طبقة عاملة مصرية جديدة
في مراحل الانقلابات الاقتصادية الكبرى تحدث تغيرات هائلة في قوام الطبقة العاملة وفي تكوينها. في هذه المراحل تعاد هيكلة الرأسمالية فتتهاوي فروع صناعية كانت متوسعة ورابحة وتنمو فروع أخرى بدلاً منها، وتسيطر العلاقات الرأسمالية على أنشطة كان يزاولها مهنيون من الطبقة الوسطى أو حرفيون وتجار من البرجوازيين الصغار، وتزيد معدلات المركزة والتمركز في الصناعة فتظهر شركات عملاقة على أنقاض العشرات من الشركات الصغيرة والمتوسطة… الخ الخ. وتؤثر كل هذه التحولات على بناء وتكوين الطبقة العاملة تأثيرات حاسمة، إذ تؤدي إلى تسريح مئات الآلاف من العمال وفقدهم لوظائفهم، وإلى نشوء قطاعات عمالية جديدة تجد روافدها من البرجوازية الصغيرة في الريف أو المدينة، وإلى تغير في الحجم الكلي للطبقة العمالة وفي معدلات تركزها في مصانع كبرى. فمثلاً مع اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى في 1929، فقد الملايين وظائفهم إلى درجة أن تقلصت الطبقة العاملة الأمريكية بما يزيد عن الثلث في غصون سنوات قلائل. وبعد الأزمة وجد الكثيرون أنفسهم يعملون في مصانع عملاقة أكبر حجمًا بما لا يقاس من تلك التي عملوا بها قبل الأزمة. وفي سنوات الانتعاش الكبير للرأسمالية منذ الأربعينات وحتى أوائل السبعينيات هاجر الملايين في دول أوروبا الجنوبية من الريف للمدينة ليتحولوا إلى عمال في مصانع كبرى افتتحت في هذه المرحلة.
ويمكننا القول أن مصر اليوم تمر بتحول اقتصادي كبير له انعكاساته المهمة على تكوين الطبقة العاملة المصرية. فسياسات إعادة هيكلة القطاع العام بما تتضمنه من خصخصة وتسريح للعمال بالمعاش المبكر وبغيره، والتطورات والتوسعات التي شهدها رأس المال الخاص، ونشوء المدن الصناعية الجديدة، وأزمة فروع صناعية تقليدية كصناعة النسيج، والتوسع في قطاع الخدمات… وغيرها، قد أدوا مجتمعين إلى تغييرات ساحقة في الطبقة العاملة بقطاعاتها المختلفة.
وقد دفعت هذه التحولات الكبرى إضافة إلى الانعطاف ناحية اليمين في أوساط اليسار الانتهازي المصري، بكثير من الكتاب اليساريين إلى القول بأن الطبقة العاملة المصرية تختفي وتتحلل، إلى التأكيد بأن أعضائها لم يعدوا بروليتاريا نقية بعد أن أصبح الكثيرون منهم يعملون في وظائف إضافية كحرفيين أو تجار صغار أو حتى فلاحين. ولذلك أدعى اليساريون الانتهازيون أن مصر دولة لا توجد بها طبقة عاملة على النمط الكلاسيكي الذي تحدث عنه ماركس والثوريون الأوائل في كتاباتهم، وأن هذه الطبقة “الهجين” غير قادرة بالتالي على قيادة ثورة عمالية. والنتيجة السياسية الخطيرة التي خرج بها هؤلاء هي أنه من واجبنا – لأن العمال الصناعيين يتقلصون، ولأنهم ليسوا طبقة نقية حتى الآن – أن ننتظر أن يتبلور التكوين الطبقي المصري وتظهر طبقة عاملة متجانسة و نقية!
آفة الانتهازية السياسية دائمًا – وآفة الانتهازيين المصريين بالتالي – هي أنها تبحث لنفسها عن منطق عميق لتبرير انتهازيتها. وليس هناك أعمق من وجود أسباب بنائية – تتعلق بوجود وطبيعة الطبقة الثورية – تبرر رفض الثورة العمالية.
