خداع دعاية النظام عن التضخُّم: نحو تقدير حقيقي للحد الأدنى للأجر

“معدل التضخُّم في انخفاض مستمر وسيؤدي ذلك إلى استقرار الأسعار مع تحسن تدريجي لمستوى المعيشة”، قالها وزير المالية الحالي محمد معيط في فبراير الماضي، وسبق هذا التصريح تصريح رئيس الوزراء السابق في مايو 2018: “إن الفترة الأخيرة شهدت تحسنًا فى عدد من المؤشرات الاقتصادية، أبرزها زيادة إيرادات السياحة وعائدات قناة السويس والصادرات، وانخفاض الواردات وتراجع التضخُّم إلى 13.1% خلال مارس الماضي مقابل 34.2% فى يونيو 2017″، وسبقه تصريحٌ للسيسي في سبتمبر 2017: “مصر وضعت هدفًا لها تمثل فى خفض معدلات التضخُّم لما يقرب من 13% فى عام 2018″، وغيرها من التصريحات المشابهة في هذا الشأن التي نقرأها ونسمعها بشكل دائم في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة من قِبَلِ رجال الحكومة وأبواق النظام الإعلامية، وترتكز هذه التصريحات أو هذه الدعاية على قياس التضخُّم العام الذي يقوم به الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
توحي هذه التصريحات للمواطنين العاديين أن الحكومة تسعى لخفض الأسعار، فكلما أعلن المسئولون عن استهداف معدل أقل للتضخُّم، مثَّل هذا للمواطنين آمالًا في أن الأسعار سوف تنخفض، وكلما أعلنوا أن معدل التضخُّم قد انخفض أوحى هذا أن الأسعار قد انخفضت بالفعل، ولكن على أرض الواقع فإن هذه المعدلات قد تنخفض في حين تظل الأسعار في ارتفاع! جزءٌ هام من حل هذا التناقض هو أن دعاية النظام عن معدل التضخُّم المبنية على طريقة قياسه، تحمل أو تخفي بداخلها تفصيلة حسابية بسيطة دائمًا ما تُستخدَم بغرض الخداع.
الخدعة
يقيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حركة المستوى العام للأسعار باستخدام مؤشر اسمه “الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين”، ويُصدر نشرة شهرية تحمل قيمة هذا المؤشر، وتعبر قيمة المؤشر –بشكل عام، دون التطرق لتفاصيل ومراحل القياس التي تستدعي النقد أيضًا- عن القياس النسبي للمستوى العام للأسعار بين شهر “أ” وشهر “ب” أو “جـ” أو “د”.. وهكذا، حيث يمثل شهر “أ” فترة الأساس أو الفترة التي يتم النسب إليها وعلى سبيل التوضيح فالمقصود بهذه الفترة هو شهر يناير 2010 الموجود في الجدول التالي، وتمثل الشهور “ب” و”جـ” و”د” فترات المقارنة أي التي تُقارَن بفترة الأساس أو التي يتم نسبها إلى فترة الأساس، وعلى سبيل التوضيح فإن هذه الشهور هي يناير 2011 ويناير 2012 ويناير 2013 في الجدول رقم 1.
ولتوضيح ذلك أكثر، فلنفترض –كمثال تقريبي- أن مؤشر “الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين” هو قطار، وأن فترة الأساس “أ” هي المحطة الأولى التي ينطلق منها القطار، وأن شهور المقارنة “ب” و”جـ” و”د” هي المحطات الأخرى التي يصل إليها القطار، وأن قيمة المؤشر هي الإزاحة التي يقطعها القطار من المحطة الأولى إلى أي محطة أخرى.
أما عن “معدل التضخُّم” أو عن دعاية النظام المبنية على قياس “معدل التضخُّم”، فهنا تكمن الخدعة، إذ يقوم الجهاز المركزي للإحصاء بحساب معدل تضخُّم “سنوي”، أي بحساب التغير النسبي في قيمة مؤشر “الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين” في آخر سنة فقط، أي أن الجهاز يقوم بقياس التغير النسبي في قيمة المؤشر بين ما سجلته في شهر ما في سنة ما وقيمته في نفس الشهر من السنة السابقة لهذه السنة، وعلى السبيل التوضيح فإن معدل التضخُّم السنوي في يناير 2013 والبالغ 6.6% محسوب بمقارنة الرقم القياسي في يناير 2013 بمثيله في يناير 2012 وتم نسب هذا الفارق بين الرقمين إلى قيمة المؤشر في يناير 2012، ليصبح يناير 2012 هو فترة الأساس وليس يناير 2010، وهكذا فإن معدل التضخُّم السنوي في يناير 2012 محسوب على أساس يناير 2011 وليس يناير 2010.
