بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

السودان: الثورة المضادة في سطور الاتفاق

اتسمت العملية السياسية في السودان في الأشهر السابقة بسرعة صاروخية في تطور أحداثها وتغير مواقف اللاعبين الأساسيين. هذه السرعة بالاضافة إلى غياب المعلومة الواضحة من مكونات القيادة السياسية شكلت مناخًا من الارتباك في التحليل وغياب البوصلة بين الجماهير وقيادتها كذلك.

في أقل من ثلاثة أشهر رأينا نفس الأجسام والقيادات تصف المجلس العسكري الانقلابي بالمجرم ومنفذ المجازر، ومن ثم تنزع عنه صفة “الانقلابي” فتشاركه وتنصرف لتشكيل حكومة تحت سيادته، حميدتي أيضًا لم يعد مجرمًا وقائد ميليشيا مجرمة بل هو الآن رفيق أحمد ربيع في توقيع الاتفاقيات ومليشياته تُرسَل لحفظ الأمن في بورتسودان، التفاوض المباشر كان مرفوضًا بل حتى غير المباشر كان مرهونًا بشروط سحب المظاهر العسكرية وإعادة الإنترنت وإطلاق سراح المعتقلين، ومن ثم عادوا للتفاوض بينما الجنجويد في الشوارع وتواصل انقطاع الانترنت لأيام بعدها “لتقديرات امنية” كما ذكرت متحدثة قحت نقلًا عن المجلس العسكري.

تخبط وتبدل في المواقف يوحي بأن كل شئ عرضة للمساومة، والتفسير الدائم والأقرب بأن “دي السياسة”.

فلنبدأ إذن بهذ الجملة، “دي السياسة”، وهي جملة صحيحة خاطئة. فالسياسة هي عملية إدارة موارد الدولة واحتياجات المواطنين من خلال ترتيب الأولويات. سياسة عمر البشير مثلًا كانت سمتها تقديم الحفاظ على السلطة كأولوية، فكان الصرف على الأجهزة الامنية والقوات النظامية واللانظامية المُسخَّرة لقمع اي مظاهر رفض للنظام أولوية مقدمة على توفير الخدمات للمواطنين او حتى درء الكوارث، وكان تبدل المواقف من القضايا الدولية بناءً على الهبات ولمنح والقروض التي تصرف على تثبيت النظام شيئًا عاديًا، بل وحتى تبدل الموقف من الأطروحات المبدئية والمشروع الحضاري للجبهة الإسلامية والذي تنصل البشير في آخر ايامه حتى من آخر مظاهره الممثلة في قانون النظام العام فطالب بمراجعته ظنًا منه أن ذلك كافٍ لشراء ود المواطنين ليتراجعوا عن النضال السلمي في الشوارع فيحافظ هو على نظامه وسلطته. كانت هذه سياسته وهي ليست كل السياسة.

عندما ننظر لموقف القيادة السياسية للمعارضة علينا أن نقرأ منه سياستها كذلك، لأن هذه “سياستهم” وهذا هو الجزء الصحيح من الجملة، ولكنها -أيضاً- ليست كل السياسة وهنا يظهر خطأ الجملة اياها.

من الطبيعي ان يحتمي التاجر الفاسد عند تحايله على المشترين واستغلال حوجتهم ورفع السعر بأن “دي التجارة” ويحاول تطبيع الغش ليتفادى المساءلة، كذلك من الطبيعي ان يحتمي السياسي المتلون او الانتهازي بجملة مشابهة تنفي إمكانية برنامج سياسي مبدئي ومتسق مع أولويات المواطنين ليتفادى المساءلة او مواجهة فساد مذهبه.

علينا إذًا أولًا محاربة ورفض جملة “دي السياسة” مطلوقة هكذا دون تحليل نوع السياسة المتبعة، وما تحمله من مفاهيم تجعل من المبادئ والمطالب والنضال الجماهيري كارت ضغط في سبيل الوصول إلى السلطة يمكن تبديله بالدعم الأجنبي أو اقتسام السلطة أو غيرها من الأدوات.

علينا تحديد سياستنا التي نريد، أي أولوياتنا التي نريد، لنتمكن من تقييم المواقف والخيارات السياسية حسب امكانية تحقق أولوياتنا من خلالها، وحينها ستكون قائمة أولوياتنا الواعية بمصالح المواطنين هي درعنا في وجه مختلف أشكال التلاعب أيًا كان مصدرها ومسوقها. علينا صيانة بوصلتنا السياسية لمواجهة مناخ الارتباك وتقلب المواقف.