بعد كل ثورة منهزمة يتحدث الانتهازيون و أتباعهم عن “عدم نضج الظروف الموضوعية للثورة” وعن “طبيعة الطبقة العاملة التي كانت تعني بالضرورة أن الثورة ستنهزم”. والحقيقة دائمًا تكون أن الهزيمة لم تفرضها الظروف الموضوعية، وإنما فرضها قادة إصلاحيون، وقوى سياسية انتهازية.
نفس الأفكار يطرحها الانتهازيون قبل الثورة ليؤكدوا أنها غير ممكنة، كما لو هناك أبدًا “طبقة عاملة نقية” كالتي يفترضوها وكما لو أن الثورة تحدث لأن النقاء قد تحقق في الطبقة، وليس لأن مجمل الظرف السياسية تدفع الصراع الطبقي إلى نقطة التأزم والانفجار (الثورة الروسية على سبيل المثال وقعت في عام 1917 حينما كانت الطبقة العاملة تتعرض لعملية تغير كبرى زادت من عدم نقائها. إذ استبدل مئات الآلاف من العمال الجدد ذوى الأصول الريفية المباشرة أولئك العمال الذين أرسلوا للجبهة لخوض الحرب العالمية الأولى).
ولكن تأكيدنا على خطأ وتدليس الحسابات والادعاءات الانتهازية القائمة على استنتاج إمكانية الثورة العمالية مباشرة من الحجم المطلق أو النسبي للطبقة العاملة أو من درجة نقائها المفترض – وليس على استنتاجها من مجمل الوضع السياسي ومن أوضاع الطبقات المختلفة في ارتباطها ببعضها البعض -؛ نقول إن تأكيدنا هذا لا يعني أن التحولات التي تمر بها الطبقة العاملة في تكوينها لا أهمية لها. لهذه التحولات أهمية، ولكنها أهمية لا يمكن حسابها بكل مباشر وسطحي. أكثر من ذلك هذه التحولات مهما كانت ليس بمقدورها أ، تغير من طبيعة الثورة التي يطرحها المجتمع على ذاته. فهل الممكن على سبيل المثال أن يؤدي تسريح العمال وتقلص حجم الطبقة العاملة الناتجين عن أزمة اقتصادية كبرى، إلى القول بأن الطبقة المؤهلة لقيادة الثورة لم تعد هي الطبقة العاملة؟ هل من الممكن أن يؤدي تغير مؤقت خلقته ظروف اقتصادية طارئة إلى تغيير الطبيعة الإستراتيجية للثورة؟
وإذا ما عدنا للحديث عن وضعية مصر والتحولات التي غيرت من تكوين طبقتها العاملة في المرحلة الأخيرة. نستطيع أن نتفهم بشكل أعمق المسألة التي نتحدث عنها.
كانت سنوات النصف الثاني من الثمانينات و الأول من التسعينات صعبة على الرأسمالية المصرية. في هذه السنوات تراجعت معدلات النمو حتى وصلت – وفقًا للبنك الدولي – إلى أرقام سالبة في أوائل التسعينات. كان معني هذا ليس فقط ظروفًا اقتصادية صعبة بالنسبة للعمال الذين يشتغلون بالفعل، وإنما أيضًا معدلات بطيئة للتوسع الصناعي وبالتالي ثبات – وأحيانًا ثبات – وأحيانًا تراجع – في الرقم المطلق للعمال الصناعيين.
