بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عزب «خير الله» و«بير أم سلطان» و«الطحاوي» خارج حسابات الحكومة

في حلقة جديدة من سلسلة الاحتجاجات الاجتماعية التي تعيشها مصر في الشهور الأخيرة، تظاهر العشرات من أهالي عزبة خير الله أمام محافظة القاهرة رافعين لافتات يطالبون فيها المحافظ بحقهم في إدخال شبكة الصرف الصحي في منطقتهم التي تغرقها مياه المجاري منذ شهور وتهدد صحتهم وصحة أولادهم وتحول حياتهم إلى جحيم. ذهبت “الاشتراكي” إلى المنطقة لتتعرف من الأهالي على حقيقة المأساة.

حصار المجاري والقمامة

عندما تستقل “مترو الأنفاق” وتخرج من محطة المعادي سيكون الانطباع الأول لديك أن الرخاء الذى تتحدث عنه الحكومة وارتفاع مستوى المعيشة للشعب المصري حقيقة قاطعة، وأن ما يقوم به أهالي قلعة الكبش وبعض محافظات الدلتا من مظاهرات ضد عدم وجود مساكن أو انقطاع مياه الشرب ما هو إلا حقد طبقي ليس له أساس من الصحة، فالشوارع في المعادي نظيفة هادئة ومنظر الفلل والأبراج الشاهقة يسر الناظرين، ورجال المرور يملأون الشوارع وينظمون حركة السيارات والمارة، ومساحات الخضرة تملأ كل مكان. لكنك إذا قررت الذهاب إلى المربع العشوائي الذي يضم عزب “خير الله” و” بير أم سلطان” و”الطحاوي” التي لا تبعد عن المعادي سوى كيلومترات قليلة، سوف تكتشف أن هناك مصر أخرى على النقيض تماماً من “مصر” المعادي.

“خير الله” و”بير أم سلطان” و”الطحاوي” ثلاث عزب تابعة لحي دار السلام والبساتين يسكنها ما يقرب من أربعة ملايين مواطن، وإذا كنت قادماً من المعادي عليك أن تستقل “الميكروباص” المتجه إلى منطقة “فايدة كامل”، وبعد أن “تحشر” نفسك في إحدى سيارات الأجرة المتهالكة، عليك أن تهيئ نفسك لرحلة العذاب، فرغم أن المسافة لا تتعدى عدة كيلو مترات من المفترض أن يتجاوزها “الميكروباص” في عشرة دقائق على الأكثر، إلا أن ضيق الشوارع والكثافة المرورية والسكانية الرهيبة وعدم وجود عسكري واحد ينظم حركة المرور، كل ذلك يجعل الرحلة لمحطة “الملف” مروراً بمنطقة فايدة كامل ما يقرب من ساعة، وإذا نجحت في الوصول إلى هدفك ولم تنفجر من الغيظ وسط الحر والتراب، وأردت دخول المربع العشوائي الذي يضم العزب الثلاثة فعليك أن تركب قدميك لأنه ليس هناك سيارة يمكنها المرور من الحواري الضيقة الغارقة في مستنقعات المجاري والمغلقة بتلال من القمامة.

عزبة “بير أم سلطان” سميت بهذا الإسم لوجود سور أثري يعود تاريخه لمئات السنين يمتد من حي البساتين إلى حي مصر القديمة. لكن يبدو أن أثر كهذا لم يعرف أو يسمع عنه وزير الثقافة شيئاً، فالسور محاط بأكوام الزبالة التي تكاد تغطي نصفه، إضافة إلى اتخاذ الباعة الجائلين منه حائطاً لعرض بضاعتهم خاصة أنه ملاصق لموقف الميكروباص، وعلى بعد أمتار قليلة من السور يقع نفق “الحرائق” تحت الكوبرى الدائري، والأهالي يسمونه بهذا الإسم لأنه عبارة عن “مقلب قمامة” يقوم الزبالون بإشعال النار فيه يوميا مما ينتج سحابة دخان تخيم على المنطقة بأكملها.