ما هي أولويات الثائر/ة السوداني/ة إذًا؟ وبصيغة اخرى على ماذا ثُرنا ومن أجل ماذا نعمل؟ لا أظنني أتحدث عن نفسي فقط عندما أقول إن الحرب والتردي الاقتصادي واستغلال المواطنين ونهب مواردهم تأتي على رأس ما رفضناه وعبرنا عن رفضنا له بالالتزام بالاحتجاجات في الشوارع والإضرابات والعصيان وغيرها من أدوات النضال. وبالمقابل سعينا باحتجاجاتنا وثورتنا للعمل من أجل توفير حياة كريمة لجميع المواطنين، ببساطة، حياة كريمة أي خالية من حروب الدولة ضد المواطن، خالية من نزع أراضي المواطنين لصالح مستثمرين ومشاريع لا يستفيد منها إلا ملاكها ودونما اعتبار لإنهاكها بيئتنا ومواردنا، حياة كريمة حيث التعليم والصحة حقوق لا مساومة فيها ولا نقاش في مجانيتها التي تكفل لكل مواطن فرص متساوية في الحياة، حياة كريمة بحد أدنى للأجور لا نصبح معه فقراء رغم عملنا ولا تضطرنا لبيع أنفسنا كمرتزقة لحروب السعودية والإمارات لا لشئ سوى لانتزاع أسرنا من الفقر، حياة كريمة لا يحق فيها للأجهزة الامنية اعتقالنا تعسفيًا وتعذيبنا بل وقتلنا بلا رادع.

الحياة الكريمة لكل مواطن هي الهدف إذًا وارتأينا في الدولة المدنية وسيلة للوصول لهذا الهدف، ببرلمانها الذي يحقق شعار “السلطة للشعب”، بحكومتها التنفيذية المختارة حسب كفاءتها والتزامها بتنفيذ مشاريع وبرامج تخدم المواطنين أولًا، وبسلطتها القضائية المستقلة والقادرة على تنفيذ حكم القانون على الجميع. عندما ثرنا على نظام البشير لم تكون ثورتنا سوى ليقيننا باستحالة تحقق الحياة الكريمة تحت حكمه، ولم تكن صرختنا “مدنياااو” سوى ليقيننا بأنها الوسيلة التي اخترناها للوصول لهذه الحياة الكريمة.

في مجمل سعينا نحو هذا الهدف رفضنا تنازلات البشير بإبعاد بعض القيادات ووعوده الفارغة لعلمنا أن نظامه في جوهره يتكسب من التلاعب بموارد الدولة وسلب حقوق مواطنيها بشكل يفقده الإرادة السياسية لتحقيق الحياة الكريمة للمواطنين. في سودان تتوفر فيه مجانية الصحة ماذا يفعل وزير الصحة السابق بولاية الخرطوم ومالك عدد من المؤسسات الطبية مأمون حميدة باستثماراته في صحة المواطن؟ في نظام يتعامل مع الموارد المعدنية للبلاد كملك عام يجب أن ترجع عوائده لخزينة الدولة لتصرف على خدمات للمواطنين من أين لحميدتي بجبل عامر (وهي منطقة بشمال دارفور، غرب السودان، غنية بالذهب وتسيطر على عمليات التعدين فيها شركة الجنيد التابعة لقوات الدعم السريع ومملوكة رسمياً لعبدالرحيم حمدان دقلو شقيق “حميدتي”) ونسبته الثابتة في كل شركات التعدين؟

وعينا باستحالة الحياة الكريمة تحت هذا النظام أو من يحمل فكره حملنا لرفض ابن عوف كذلك.

ومن ثم ظهر التفاوض مع اللجنة الأمنية، وقبلناه كوسيلة وبقي رفضنا وقبولنا لمخرجاته مربوطًا بمدى إمكانية تحقق الحياة الكريمة من خلالها. فرفضنا مثلًا تضمين الكيزان في عضوية المجلس التشريعي، فكيف لمجلسنا التشريعي الذي يفترض فيه وضع وإجازة التشريعات التي تحقق مصالح المواطنين أن يضم بين عضويته أفراد نعلم بتضاد مصالحهم الاقتصادية مع مصالح المواطنين؟

مر التفاوض بمراحل وتقلبات كثيرة وسريعة وكثرت التحليلات حول صحة المواقف أو ضعفها او حتى خيانتها لأهداف الثورة ومبادئها. ونتج عنه اتفاق كان الدفاع عنه يأتي ممهورًا بمبررين أساسيين:

1) أن الاتفاق هو الوسيلة الوحيدة لحقن الدماء.
2) أن الاتفاق رغم نواقصه قادر على إيصالنا نحو أهدافنا النهائية بتحقيق الحياة الكريمة للمواطنين والحرية والسلام والعدالة.