في هذه السنوات أغلقت الدولة باب التعيينات الجديدة في القطاع العام وهو ما عنى انحدار متواصل في عدد العمال بهذا القطاع. ولكن من ناحية أخرى كانت تلك السنوات – بالرغم من المصاعب الاقتصادية – هي السنوات التي بزغ فيها نجم الرأسماليين الجدد الذين ظهروا في المدن الصناعية الجديدة (العاشر من رمضان، 6 أكتوبر.. وغيرها). وقد انعكست هذه التغيرات على بنية الطبقة العاملة حيث أنخفض الوزن النسبي لعمال القطاع العام إلى إجمالي العمال. أيضًا، ربما لأن الصناعات الرأسمالية الجديدة كثيفة رأس المال ولا زالت في طور النشأة، فإن، درجة تركز العمال في المصانع قد انخفضت. المصانع التي افتتحت في المدن الجديد – بالذات في بدايتها الأولى – لم تكن أبدًا في ضخامة حجم مصانع القطاع العام. وحتى اليوم – ومع استثناءات تتزايد بمرور الوقت – فإن الحجم النموذجي لمصنع من مصانع العاشر من رمضان هو بضع مئات من العمال وليس بضع آلاف كما هو الحال في مصانع كغزل المحلة أو كفر الدوار أو النصر للسيارات أو غيرها من مصانع القطاع العام. من ناحية ثالثة، فإن تحولات الثمانينات والتسعينات أدت إلى تقلص حجم وأهمية عمال الغزل والنسيج الذين كانوا في منتصف السبعينيات يمثلون حوالي 39 % من إجمالي عمال الصناعات التحويلية. وذلك بالطبع بسبب أزمة هذا القطاع الممتدة. في المقابل نمت الصناعات الغذائية والهندسية والكيماوية نموًا كبيرًا.
وفي التسعينات استمر النزيف في القطاع العلم وتسارع. فمؤخرًا لعب المعاش المبكر دورًا كبيرًا في تسريح عمال هذا القطاع في شهور قلائل، وسيلعب غالبًا في المستقبل القريب دورًا مماثلاً. والنتيجة هي تقلص عمال القطاع العام من أكثر من مليون ومائة ألف إلى ربما 800 ألف اليوم أو حتى أقل.
بالطبع لا يزال عمال القطاع العام هم الكتلة الأساسية في الطبقة العاملة الصناعية المصرية. ولكن تتزايد في أهميتها بالتأكيد عمالة القطاع الخاص والاستثمارية. خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن تلك الأخيرة شابة ونسبة المتعلمين فيها أكبر مقارنة بعمال كلهم تجاوزوا الثلاثين اليوم في القطاع العام. وتبلغ عمالة المدن الصناعية الجديدة اليوم ما يقرب من ربع مليون عامل (لا يمكن وضع تقدير وثيق لعمال القاع الخاص في مصر بسبب تهرب الرأسماليين من التأمينات، ولكن تشير أرقام معلنة مؤخرًا أن عمال مدينة السادس من أكتوبر على سبيل المثال يقترنون من 70 ألف عامل).
وفي السنوات الأخيرة، ومع التزايد النسبي في معدلات النمو، توسع الرأسماليون الجدد بعض الشيء. أولئك الذين أصبحوا الآن على رأس مجموعات اقتصادية (المجموعات الاقتصادية هي كالشركات القابضة التي تضم عددًا من الشركات تعمل في مجالات مختلفة)، كعائلة ساويرس، غبور، أبو العينين، فريد خميس،… وغيرهم. هؤلاء يتوسعون اليوم صناعيًا وينتقلون لصناعات تتطلب تركزًا عماليًا أكبر (السيارات، الصلب،… الخ).
لو لاحظنا سنجد أننا حتى الآن لا زلنا نتحدث – بشكل أساسي – عن الطبقة العاملة الصناعية. ولكن الطبقة العاملة المصرية تضم قطاعًا أساسيًا يعمل في التجارة و الخدمات. وهذا القطاع بالذات شهد أكبر توسع في السنوات الأخيرة. ظهرت في هذه السنوات شركات أمن، شركات نظافة، وسلاسل مطاعم لا حصر لها. وتلك جميعًا يعمل بها مئات الآلاف من العمال في ظروف تعد بوجه عام متدنية وصعبة. ولكن لا جدال أن هذه القطاعات المتوسعة تعد جزءًا أساسيًا من الطبقة العاملة المصرية التي تعيش تحولاً كبيرًا.