وما يحدث في دعاية النظام بخصوص التضخُّم، هو أنه يجري استخدام قيمة “معدل التضخُّم السنوي” أي المحسوب مقارنة بنفس الشهر من السنة السابقة مباشرة والمنسوب إليه، ولا يتم استخدام “معدل التضخُّم” المحسوب مقارنة بشهر الأساس والمنسوب إليه، أو لايتم استخدام قيمة “الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين” المنسوب بالطبع لفترة الأساس، ويقوم النظام باستخدام “معدل التضخُّم السنوي” بصيغة مطلقة شديدة التعميم أي لا يُعلن أن هذا القياس يخص فقط السنة الأخيرة من التضخُّم، ويقوم باستخدام المقارنات بين معدلات التضخُّم السنوية التي تسجل انخفاضًا، ليعطي للناس العاديين انطباعًا كاذبًا بأنه قد حقق إنجازًا في خفض الأسعار، وليخفي قدرًا كبيرًا من الزيادات في الأسعار السابقة على هذا العام، في حين أنه عمليًا وعلميًا الأسعار في ارتفاع ويظهر ذلك في قيم الرقم “القياسي العام لأسعار المستهلكين”، ويمكننا أن نطلق على هذا العمق من الخداع “خدعة تغيير فترة الأساس”.
نحو قياس أعمق للتضخُّم الحالي
يمكن من خلال نظرة سريعة على الجدول والرسم البياني رقم 2 و3، اللذين سيمكناننا من توسيع مدى رؤيتنا، استدلال أوجه التضليل في دعاية النظام عن التضخُّم والمتمثل في معدلات التضخُّم التي يتشدق بها رجاله، إذ تُقدَّر معدلات التضخُّم في الجدول رقم 2 على أساس يناير 2010، فبالنظر إلى العامود الثالث من جهة اليمين “معدل التضخُّم”، يمكننا رؤية أن الفترة منذ يناير 2010 – ديسمبر 2018 قد شهدت ارتفاعًا في الأسعار بمعدل (معدل تضخُّم) 196.5%، وذلك في الوقت الذي شهد فيه نصفها الأول تقريبًا يناير 2010 – يونيو 2014 زيادة في الأسعار بنسبة 48.3%، ليدلل ذلك على أن النصف الثاني من هذه الفترة يونيو 2014 – ديسمبر 2018، وهي فترة حكم السيسي، قد شهد زيادة في الأسعار 148.2 نقطة مئوية أي زيادة قدرها يساوي تقريبا 3 مرات الزيادة التي شهدها النصف الأول.
وفي هذا السياق فإننا نستطيع أن نتبين الارتفاعات الحادة في أسعار مختلف مجموعات السلع والخدمات في فترة يناير 2010 – ديسمبر 2018 وبالأخص الزيادات الكبيرة في فترة تولي السيسي يونيو 2014 – ديسمبر 2018، والتي كان أكثرها ارتفاعًا مجموعة “الطعام والمشروبات” التي بلغت نسبة الارتفاع فيها 236.8% في الفترة يناير 2010 – ديسمبر 2018، كان منها 194 نقطة مئوية في فترة السيسي، وتلاها مجموعة “النقل والمواصلات” التي بلغت نسبة الارتفاع فيها 166.3% في الفترة يناير 2010 – ديسمبر 2018 كان منها 151.9 نقطة مئوية في فترة السيسي، وتلاها مجموعة “الرعاية الصحية” التي بلغت نسبة الارتفاع فيها 130.9% في الفترة يناير 2010 – ديسمبر 2018 كان منها 100.1 نقطة مئوية في فترة السيسي.
بُعد أعمق من الخداع
استخدمنا في الجزء السابق من المقال قيمة مؤشر “الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين” في يناير 2010 كنقطة البداية والنسب الأكثر اتساعًا وتعبيرًا عن الحركة الفعلية للمؤشر، ويرجع هذا إلى أن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يتخذ من قيمة المؤشر في يناير 2010 فترة أساس للقياس ليبدأ منها رصد التغير في قيمة المؤشر في الفترات التي تليها، وأهم ما يجب الوقوف عليه في هذا السياق هو أن الجهاز دفتريًا وحسابيًا يقدر قيمة المؤشر في يناير 2010 بـ 100 ولكننا عمليًا يمكن أن نعتبرها “صفر” لأنها تستخدم كبداية جديدة للعد والقياس للفترة التي تليها.