المبرر الأول في حقيقته مجرد تزيين لقبول اتفاق تحت تهديد السلاح، وهو في جبنه ولا منطقيته غير جدير بالنقاش اصلًا، ففي وضع لا يحمل فيه السلاح سوى طرف واحد يدبر وينفذ المجاز ضد المعتصمين السلميين فلا يثنيهم عن مطالبهم بل يزيدهم صلابة وعددًا كما أثبتنا في مليونية 30 يونيو، في مثل هذا الوضع يصبح استخدام جملة “حقن الدماء” مجرد تزيين للجبن والخضوع لتهديدات المجلس العسكري. وليس الثوار بجبناء.

فلننظر إلى المبرر الثاني إذًا، الاتفاق الناقص مع شريك مجرم كوسيلة قادرة على تحقيق أهداف الثورة. ولنُعمِل فيه بوصلتنا المبنية من أولوياتنا وأهدافنا ولنتذكر أن الدولة المدنية ليست سوى وسيلة في هذا السياق لتحقيق الحياة الكريمة. إذًا تنتفي صفة المنطق من أي محاولة لوصف الاتفاق بالجيد فقط لكونه أتى بحكومة تنفيذية شبه مدنية، علينا أن نثبت او ننفي قدرتها على تحقيق الهدف “الحياة الكريمة” لنثبت أو ننفي إيجابية الاتفاق وما نتج عنه.

فلنبدأ بالحرب، هل يمكن لمؤسسة الجيش السوداني وجنجويدها إذا ما تُرِكَت لإصلاح نفسها بنفسها كما نص الاتفاق أن تتوقف بنفسها عن نزع أراضي المواطنين وافتعال الحروب لتهجيرهم من مناطقهم والتي تصبح فيما بعد شريكًا للمستثمرين فيها متربحةً من مآسي النازحين ودماء القتلى؟

إجابتنا على هذا السؤال ووضع إيقاف الحرب في ترتيب أولوياتنا ستكون مؤشر أساسي في قبولنا لهذا الاتفاق ونتائجه أو رفضنا له. الاجابة بالنسبة لي (لا) كبيرة جدًا، لن توقف المؤسسة العسكرية استثماراتها بنفسها، لن تتوقف الحروب ولن يتوقف التهجير إذًا، ومادام إيقاف الحرب أولوية مبدئية بالنسبة لي يبقى الاتفاق والحكومة الناتجة عنه مرفوضين جملةً وتفصيلًا.

فلننتقل للتردي الاقتصادي، والتردي الاقتصادي ناتج عن خلل في ترتيب أولويات الصرف وفي تخطيط الاستثمارات. لتتمكن الدولة من توفير حقوق المواطنين في التعليم والصحة المجانية وتوفير البنى التحتية من طرق وشبكات مياه وكهرباء وغيرها عليها أن تعكس وضع الموازنة السابقة والذي كان للأجهزة الامنية فيه نصيب الأسد وتناقص نصيب الخدمات فيها حتى وصل الأمر في موازنة 2018 أن يكون مجموع الإنفاق على التعليم 5.3 مليار جنيه مقابل 23.9 مليار على الدفاع والأمن، مع العلم أن ثلث هذا الإنفاق الضئيل على التعليم يذهب إلى مؤسسات التعليم التابعة لوزارة الدفاع وجهاز الأمن أيضًا. عليها أيضًا أن تراجع العقود الأجنبية من استثمارات زراعية مهولة للإمارات والسعودية والصين وغيرها والتي لا تعود على الدولة السودانية والمواطن السوداني بمنفعة بل تعرض البلاد لخطر الفقر المائي في المستقبل القريب نتيجة استنزافهم للمياه الجوفية دون رقابة، أو استثمارات التعدين مع العلم أن الأجهزة الأمنية من جيش ودعم سريع وجهاز أمن شركاء في معظم إن لم يكن كل شركات التعدين العاملة بالسودان. عليها أيضًا أن توقف تلاعب جهاز الأمن في السوق عبر ذراعه الاقتصادي لتتمكن من السيطرة على أسعار السلع الأساسية.

المصلحة الاقتصادية للمواطن اذا في تضاد صارخ مع مصالح الأجهزة الأمنية -التي ينص الاتفاق على أن تصلح نفسها بنفسها كما ذكرنا- ويتطلب تغيرات عميقة في سياسات وزارتيّ الداخلية والدفاع، وهما الوزارتان اللتان نص الاتفاق على أن يتم تعيين وزرائهم من قبل المجلس العسكري، كما يتم تعيين مدير جهاز الأمن من قبل ذات المجلس العسكري.