وليس هناك من شك أن تلك التطورات التي تحدثنا عنها أو غيرها قد جلبت إلى الطبقة العاملة فئة متوسعة من العمال ذوي الياقات البيضاء الذين يعملون في وظائف السكرتارية وفي وظائف إدارية متدينة أخرى. هؤلاء بدورهم ينتمون لطبقة العمال وليس صحيحًا ما يدعيه بعض اليساريين من أنهم جزء من طبقة البرجوازية الصغيرة. إذ تنطبق عليهم كل شروط حياة البروليتاري (العمل بأجر، الخضوع للسلطة المباشرة للرأسمالي، الحياة في بيئة العمال، تدني العمل ورتابته.. الخ).
على خلفية كل ما سبق نطرح السؤال حول الأثر السياسي للتغير بالنسبة للطبقة العاملة المصرية.
كل هذه التحولات لعبت لا شك دورًا في الحياة والدور السياسيين للطبقة العاملة. ولكن هذا الدور – كما سبق وأن ذكرنا – ليس مباشرًا. وهنا نحب أن نؤكد على بعض الحقائق ذات الأهمية السياسية.
فأولاً: لم يكن ما حدث – كما يدعي الانتهازيون – هو اندثار للطبقة العاملة، وإنما إعادة هيكلة لها مرتبطة بإعادة هيكلة الرأسمالية المصرية. والتراجع المؤقت في حجم الطبقة العاملة الصناعية مرتبط تلك الرأسمالية، وليس مرتبطًا – في الحالة المصرية – على الإطلاق بما يقال عن اختفاء الصناعة وغيره.
وثانيًا: فأن هذه التحولات قد تزامنت مع تراجع في الحركة العمالية ليس بسبب أي زعم عن النقاء (العمال المصريون اليوم أكثر نقاءًا بأي معيار من العمال الروس أو غيرهم في أوائل القرن)، وإنما لأنها أتت على خلفية شعور عمالي بالهزيمة وتزايد في قمعية جهاز الدولة بعد 1977. فنزوع قسم – وهو محدود – من العمال ناحية الالتجاء إلى أعمال إضافية لم يكن سببًا في تراجع حركتهم وابتعادهم عن النضال. وإنما كان بالأحرى نتيجة لهزيمتهم وعدم قدرتهم في مرحلة بعينها على مقاومة هجوم الرأسمالية الكثيف و المدعم بقوة السلاح. وعمال القطاع العام الذين يلبسون بعد الوردية الجلابية (كدليل على أصولهم الريفية) والذين في حالة تراجع وإحباط اليوم. كانوا هم أنفسهم قبل عشرين عامًا (بل كانوا أكثر التصاقًا بالريف) عندما كانوا يسيرون في مظاهرات ضد النظام في 1975، و1977. الفارق هو تغير الظروف السياسي الذي يغلفهم والذي سمح للتحول في تكوينهم (التقلص في الحجم مثلاً) بلعب دور مدمر وليس مفجر لطاقاتهم النضالية.
وثالثًا وأخيرًا: فإن القوة السياسية للطبقة العاملة المصرية لا تحسب بحسابات العدد وغيرها من المعايير الإحصائية أحادية الجانب، وإنما بعلاقات قوى الطبقات في مصر. فالمجتمع المصري يمر بأزمة عنيفة (تزايد معدلات الاستغلال والإفقار وتزايد قمعية الدولة وإفلاس الطبقة الحاكمة). والسؤال هو: أي طبقة تستطيع قيادة حلف المستغلين والمضطهدين في معركة فاصلة للتغيير ولبناء المجتمع على أسس جديدة؟ هل هي طبقة الفلاحين الفقراء؟ أم طبقة التجار والحرفيين الصغار في المدن؟ أم الطلاب؟ والإجابة هي لا؛ الطبقة الوحيدة المؤهلة لذلك بسبب وضعها في المجتمع، وبسبب وضعية الطبقات الأخرى هي: الطبقة العاملة.