وهنا يكمن بعد أعمق في القياس يُستخدَم للخداع، وهو ما يمكننا أن نطلق عليه “خدعة تصفير العداد”، فإن الجهاز المركزي للإحصاء كل فترة أو كل عدد ما من السنوات “يصفر” عداد مؤشر “الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين”، ويبدأ العد والقياس من البداية. ويبرر الجهاز ذلك باعتماده على بيانات “بحث دخل وإنفاق واستهلاك” جديدة وهي بالطبع محددات جوهرية في قياس التضخُّم، إلا أن دعاية النظام لا تتطرَّق إلى هذا العمق بأي شكل من الأشكال، لأن ذلك يساعد النظام بشكل قوي في إخفاء زيادات الأسعار التي سبقت هذه الفترة.
وسنحاول في الجزء التالي من المقال كسر هذا الحاجز الصفري (يناير 2010)؛ لنعمق رؤيتنا وقياسنا لمؤشر قياس ارتفاع الأسعار وبالأخص في علاقته بالحد الأدنى للأجر.
نحو قياس أعمق للتضخُّم وتقدير جديد للحد الأدنى للأجر
في محاولة تقريبية لإعادة تقييم الحد الأدنى للأجر في ظل الارتفاع الشديد في الأسعار، فإننا سنعتمد على الحد الأدنى للأجر الذي طالب به عمال غزل المحلة في مسيراتهم في فبراير 2008 والذي بلغ 1200 جنيه مصري شهريًا في هذا التوقيت أي في تناسبه مع أسعار هذا التوقيت، أي أسعار يناير 2008، وسنقوم بإعادة تقدير هذا المبلغ في ظل ارتفاع قيمة مؤشر “الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين” في ديسمبر 2018.
لكن الإشكالية أن الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين في يناير 2008 محسوب على فترة أساس يناير 2007، والرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين لإجمالي الجمهورية في ديسمبر 2018 محسوب على فترة أساس يناير 2010.
سنعالج هذه الإشكالية وحساب الحد الأدنى للأجر في ديسمبر 2018 عن طريق الخطوات التالية، أولًا سنقوم بحساب نسبة الزيادة في الأسعار في الفترة يناير 2008 – يناير 2010، ثم نقوم بإعادة تقدير الـ 1200 بإضافة نسبة الزيادة إليها، لتصبح القيمة الناتجة هي قيمة الحد الأدنى للأجر في يناير 2010. ثانيًا سنقوم بحساب نسبة الزيادة في الأسعار في الفترة يناير 2010 – ديسمبر 2018، ونقوم بإعادة تقدير الحد الأدنى للأجر في يناير 2010 بإضافة نسبة الزيادة إليه، لنصل بذلك إلى الحد الأدنى للأجر في ديسمبر 2018 والذي بلغ تقريبًا 4608 جنيه مصري شهريًا، حيث شهدت الفترة يناير 2008 – ديسمبر 2018 تضخُّمًا بلغت نسبته 284%.
خاتمة
في سياق السياسات الاقتصادية التي يتبناها وينفذها النظام السياسي الحاكم، تلك السياسات المنحازة ضد العاملين بأجر والتي تدني مستوى معيشتهم يوما بعد يوم، فإنه من المرجح أن تتأجج قريبًا معركة الأجور من جديد، ويتمثَّل ركنٌ رئيسي من أحد أركان جوهر هذه المعركة في علاقة الأجر بالأسعار، وفي هذا السياق فإن معرفتنا بتفاصيل قياس مؤشر التضخُّم وبأوجه التضليل في دعاية وخطاب النظام بخصوصه، ستمثِّل درعًا وسلاحًا للحصول على مطالبنا وحقوقنا.
المصادر:
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء: النشرات الشهرية للأرقام القياسية لأسعار المستهلكين
الصيغة العامة لقياس الرقم القياسي لأسعار المستهلكين
الجهاز المركزي للتعبئة العامة: معدل التضخُّم هو نسبة التغير عن نفس الشهر من العام السابق
جريدة الفجر: وزير المالية: معدل التضخُّم في انخفاض وسيؤدي إلى تحسن تدريجي بمستوى المعيشة
جريدة اليوم السابع: رئيس الوزراء: تراجع التضخُّم لـ13.1% فى مارس مقابل 34.2% خلال يونيو 2017
جريدة اليوم السابع: السيسي: هدفنا خفض معدلات التضخُّم لما يقرب من 13% فى عام 2018
بوابة “الاشتراكي”: عمال “غزل المحلة”: تاريخ مُشرِّف ومستقبل مُقبض