أثناء التجول في عزبة “بير أم سلطان” شعرت بالجوع، ففكرت في شراء “سندوشات” فول وطعمية من محل على ناصية الشارع، ورغم أن المحل تقف أمامه مباشرة بركة من مياه المجارى وبجواره تل من القمامة، مما جعلنى أفكر قليلا، لكن الجوع كافر ومازال أمامي مشوار طويل داخل المنطقة. كنت الوحيد الذي يشتري من الست “سعاد سيد أحمد” صاحبة المحل، وعندما سألتها “هيه الميه دي واقفة كده من امتى؟”، قالت “من سنين… إحنا حالنا وقف… لا فيه بيع ولا شراء، مين حيشتري من محل أكل واقف قدامه القرف ده، وجنبه الزبالة دى؟!”. إحدى السيدات كانت واقفة بجوار الست سعاد فقالت “احنا بيتنا حيقع، الحيطان اتشققت، والعيال جالهم أمراض من مية المجاري والزبالة اللى عايشين فيها”. ومواطن آخر من سكان المنطقة قال “إحنا بندفع فلوس النظافة على فاتورة الكهرباء، 15 جنيه للمحلات، و3 جنيه للبيوت، وعمرنا ماشفنا عربية النظافة دخلت الشارع بتاعنا، واللى عايز يشيل زبالته لازم يدفع 3 جنيه تانين للزبال، يعني من الآخر الحكومة بتفرض علينا إتاوة ..!”، وعندما سألت أحد المواطنين “هل يوجد مكتب صحة فى المنطقة؟” أجاب “أيوة، عارف كوم الزبالة اللى هناك ده… العمارة اللى قدامه بالظبط !!”، ذهبت للسيد موظف مكتب الصحة وسألته عن مشكلة القمامة والمجاري واجراءات الوزارة لمقاومة ذلك باعتبارها مسئولة عن صحة المواطنين، قام السيد الموظف بفتح كراسة من أمامه على المكتب وأخذ يقرأ علي إشارة من وزارة تفيد “ممنوع إعطاء أي بيانات أو معلومات لأي شخص، دون موافقة كتابية من إدارة الشئون القانونية بمديرية الصحة !”. وأغلق الكراسة ونظر إلي وقال “خلص الكلام”.

وصلت لعزبة “الطحاوي” وفكرت في شراء علبة سجائر من محل البقالة الوحيد الموجود في الشارع الذي أسير فيه، لكني كنت على الجانب الآخر من الشارع ويفصلنى عن المحل بحر من المجاري، لكن كان على بعد عدة أمتار معبر من الأحجار وضعه الأهالى لعبور الشارع، المهم وصلت للمحل، وبعد أن اشتريت السجائر سألت البائعة “انتي بتعرفي تبيعى إزاي وسط الميه دى ؟” قالت منفعلة “احنا لا عارفين نبيع ولا نشترى، أنا قفلت المحل لمدة شهر، لأن مية المجاري وصلت لباب المحل، وما فيش زبون حيجى يقف في مية المجارى علشان يشترى حاجة !”.

الوضع في عزبة خير الله أكثر مأساوية، فلا يوجد في نصف العزبة تقريباً صرف صحي من الأصل، والنصف الثاني ينضم إلى مأساة “بير أم سلطان” و”الطحاوي”، فشبكة المجاري التي أنشأها الأهالى بالجهود الذاتية تهالكت بفعل الزمن والنمو السكاني، فأينما تسير تجد المياه تتدفق من المناطق الأعلى إلى المنخفضة مكونة مستنقعات من المجاري وسط المساكن.

العمل وسط المجاري

إذا كان أهالي العزب الثلاثة يقضون النصف الثاني من يومهم وينامون في بيوت تحيطها المجاري، فمن يعمل منهم بالمنطقة الصناعية الملاصقة للعزب يقضي يومه بالكامل وسط المجاري.

المنطقة الصناعية بحي البساتين من أشهر المناطق التي تقوم بتصنيع الرخام، حيث تحوي عشرات المصانع التي تضم ما يقرب من ثلاثة آلاف عامل معظمهم من أهالى عزب “خير الله” و”الطحاوي” و”بير أم سلطان”، وقد أغلقت أبواب العديد من هذه المصانع بعد أن غمرتهم مياه المجاري وأتلفت المعدات والآلات، وما ظل منهم مستمراً في العمل أصبح عماله يقضون فترة العمل، التي تتجاوز العشر ساعات يوميا وسط مياه المجاري، والمخاطر هنا لا تتوقف عند الأمراض التي قد تسببها هذه المياه، ولكن العمال معرضون طوال الوقت للصعق بالكهرباء نتيجة الأسلاك الملقاه وسط المياه، فيكفي أن تتسلل الكهرباء من أحد الأسلاك إلى المياه لتصبح مذبحة لعشرات العمال. إذا كان هذا هو الحال داخل المصانع والورش، فما بالك بالوضع في الشوارع المحيطة بها، “فبرك” المجاري كما يقول العمال وأصحاب المصانع تعوق دخول السيارات التى تحمل المواد الخام إلى المنطقة وتلك التي تحمل المنتج خارجها.

وعندما تقدم أصحاب المصانع بشكوى لرئيس الحي، طالبهم بتحمل جزء من تكلفة الإصلاح التي وصلت إلى خمسة ملايين جنيه.

عند خروجنا من المربع العشوائي، في طريق العودة مررنا مرة أخرى بحي المعادى أو “معادي الثريات” كما يسميها أهالي “معادي العشش” أخذ صديق لي يعرفني على معالم المنطقة “هنا يسكن السفير الإسرائيلي… وهنا يسكن مدير أمن القاهرة… وهنا يسكن العديد من الوزراء…”، فقلت له هؤلاء هم من تهتم بهم حكومة نظيف بإدخال المرافق الكاملة “اللوكس” في معادي الثريات، وفي نفس الوقت تهمل عزبة “خير الله” و”بير أم سلطان” و”الطحاوي”، لأن سكانها هم الست سعاد بياعة الفول والطعمية، وعم إبراهيم الصنايعي، وأحمد العامل بمصنع الرخام… وغيرهم من الفقراء.