بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ماذا بعد في السودان؟

مفاوضات إثيوبية تشير إلى الحديث عن تشكيل مجلس رئاسي نصف مدني نصف عسكري، مما يعني عمليًا مشاركة قوى الحرية والتغيير في مجلس يقوده فعليًا جنرالات مذبحة الخرطوم، وعلى رأسهم حميدتي والبرهان. كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟

كان اعتصام القيادة العامة من أكبر وأنجح الاعتصامات الجماهيرية في تاريخ السودان الحديث، وكان بالفعل تتويجًا لموجة ثورية عارمة من المظاهرات والإضرابات والاعتصامات المحلية في مختلف أنحاء السودان. وعندما ماطل المجلس العسكري وأصبح واضحًا أن ضغط الاعتصام لم يكن كافياً وحده لإجباره على تسليم السلطة، كان أمام قيادات الاعتصام أحد خيارين: إما الرضوخ لموقف المجلس العسكري في المفاوضات والموافقة على شكلٍ ما من أشكال المشاركة في السلطة مع العسكر، أو التصعيد الثوري لفرض أمر واقع جديد على المجلس العسكري مما تمثَّل عملياً في تنظيم إضراب عام يشل النظام السوداني تماماً.

هنا ظهرت على الفور التباينات والشروخ بداخل ذلك التحالف الواسع المسمى بالحرية والتغيير، والذي يضم غالبية فصائل المعارضة السودانية. فيمين الجبهة، الذي يمثِّله بجدارة حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي، وقف ضد الدعوة للإضراب العام بحجة الخوف من الفوضى والمزيد من التمزق في السودان، إلى آخره من الأكاذيب التي تخفي وراءها رعب البرجوازية السودانية من التصعيد الجماهيري الثوري. ولكن يسار التحالف، المتمثِّل في الحزب الشيوعي ودوائر نفوذه في تجمع المهنيين والحركات العمالية والطلابية، تمكَّن من تسييد فكرة الدعوة للإضراب العام مع تنازل واحد فرَّغ الدعوة عمليًا من مضمونها الثوري وهو أن الدعوة التي خرجت للجماهير كانت دعوة لإضرابٍ مؤقَّت لمدة يومين فقط. وما بدا أنه حلٌّ وسط بين اليمين واليسار، كان عملياً تنازلاً ضخماً لليمين ولرغبته بالعودة للمفاوضات مع العسكر.

الإضراب العام سلاحٌ جبَّار في الثورات، ولكن فقط إذا كان يطرح قضية السلطة. ففي اليونان على سبيل المثال، نظَّمت النقابات العمالية عشرات الإضرابات العامة المؤقتة ليومٍ واحد لكلٍّ منها، دون أن يجبر ذلك الدولة والرأسمالية اليونانية على التراجع عن سياسات التقشف. الإضراب العام السياسي المفتوح يطرح على الفور مسألة السلطة. فكيف ستنتظم الحياة خلال الإضراب؟ كيف سيتمكَّن منظمو الإضراب من تلبية الإحتياجات اليومية وتقديم الخدمات الأساسية للجماهير المضربة؟ كيف سيدافع العمال والمهنيون المضربون عن أماكن عملهم؟ وعن اعتصاماتهم وتنظيماتهم؟ هكذا فقط يمكن للإضراب العام أن يكون مقدمة لما يسمى بازدواجية السلطة -أي أن تتحوَّل القيادات الديمقراطية للجان الإضراب والاعتصام إلى سلطة بديلة تتحدى النظام القديم من جذوره.

ولكن وعلى الرغم من محدودية الدعوة للإضراب العام المؤقت، فقد جاءت استجابة الطبقة العاملة السودانية لتذهل الجميع. نجح الإضراب في إحداث شللٍ تام في البلاد فتوقَّفت المطارات والموانئ والسكك الحديدية والنقل العام والمصانع وحتى الكهرباء والبنوك. وقد أظهرت الطبقة العاملة السودانية درجاتٍ من الوعي والتنظيم والوحدة والقدرة على تحدي النظام فاقت كل ما رأيناه من مشاركة الطبقات العاملة خلال ثورات 2011. الجماهير السودانية أثبتت أنها مستعدة أن تأخذ المعركة مع العسكر إلى النهاية، وإلى إحداث نقلة نوعية في الثورة السودانية. ولكن القيادات السياسية المتمثلة في قوى إعلان الحرية والتغيير خذلت الجماهير الثائرة، فبدلًا من الدعوة لتصعيد الإضراب وتحويله إلي إضراب مفتوح حتى إجبار المجلس العسكري على الاستسلام، أوقفوا الإضراب ودعوا الناس للعودة إلى العمل دون تحقيق أي تنازلات من المجلس العسكري.

كان وقف الإضراب بمثابة دعوة للثورة المضادة بالتصعيد من جانبها، فجاء على الفور الفض الدموي للاعتصام. ورغم وحشية الفض وحملة القتل والاغتصاب والاعتقالات، فعندما دعا تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير لعصيانٍ مدني شامل، مرة أخرى لبَّت جماهير الطبقة العاملة السودانية، وحتى قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى والبورجوازية الصغيرة، النداء رغم المخاطر ورغم التهديدات، ولكن مرة أخرى تعلن القيادة السياسية إنهاء الاعتصام دون أي تنازلات من العسكر! هذا الأداء للقيادات السياسية ليس مجرد أخطاء في التقدير، وليس أيضاً جديداً على السودان. اليمين لا يريد الثورة بل يستخدمها كأداة ضغط ليقبل العسكر مشاركته في السلطة، واليسار رغم النضالية والمبدئية لا يريد التخلي عن اليمين البرجوازي بحجة الإبقاء على الجبهة الوطنية. القوى البرجوازية الليبرالية ينتهي بها الأمر في ذيل جنرالات الثورة المضادة، واليسار ينتهي به الأمر متذيلاً لتلك القوى البرجوازية، والنتيجة خيانة الجماهير وهزيمة الثورة.

المعركة في السودان ليست سهلة فالثورة لا تواجه فقط العسكر وميليشياته وأجهزته الأمنية، بل تواجه أيضًا من وراء هؤلاء مثلث الثورة المضادة في المنطقة من النظم الحاكمة في السعودية والإمارات ومصر، بأموالهم ومخابراتهم ومخططاتهم. ولكن الجماهير السودانية أثبتت مرة تلو الأخرى أنها قادرة على التحدي والصمود والنصر. ما يحتاجونه لتجاوز الهزيمة الحالية هو تشكيل كيان سياسي مستقل عن البرجوازية السودانية والأحزاب التقليدية. كيان يعبر عن وعي وطموحات الجماهير الثائرة وليس مخاوف وتردُّدات ومصالح الصادق المهدي وأمثاله. حميدتي وبرهان يريدان حكومة يشارك فيها العسكر مع رموز من قوى إعلان الحرية والتغيير لتفريغ الثورة من مضمونها وللتغطية على حملة القمع والتي تستهدف الحركة العمالية والمهنيين وكل القوى السياسية التي ترفض المساومة، تمامًا كما كانت الحكومة التي شُكِّلَت في مصر في أعقاب انقلاب يوليو 2013. يجب فضح ووقف هذا المخطَّط بكل الوسائل الممكنة وإلا سيكون مصير الثورة السودانية تكرارًا للمأساة المصرية.