. وتفرز الحركات الشعبية قياداتها الجديدة والطبيعية من أوساط المحتجين أنفسهم. وعندما يصطدم المحتجون بالدولة تتبلور مطالب سياسية من نوع نقابة مستقلة».
ويتضح أن هناك اتفاقاً عاماً على أن الحركة تحتاج إلى السياسة كي تتمكن من الصمود وتحقيق نجاحات. ويشير شكر إلى أهمية دور اليسار في إحداث هذا التحول حيث أن «انخراط اليسار وسط هذه الحركات بل الانخراط في وسطها لكي يجعل لها مضمون سياسي أوسع… لابد من وجود حركة سياسية ناضجة ويجب على اليسار المصري أن يطور أوضاعه ويفتح مجالات جديدة للعمل الجماهيري…..وبالتالي سيتمكن اليسار من تطوير هذه التحركات التي تكتفي بالمطالب المباشرة وسيخلق لها آفاقاً أوسع ويضفي عليها طابع سياسي يربط مشاكل الجماهير في موقع معين بمشاكل المجتمع المصري».