المصلحة الاقتصادية للمواطن في تضاد أيضًا مع مصالح الدول الراعية للاتفاق في السودان. مصلحتنا الاقتصادية تستوجب مراجعة استثماراتهم في مواردنا ومصلحتهم تقتضي بقاء الوضع على ما هو عليه. مصلحتنا الاقتصادية تستوجب أيضًا مراجعة القروض التي استدانها النظام السابق ولم يصل للمواطن منها شئ وهو ما لن يقبل الدائنين والاتحاد الأوروبي مناقشته اصلًا لما فيه من خطر على موازين القوى المنتصرة لصالحهم حاليًا بسيطرتهم عبر الديون على سياسات الدول المُفقرة.

مع استحالة تنفيذ تغيرات جذرية على السياسة الاقتصادية للبلاد دون تهديد مصالح العساكر وحلفاءهم الدوليين ومع تقييد يد الحكومة القادمة عبر الاتفاق الذي يضمن للعساكر استمرار سيطرتهم على الأجهزة الامنية، لا يتبقى للحكومة وليدة الاتفاق إلا أن تواصل سياسات النظام السابق بالاقتراض من الخارج من جهة وسلب حقوق المواطنين في مجانية التعليم والصحة ودعم السلع الأساسية من جهة أخرى. وهو ما اتضح لنا فعليًا من حديث رئيس الوزراء حمدوك عن الحوجة لقروض خارجية وحديث محمد حسن التعايشي عضو مجلس السيادة الحالي عن رفع الدعم عن البنزين، قبل أن يذكر أيًا منهم وغيرهم من عضوية الحكومة ومجلس السيادة أي إصلاحات اقتصادية تواجه جوهر مشكلة الصرف الأمني والاستثمارات الاستعمارية.

الاتفاق والحكومة الناتجة عنه إذًا يصنعان مناخًا يستحيل فيه الإصلاح الاقتصادي لصالح المواطنين.

عليه وإن كانت الحياة الكريمة وتحسين الوضع الاقتصادي للمواطن أولوية مبدئية بالنسبة لنا، وهي كذلك بالنسبة لي، يصبح الاتفاق والحكومة الناتجة عنه مرفوضين من هذا المنطلق كما كانوا من من منطلق أولوية وقف الحرب.

يمكننا تنزيل هذا المقياس/البوصلة على مجمل مطالبنا أيضًا، فهذا المنهج في التقييم سيبعدنا عن ضبابية التمسح بأستار الأدوات والتي قد تجعل البعض يسعد بمجرد الوصول لاتفاق أو بمسمى دولة مدنية يتحدث رئيس وزرائها الانجليزية، لنمسك بقلب المعضلة في أنه في حقيقته اتفاق يتضاد في جوهره ومصالح الملتفين حوله مع مصالح المواطن التي لم نخرج للشوارع إلا انتصارًا لها.

علينا أن نتذكر أننا لم نناضل من أجل تبديل البشير بوجوه جديدة على رأس ذات نظام القهر والفقر والحرب، بل كان وما زال نضالنا ضد هذا النظام في مجمله لكسر دائرة القهر والفقر والحرب وهو ما لا يمكن لحكومة الاتفاق منطقياً -وكما اتضح لنا- أن تفعله.

علينا ان نُذَكِّر هذه الحكومة بذلك أيضّا، نذكرها بمطالبنا وأولوياتنا، نذكرها أن الحرب بالنسبة للمواطنين تتوقف عندما يعود النازحين لقراههم ومدنهم وأراضيهم المنتزعة، بأن تحسين الوضع الاقتصادي لن يكون على حساب دخل المواطن وحقوقه بينما حرامية مواردنا يجلسون بمجلس السيادة ويفتتحون قنصلياتهم العسكرية في أراضينا. فإن استطاعت هذه الحكومة بعصًا سحرية أن تنتصر لمصالح المواطنين وهي تحت اتفاق وُضِع لمنع ذلك، كان به، وأن لم يكن -وهو المتوقع والمنطقي- تواصل نضالنا في رفض سياسات البشير وإن جاءت تحت اسم جديد وبوجوه جديدة.

علينا ان نُذَكِّر أيضًا كل من يطالبنا ببذل دعمنا للحكومة مطلقًا ودون شروط بذريعة محاربة الكيزان أو الاطراف الثالثة الخفية أو عدم فتح ثغرات للثورة المضادة، بأن لنا مطالب وأولويات خرجنا من أجلها ولا تنازل فيها. أما الكيزان الجدد مثلهم مثل الكيزان القدامى فهم من يبررون تجاوز مطالب المواطنين من أجل تثبيت نظام أو سلطة. والثورة المضادة بتعريفها كأفعال تعمل ضد أهداف الثورة وجهات تتعارض مصالحها مع أهداف الثورة، إن اتفقنا على هذا التعريف فالثورة المضادة إذن تقبع بين سطور الاتفاق وداخل القصر الجمهوري لا بين صفوف الثوار.